Close ad

محمد إبراهيم الدسوقي يكتب: ثلاثية أفغانستان القاتلة

15-8-2021 | 20:03

إذن فقد استتب الأمر لحركة طالبان الأفغانية، بعدما سقطت الولاية تلو الأخرى في قبضتها بسرعة البرق، إلى أن فازت بدرة التاج، العاصمة كابول، التي سيدخلونها مرتدين ثياب الفاتحين المنتصرين، ليفرضوا شروطهم ويتسلموا السلطة مبتغاهم المنشود، الذي سفكوا الدماء ودمروا البلاد لأجل الوصول إليه، شأنهم في ذلك شأن كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي ويرفعون رايته ويتاجرون بها.

بذلك تكون أفغانستان التعيسة المنكوبة بأبنائها قبل أعدائها على موعد جديد مع ثلاثيتها المدمرة والقاتلة، وهي الفوضى والاحتراب الأهلي، والتشدد والتطرف في أقبح صوره، والارتداد للخلف وإقامة جدار سميك بينها وبين العالم الخارجي، والسير عكس اتجاه الحداثة والتطور.

وبدا من مجمل التطورات المتصاعدة على الساحة الأفغانية حجم التواطؤ الأمريكي المخزي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم، الذي مهد السبيل لطالبان للاستيلاء على المدن الكبرى بوتيرة سريعة، وبات على المجتمع الدولي الآن التعامل مع الأمر الواقع، وخطب ود طالبان ورضاها، تلك الحركة التي كانت أمريكا وحلفاؤها من البلدان الغربية قبل أسابيع مضت يحاربونها باعتبارها كيانا إرهابيا يتحتم القضاء عليه، لحماية أمنهم القومي واستقرارهم الداخلي.
 
لاحظ أن الاحتلال الأمريكي يخلف وراءه دائما دولة فاشلة لا تقوى على الوقوف على قدمين ثابتتين، فعلوها في العراق التي سلموها لقمة سائغة للميليشيات المسلحة وللطائفية المقيتة البشعة بكل ما تجلبه من فواجع وعاهات، وبدون مؤسسات تقدر على إدارة شئون المواطنين اليومية، وفككوا جيشها الوطني، وفتحوا الأبواب على مصراعيها لظهور تنظيم "داعش" الإرهابي الذي تمدد لخارج الأراضي العراقية لاحقًا، وأضحى كابوسًا يهدد الدولة الوطنية والأمن الدولي.
 
ثم أعادوا الكرة في أفغانستان التي انهارت قواها الأمنية والعسكرية في لمح البصر، وكانت تفر أمام جحافل طالبان المتقدمة، بما يؤكد عدم وجود جيش نظامي حقيقي مدرب على القتال ويستطيع الدفاع عن مقدرات البلد وقبلها المدنيون الذين وجدوا أنفسهم في العراء بلا غطاء أمني يحميهم ويصون أعراضهم وممتلكاتهم، فهرب بعضهم للخارج وبقيتهم لمناطق بعيدة داخليًا طلبًا للنجاة والأمان، وسوف تكشف الأيام والأشهر القادمة قدر ما ارتكبه مقاتلو طالبان من فظائع ومذابح بحق المدنيين العزل، ومنهم أطفال أبرياء، والطرفان الأمريكي والغربي يتحملان نصيبًا كبيرًا ووفيرًا من وزر وإثم تدمير بلاد الرافدين وأفغانستان، ويستحقان محاسبتهما عليه حسابًا عسيرًا.
 
على كل فإن الحديث عن مسئولية الجانبين السابقين يطول، والشواهد عليه كثيرة ومتعددة، لكن ليس هذا مكان استعراضها، لأن التداعيات الجارية في أفغانستان تستدعي الإجابة عن سؤال رئيسي وملح، هو كيف سيكون حال هذا البلد البائس والمبتلى تحت حكم طالبان، وهل تقدر الحركة من الأساس على إدارة الدولة الأفغانية؟

بالقطع لا تقدر بتاتًا، فهي غير مؤهلة ولا مستعدة لإدارة دولة من الأصل، لأنها لا تؤمن أساسا بفكرة الدولة الوطنية المدنية، ومقاييسها ومفاهيمها للدولة مغايرة تماما للمتعارف عليه في العالم المتحضر والديمقراطي الحديث، فمنظور طالبان ديني محض ويخلو من المرونة والبراجماتية، وركيزتها ما كان عليه الوضع قبل قرون ولت، فأنظارها متجهة للماضي السحيق وليس المستقبل، ولا حتي الحاضر المعيش.
 
ولا ترى طالبان مقابلها ولا تفهم سوى تطبيق مفهومها المحدود وغير السليم للشريعة، وحرمان الناس من أبسط حقوقهم في التعبير عن آرائهم وأحلامهم وآمالهم، وانتقاد ما لا يعجبهم، فالعصا حاضرة ومرفوعة لأعلى لتلهب ظهر من يعترض، أو يتبرم.
 
النتيجة الطبيعية والمتوقعة ستكون نموذجا جديدا للدول الفاشلة، لا سيما التي يُوقعها حظها العسر في يد جماعات الإسلام السياسي، التي تعد ظاهريًا وزورًا بالخير والنماء، إذا حققت هدفها ببلوغ السلطة وما يستتبعها من مكاسب وفوائد، ورأينا نماذج حية ومفجعة لتلك الجماعات وما آلت إليه الأوضاع في السودان، والصومال، وليبيا، والعراق، وسوريا، وتونس، ولبنان، ونيجيريا، وعاصرنا في مصر عام الإخوان الأسود وشاهدنا خططهم لإضعاف واستهداف مؤسسات الدولة الوطنية، فجميعهم فاشلون ومخربون.
 
ونظرًا لتوجهاتها الدينية المتشددة فإن دولة طالبان ستكون تربة جاذبة لمن يقف على نفس قاعدتها الفكرية، وانطلاقا من ذلك فإنها لن تشارك دول العالم ومنظماته جهود محاربة الإرهاب وروافده ومنابعه، وكذلك تعريفهم للإرهاب، وبناء عليه ستصبح حاضنة ـ مثلما كانت في الماضي القريب ـ لعناصر وكيانات إرهابية ستبث سمومها وشرورها في أرجاء المعمورة.
 
وتوقعي الشخصي أنه سيكون من بين ما ينتظر طالبان من مفاجآت احتمال إجبارها على خوض معركة مصيرية وعنيفة لفرض السيطرة على تنظيم داعش الذي نشط في السنوات الأخيرة في أفغانستان، وربما تنشب بينهما نزاعات على مصدر تمويلهم من زراعة وتجارة المخدرات التي تدر ملايين الدولارات على الحركة، منذ نشأتها.
 
بالإضافة إلى أن طالبان معادية وكارهة للتراث الإنساني والتعايش بين الحضارات، ولإنعاش الذاكرة من بين وقائع عديدة فإن الحركة دمرت تمثال بوذا في ٢٠٠١ لكونه في نظرهم وثنًا، رغم أنه كان ضمن قائمة التراث الإنساني لليونسكو، وحينما استولت على المدن الأفغانية مؤخرًا فإنها كانت تبحث عن ممثلي الكوميديا لإقامة الحد عليهم، وبالتبعية فإنها لا تعترف لا بالسينما ولا المسرح ولا كل أنواع وأشكال الفنون والثقافة، كما أنها ترفض رفضًا قاطعًا تعليم الفتيات وتعاقبهم وأسرهم لمجرد إصرارهم على تنوير وتثقيف بناتهم، فالفتاة يجب أن تتوارى عن الأنظار في بيتها وخلف البروكا ـ رداء يغطي الوجه والجسد بكامله ـ والعالم شاهد على قصة الفتاة ملالا التي أصرت على إكمال تعليمها.
 
إن الأرضية التي ستحكم من خلالها طالبان أفغانستان وعمادها التشدد ستقود بعد حين – ليس ببعيد – للتململ والغضب من قبل الأفغان الذين لن يجدوا مفرًا من حمل السلاح ضدها، وتكوين جماعات مناهضة لها ستعرف طريقها من السرية للعلنية، وما يغذي ويدعم هذه الفرضية أن الحركة ستنخرط في تنفيذ عمليات انتقامية هدفها بعض المسئولين في الدوائر الحكومية والأمنية والعسكرية، والمثقفين والأدباء والشخصيات العامة والمؤثرة، وغيرهم من الأطياف والفئات، ولا يغيب عنا التركيبة القبلية المعقدة والصعبة لأفغانستان، التي يقطنها أناس لا يؤمنون بأي من الأديان السماوية.
 
نضيف لما سلف أن أفغانستان ستكون ميدانًا تتصارع فيه قوى دولية وإقليمية، سعيًا لمواطن نفوذ، وامتلاك أوراق ضغط تستغل عند اللزوم في علاقاتها ونزاعاتها وخلافاتها الناشبة فيما بينها، خصوصًا وأن الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة طواعية يحتاج لمن يسده، وهو ما يشير إلى أن هذا البلد بانتظاره أيام وأشهر بالغة الصعوبة، وسيُحرم مجددًا من نعمة الاستقرار بفضل تصرفات أبنائه المنفلتة غير المكترثة لمصالح الوطن وشعبه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة