مازال الحديث عن ثورة يوليو 1952، ما لها وما عليها، يحمل الكثير من شئون الوطن وشجونه وأحزانه، وقليلا من أحلامه.. وماذا تبقى من الثورة ورمزها وزعيمها عبدالناصر بعد 69 عامًا منذ اندلاعها..
لعل الإشارة إلى قضية راهنة مثل مسألة سد النهضة الإثيوبي، والحال مع قارة إفريقيا تقدم إجابات، وتترجم الكثير من المعاني والعبر عن هذه الثورة وكيف كانت وما وصلت إليه ..
في بداية الستينيات كانت القاهرة بمثابة العاصمة الكبرى للقارة الإفريقية وملتقى رؤسائها، ومنها انطلقت مبادرة إنشاء "منظمة الوحدة الإفريقية" وتم اختيار العاصمة الإثيوبية مقرًا لها عام 1963، ولم تتوقف القاهرة عن استقبال الرؤساء الأفارقة، وفتحت أبوابها للوفود الفنية والبعثات التعليمية للطلاب الأفارقة، ومنها انطلقت حركات التحرر من الاستعمار الذي كان يسيطر على كل بلاد القارة..
وأدركت القاهرة، مبكرًا قبل الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والكيان الصهيوني في فلسطين، أهمية القارة وقيمتها السياسية والاقتصادية والجغرافية، فبسطت تواجدها في كل المناطق هناك، وكان التعاون والتنسيق والتحالف في أعلى درجاته بين القاهرة والعواصم الإفريقية..
واليوم، ومع غياب عبدالناصر، وبعد تدفق الكثير من مياه النيل أسفل كباري القاهرة، وغياب الوعي السياسي والإنساني، بأهمية القارة السمراء، حل الإهمال بالقارة السمراء بديلا عن الاهتمام والتعاون، فأصبحت دولة مثل إثيوبيا تناصب العداء لمصر، عبر بناء حاجز يمنع مياه النيل القادمة إلى مصر وأطلقت عليه اسمًا حركيًا "سد النهضة" بدعوى تنمية إثيوبيا، وهو في حقيقته يقتل التنمية في مصر ..
وعن الحال بالنسبة للقارة، فلن نضيف جديدًا حول ما حدث في مجلس الأمن بجلسته الأخيرة الشهر الحالي حول هذا المخطط الإثيوبي، ولكن يكفي أن نشير إلى أن الكيان الصهيوني تمكن، بعد عامين من الجهود، من أن يصبح عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي "منظمة الوحدة الإفريقية" سابقًا..
أما في الداخل فيكفي أن ثورة يوليو أوجدت وساعدت على ولادة الطبقة المتوسطة التي هي الهيكل البنيوي للأمة والمجتمع المصري..
أما بعد ثورة يوليو، فقد شهدت مصر ثورة 25 يناير 2011، ثم ثورة 30 يونيو ٢٠١٣ سعى المشاركون فيهما، إلى تغيير الحياة على أرضها.. فهل تحقق ذلك، وهل تغيرت الحياة بالفعل.. وإلى أي مدى..
شعارات ومبادرات وبيانات وحركات وأنشطة وحملات ووثائق ومواثيق، ومبادئ لم تحدث التغيير المنشود، ولكن عند الحديث عن الأهداف النبيلة التي طالبت بها كافة الثورات، فإنها لم تكن لتثمر وتنجح في تحقيق التغيير والتقدم المأمول، دون الاهتمام بمبدأين أساسيين، إن لم يتحققا فإن باقي الأهداف والغايات مصيرها الفشل..
المبدآن هما:
1- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
2- إقامة عدالة اجتماعية.
وكانا هذان المبدآن دائمًا ضمن مبادئ ثورة يوليو، وإذا كان لم يختبرا منذ بداية ثورة يوليو ١٩٥٢، فإن الآمال تتجه إلى ثورة ٣٠ يونيو لتحقيق الآمال المشروعة والأحلام المعلقة للمصريين، وأحسب أن هناك بوادر ومؤشرات لتحقيق هذه الأهداف المؤجلة منذ نحو ستين عامًا ..
في بدايات يوليو 1952، وقف 3 رجال في جانب، أمام كافة أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، فقد حاول الثلاثة عودة الحياة النيابية.. فبعد نجاح الثورة، طالب كل من الرئيس الأسبق محمد نجيب، وعضوي قيادة الثورة خالد محيي الدين، ويوسف صديق، بتسليم البلاد إلى الإدارة المدنية وإعادة الحياة الحزبية وعودة الأحزاب السياسية، وقوبلت هذه المطالب بالرفض.
هذان المبدآن، هما إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وعدالة اجتماعية، تتضاءل أمامهما كافة المبادئ والشعارات، مهما احتوت أو استوعبت من قيم العدل وإعادة الحقوق، وبث مشاعر الكرامة والوطنية، ناهيك عن التعليم والصحة وفرص العمل..
فالواقع يقول أن في غيابهما تتعرقل الخطط ويتلاشى التغيير والأمل والنور..
وفي ذكرى 23 يوليو نتذكر كلمات الشاعر السوري الراحل نزار قباني بعنوان:
"رسالة إلى جمال عبدالناصر"..
هذا خطـاب عاجـل إليكْ.. من أرض مصـر الطيبةْ
من ليلها المشغول بالفيـروز والجواهرِ
ومن مقاهي سيـدي الحسين، من حدائق القناطرِ
من تُرع النيل التى تـركتْها..حزينة الضفائرِ
هذا خطابٌ عاجـلٌ إليكْ..من المـلايين التى قد أدمنت هواكْ
من المـلايين التي تريدُ أن تراكْ..عندي خطـابٌ كلّه أشجانْ
لكنني .. لكننـي يا سيّدى..لا أعرفُ العنـوان ..
ـ 2 ـ
الزرع فى الغيطـان، والأولاد فى البلد
ومولد النبـي، والمآذن الزرقـاء،
والأجـراس في يوم الأحد..وهذه القاهـرة التي غفت
كزهرة بيضـاء في شعر الأبد..يسلمون كلهـم عليك..يقبلون كلهـم يديك
ويسألـون عنك كل قادم إلى البلد..متى تعود للبـلد؟
ـ 3 ـ
حمائم الأزهـر، يا حبيبنا، تهـدي لك السلام
معديـات النيل، يا حبيبنا، تهـدي لك السلام
والقطن في الحقـول، والنخيل، والغمام
جميعها..جميعها..تهـدي لك السلام
كرسيك المهجور فـي (منشية البكري) يبكي فارس الأحلام
والصبر لا صبـر له..والنوم لا ينـام
وساعة الجـدار، من ذهولها، ضيعت الأيام
يا من سكَنْت الـوقت، والتاريخ، والأيام..
عندي خطاب عـاجل إليك..لكنني يا سيـدي..لا أجد الكلام
ـ 4 ـ
الحزن مرسـوم على الغيوم، والأشجار، والستائر
وأنت سافـرت..ولم تسافر..
فأنت في رائحـة الأرض، وفي تفتح الأزاهر..
في صوت كل موجـة، وصوت كل طائر
في كتب الأطفال، في الحـروف، في الدفاتر
في خضرة العيون، وارتعاشـة الأساور..
في صدر كل مؤمـن، وسيف كل ثائر
عندي خطاب عاجـل..لكنني..لكنني يا سيـدي سحقني مشاعـري..
ـ 5 ـ
يا أيها المعلـم الكبيرْ..كم حُزننا كبيـرْ
كم جُرحنا كبيـرْ..لكننـا..
نقسمُ بالله العـلي القديرْ..أن نحبس الدمـوع في الأحداق
ونخنقَ العَبْـرة..نقسمُ بالله العلـىيّ القديرْ
أن نحفظ الميثـاقْ..ونحفظ الثـورة..
ـ 6 ـ
وعندما يسـألنا أولادنا: من أنتـم
في أي عصـر عشتمُ؟ فى عصر أي ملهـم؟
في عصر أي ساحـر؟ نجيبهمْ: في عصر عبدالناصـرِ
اللهَ..ما أروعها شهـادةً..أن يوجد الإنسان في زمـان عبدالناصرِ..
كل عام ومصر بخير..
[email protected]