"يا بهية خبرينى يا بوي ع اللي قتل ياسين".. قصة أشهر مواويل العشق فى بر مصر|صور

هنا الجبل الشرقى بالمحاميد بأسوان، وبالتحديد فى ديسمبر عام 1905م ، حيث تصدر مقتل ياسين العبابدى على يد الضابط الشاب آنذاك محمد صالح حرب مانشيت صحيفة "الأهرام"، خبر يبدو كغيره من أخبار الجريمة والعقاب والمطاردات الشهيرة بين الشرطة والجناة، دون أن يدرك الناس أن قصة ياسين ستتحول لأعظم مواويل العشاق فى بر مصر.

كان مراسل الأهرام فى أسوان والصعيد قبل واقعة مقتل ياسين معتاداً على كتابة الحوادث وإرسالها عبر التليغراف، وغالبا ما كان يسبقها بقوله "الأمن عندنا سائد، وليس هناك ما يُكدر صفو الراحة"، ثم يبدأ فى سرد الوقائع، حيث سرد أخبار نقص الموظفين من الخفراء وبالأخص فى قسم شرطة إدفو التى تتبعها المحاميد لحفظ الأمن، بالإضافة لأخبار الأزمة الاقتصادية فى الصعيد التى أدت لإيقاف موالد أولياء الله الصالحين فى عموم الصعيد فى ظل الاحتلال البريطانى.

فى ذات المكان بقرية المحاميد بأسوان بصعيد مصر، مات ياسين العاشق والمناضل غريبا عن قبيلته العبابدة التى ينتمى إليها، وكذلك عن مسقط رأسه بمحافظة قنا كما يجزم رواة السير الشعبية، فقد كان مطاردا من الحكومة واعتبرته مجرمًا وشقيًا، تري كيف تغيرت الأحوال فى المحاميد؟ هل من الأهالي من لايزال يذكر قصة العاشق ياسين ومحبوبته بهية، أم يكتفون بسماعها عبر الأغاني والمسرحيات والمسلسلات التى خلدت القصة الملحمية؟، هل ما يزال الأطفال والصبية الذي يتجهون للجبل ويتجولون فى شوارع قريته يعى موال "ياسين وبهية" الذى لا يزال يصدح من عمق أودية الجبل ؟، هذا ما ستحاول "بوابة الأهرام" الإجابة عنه.

وُلد ياسين فى قرية الحصواية بقنا، كما يؤكد المسرحى الكبير مهدى الحسينى فى حواراته التى سجلها أحمد خميس فى كتاب، بينما لم يكن اسم حبيبته بهية فقد كان اسمها راضية، ويؤكد الحسينى الذي ذهب برحلة للقاء أحفاد ياسين فى قنا بصحبة الفنان الصعيدى حسين حسب من قبائل العبابدة، أن أحفاد ياسين أكدوا أن جدتهم اسمها آمنة وليست "بهية"، حيث كانت آمنة هى زوجته الأولى، وبهية "راضية" زوجته الثانية، وحين ارتحل ياسين إلى أسوان عبر الجبال والأودية، قابل بهية فوقع فى غرامها وتزوجها، ورافقته فى رحلة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، وقبعت معه فى المغارات التى كان يأوي إليها وفى الجبال التى كان يعرف دروبها؛ ولأن العبابدى يمتاز بحنكته الكبيرة فى قص الأثر، فقد كان يعرف مداخل ومخارج وأودية الجبال ويعيش بها دون خوف. 

 لقد رفع ياسين راية الكفاح ضد الاحتلال البريطانى فى مصر، حيث أُجبر المصريون من المغلوبين على أمرهم على مساعدة القوات الإنجليزية فى السودان وعمل قوات لمنع تسلل السودانيين والمصريين بين البلدين، وهو ما أجج التمرد القوى الذي رفعه ياسين فى وجه الإنجليز، حيث اختار أن يشق طريق الكفاح المسلح رافعا مع المصريين شعار "تحيا وحدة وادى والنيل".

فى تلك الأثناء  صدرت اتفاقية 1899م والتى تنص على وجود قوات على الحدود بين مصر والسودان، والتضييق على حرية التنقل والحركة للمواطنين، وقد أعقبها لائحة تم تعميمها على كافة العمد ومشايخ البلاد، فى بدايات القرن العشرين، وتنص اللائحة على أنه يجب على العمدة عدم ترك العربان الذين ينتمى لهم ياسين بالإقامة على الأرض الزراعية التابعة لأى بلدة فى الريف، ويجب علي العمدة أن يختار لهم أى سكن مناسب يرتضيه لهم بعيدا عن الإقامة فى الأرض الزراعي ، كما نص القانون على أن يقوم العمدة بوضع كشف بأسماء العربان التابعين للنجع ويجب إحضارهم فى أى وقت يختاره، وعلى العمدة أيضا أن يبلغ الشرطة فى الحال بوجود شخص مشتبه فيه من العربان وخاصة المتمردين منهم والذين تم وصفهم بالمجرمين والأشقياء.

كان ياسين واحدا من هؤلاء الأشقياء فى نظر القانون؛ لذا تم تذييل صفحات الصحف بوصف المجرم الخطير بعد مقتله، لقد روت الأهرام قصة مقتل ياسين فى جبل المحاميد، وكان هذا إعلانا بموت ياسين الذي كان يتجول بين قنا وأسوان يشيع الرعب والخوف، كما روت قيام الضابط محمد صالح حرب شقيق الاقتصادى الشهير محمد طلعت حرب بأخذ جثة ياسين لنقطة المحاميد. 

يروى صالح حرب فى مذكراته واقعة مواجهته لياسين فى بداية حياته المهنية، مؤكدا أنه كان فى مأمورية إلى وادي حلفا ضمن بعثة عسكرية لشراء سرب من الجمال للخدمة فى سلاح الهجانة، وفى أثناء عودة الضابط الشاب سمع عن قصة ياسين بوصفه أعنف وأجرأ مجرم في زمنه على حسب قوله، وبينما كان صالح حرب يستريح مع قطيعه من الجمال في بعض الأودية المتاخمة لجبال أسوان، أبلغه أحد أتباعه أنه رأى بدويا نائما عند إحدى المغارات وفي يده بندقية، فلما ذهب يستطلع الخبر، فوجئ بوابل من الرصاص ينهمر من ناحية المغارة، فأدرك على الفور أن القدر وضعه وجها لوجه أمام ياسين، وأنه لن يخرج من المنطقة كما دخلها، فإما قاتلا وإما قتيلاً.

استدار الضابط نحو قمة التل الذي يعلو فتحة المغارة، وأسقط حبلا تتدل منه حزمة من البوص المشتعل، وحملت الريح الدخان إلى فوهة المغارة وشعر ياسين بالاختناق، فاضطر إلى الخروج منها، ودارت بينهما معركة وأثناء المعركة حاول ياسين قتل محمد صالح حرب، ولكن صالح كان أسرع منه وأطلق عليه أربع رصاصات انتهت برصاصة فى قلب ياسين لتنتهي حياته على الفور، وقد وجد الجنود داخل المغارة المظلمة زوجة ياسين (بهية) وطفله، وكانت زوجته تزغرد كعادة المصريات في الصعيد حين يسقط أزواجهن في المعارك، ويبدو أن محمد صالح حرب لم يفهم هذا الأمر، فاعتقد أن الزوجة فرحت لمصرع زوجها، بل ادعت الشرطة أن بهية صرحت فى أقوالها بأن ياسين قام بخطفها وأجبرها على العيش معه، إلا إن الصحف ومنها الأهرام أكدت أن بهية كانت تعيش بمحض أرادتها مع ياسين فى مغارة بجبل المحاميد.

يهاجم مهدى الحسينى اللواء محمد صالح حرب ابن مركز دراو باسوان، وشقيق الاقتصادى محمد طلعت حرب، مؤكدا أن حرب تربى فى ظل الانكسار، حيث انكسار ثورة عرابى 1882م، وقد كان حرب ضابطا وموظفا فى ظل الاحتلال البريطانى، حيث كانت سياسة الاحتلال تقوم على الوقيعة بين الأشقاء المصريين والسودانيين من جهة، وزرع الفتنة بين أفراد القبيلة الواحدة والشعب الواحد من جهة أخري، مؤكدا أن بهية أو راضية كانت عاشقة حقيقية لياسين الذي ظلمه الإنجليز، وتجنى عليه صالح حرب فى قتله. 

"الخيال الشعبى" لم يرض بهذه النهاية لياسين، حيث عُقدت محاكمة شعبية لمقتل ياسين بعد 4 سنوات من واقعة القتل فى عام 1905م، وأن المحكمة الشعبية حكمت على قتلة ياسين بالسجن أربع سنوات، رافضة ما يتم ترديده وإشاعته أن ياسين مجرم  كما فى مذكرات محمد صالح حرب، واعترف صالح حرب ذاته فى مذكراته التى استرسل فيها عن قضايا تمت ومشاكل بينه وبين المسئولين البريطانيين والمصريين عقب مقتل ياسين؛ لأنه لم يأخذ أمراً بالقتل والمطاردة، وما فعله يتنافى مع مأموريته لترحيل الإبل، ويؤكد حرب أن البريطانيين وكل من يعمل فى الشرطة يستطيع إلقاء القبض على ياسين، ثم يعترف بمكانة ياسين فى وجدان الشعب المصري، قائلا: "وهكذا قُتل ياسين وهكذا كانت نهايته، ولم تمض غير أيام حتى نظم أبناء الصعيد أغنية لم تلبث حتى رددها الشعب المصري من أقصي الصعيد حتى شمال الدلتا".

ويؤكد مهدى الحسينى أن اللحن العبادى الأصلى لأغنية ياسين وبهية يتراوح بين التحدى والمفارقة والسخرية والحزن، أما باقى النص فهو تنديد بالخصومة "عبادى ياواد عبادى كرباجك عل الهجين" يعنى أيها الفتى المنتمى للعبابدة تعجل الجمل وحثه بالكرباج لأننا فى مهمة خاصة وخطيرة وعاجلة يقع جبل المحاميد الذي قُتل فيه العاشق ياسين.

يقع جبل المحاميد بأسوان شرق وادي النيل، ويبعد بمسافة ١.٣٠ كيلومتر تقريبا، وتسمي قرية المحاميد التابعة لمركز إدفو في محافظة أسوان بهذا الاسم، ويحمل المحاميد نفس المسمي علي الجانب الغربي لوادي النيل لقريتي المحاميد البحرية والقبلية بمركز أرمنت في محافظة الأقصر.

ويقول محمد سيد نور، الباحث فى التراث والذي أمدنا بصور فوتوغرافية عن المحاميد ومنازلها وشخصياتها، لــ"بوابة الأهرام " إنه  منذ فترة ليست بالقليلة كان العجائز فى القرية يتحدثون عن ياسين والكهوف التى كان قد اتخذها سًكنى له  مع زوجته بهية، مؤكدا أن قرية المحاميد تأخذ شكل قوس على النيل، وهى فى باطن الجبل كما أنها قرية تاريخية، حيث يوجد بها منطقة "أبوخروق"، وهى منطقة أثرية قام علماء الحملة الفرنسية بتوثيقها فى كتاب "وصف مصر" ، مؤكدا أن إدفو التى تضم المحاميد كانت أحد الممرات للجمال القادمة من السودان، حيث كانت تمر القوافل بها، مؤكدا أن منازل القرية مازالت على حالها وفيها ما يبلغ عمره أكثر من قرن من الزمان.

وأوضح نور أن جبل المحاميد يمتاز بوجود منطقة يُجلب منها النطرون، كما أنها ضمن سلاسل الجبال التى وضعت بها نظام المراقبة والحراسة الطينية منذ العصر الفاطمى، كما أن كهوفها متسعة جدا؛ مما يجعلها تخبئ سيارة بداخلها، مؤكدا أن المحاميد تضم تراثا ثقافيا فى التصوف وعشق الأولياء، حتى القباب التى تُزين مقبرتها القديمة. 

وأكد أن نقطة الشرطة التى شهدت قضية مقتل ياسين عاشق بهية قديمة جدا، وقد تم تجديدها فى الوقت الحاضر، إلا أن جيل الشباب نادرا ما يعرفون أن قصة ياسين وبهية انتهت هنا فى "جبل المحاميد".

وأكدت الدكتورة سمية مصطفى على حسن لــ"بوابة الأهرام " إن جبل المحاميد، يحتوى على الكثير من المعادن فى وقتنا الحالى، حيث يحتوى علي تكوينات الكريتاسى، أما من الناحية التعدينية والاقتصادية، نجد أن انتشار الفوسفات في مصر يتمثل في منطقة وادي النيل بين إدفو وقنا، وقد جاءت تسميتها بالمحاميد؛ نسبة إلى محمود بن طلحة بن ميمون بن المسافر بن عمرو بن زياد بن سليمان ، حتى الوصول ليعرب بن قحطان ويقتصر مسمى المحاميد فقط على قبيلة المحاميد الحروب، وهو مسمى غير مألوف للقبائل الأخرى سوى قبائل حرب، ويوجد العديد من العوائل والأسر والعشائر التي تحمل اسم المحاميد وأغلبهم لا تجمع بينهم وبين القبيلة أي صلة قرابة، ومنهم من ترجع أصولهم إلى القبيلة، حيث كانت القبائل المتجاورة في مناطق السكن، والقبائل القربية منهم تناسب وتصاهر وتدخل بعض البطون فيما بينهم، مثل بني سليم والبقوم وغيرها من القبائل، ومن نفس القبيلة. 

وأضافت مصطفى أن قبيلة المحاميد مفردها المحمادي أو المحمودي هي قبيلة عربية ترجع في نسبها إلى حرب الخولانية القحطانية، وكانت القبيلة مستقرة بالأصل في الحجاز ما بين مكة والمدينة، ومن ثم انتشرت في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ودول المغرب العربي، وتعد من القبائل الكبيرة والمنتشرة في أرجاء العديد من البلدان العربية، حيث تتواجد عشائر قبيلة المحاميد فى المملكة العربية السعودية، ومصر، والسودان وسوريا ، والأردن.

وأكدت سمية مصطفى أن ياسين صاحب القصة المشهورة فى التراث الشعبى لا ينتمى لقبيلة المحاميد، وأنما ينتمى لقبيلة العبابدة، وهى القبيلة التى وصفت فى التاريخ بأسود الصحراء، وقد انقسمت العبابدة لعبابدة ريف يعيشون فى الأرياف وذابوا مع القبائل والعائلات الأخري التى تستوطن الصعيد، وعبابدة البدو الجبل، والعبابدة عامة يسعدون بالحرية وغالبا ما يمتاز جسد العبادى والمرأة العبادية بالنحافة وقوة النظر، واسترسال الشعر فى الرجال. 

 وتضيف الباحثة والجغرافية سمية مصطفى أن نحافة الجسد  يرجعها الباحثون إلى العيش فى الصحراء والجبل، حيث تفرض عليهم البيئة نشاطًا جسمانيًا معينًا للرعى والبحث عن الجمال الضالة والأغنام المشردة ، وكذلك قلة شرب الماء وقلة الطعام، ورغم ذلك هم فى نشاط دائم، بل أن العبابدى يمتاز بأنه لا تظهر على وجهه الشيخوخة، فهم فى نشاط وحيوية دائمة، مؤكدة أن لهم تراثهم الثقافى فى الصعيد سواء فى الأفراح أو الحزن أو الحكايات والأساطير الشعبية. 

الجديربالذكر  أن ياسين بطل الحكاية الشعبية الخالدة فى أذهان المصريين وحبيبته بهية تم تخليدهما فى الحكاية بأشكال مختلفة، فتغنى بها الفنان محمد طه، وكتب عنها الشاعر نجيب سرور رواية شعرية باسم "ياسين وبهية"، وحتى السينما المصرية أنتجت فيلما بعنوان "بهية" عام 1960 عن سيناريو للأديب يوسف السباعى، وجاء أخيرا عمل تليفزيونى عام 1982 يحمل اسم ياسين وبهية.