مرات قليلة تلك التى عايشت فيها أيامًا من شهر رمضان خارج مصر؛ الأحاسيس مختلفة، رؤية الأماكن لا تكون كاشفة عن حقيقتها، مفردات الشهر الكريم بمصر مختلفة تمامًا عنها فى أى دولة أخرى إسلامية أو غير إسلامية.
أتذكر أول أيام من رمضان عشتها خارج أرض الكنانة كانت منذ نحو 25 عامًا، عندما سافرت لأول مرة أيضًا مع مجموعة من الزملاء لتأدية العمرة.
روحانيات العمرة الأولى لا يضاهيها أى إحساس آخر، وصلنا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقت أذان الظهر بعد رحلة قاربت الساعات العشر، عندما تناولنا السحور فى مطار القاهرة، وركبنا الطائرة لنصل إلى مدينة جدة عند أذان الفجر لننطلق بعد الصلاة بالسيارة إلى المدينة المنورة.
وفى بهو الفندق تركنا حقائبنا مسرعين إلى مسجد الحبيب، وقبل أذان المغرب يربت على كتفك رجل باسم الوجه يستحلفك أن تكون ضيفه على الإفطار فى المسجد، تلمح عيناك يمينًا ويسارًا شبابًا ورجالًا يدعون ضيوف الرحمن للإفطار معهم.
ينطلق الأذان بصوت عذب، تقشعر له الأبدان يقدم لك من يضيفونه التمر والماء وكسرة خبز وفنجان قهوة عربية.. تسرى طاقة عجيبة فى نفسك قبل جسدك تظل بالمسجد حتى انتهاء صلاة التراويح، وقبل أن تغادر يأتى إليك مضيفك ليؤكد عليك الدعوة لإفطار الغد.
كنا لا نبرح المسجد إلا ساعات قليلة بين صلاتى الظهر والعصر وبعد الشروق وحتى أذان الظهر.. الغريب أن النفس لا تتوق إلى ما لذ من الطعام.
نغادر مدينة الحبيب إلى مكة المكرمة، ندخل من باب السلام، يتوقف الزمن وتقع عيناك على الكعبة المشرفة، تنساب الدموع الغزيرة من الأعين وترتجف القلوب مهابة وتعظيمًا.. عالم آخر ليس لمفاتن الدنيا فيه مكان، نحيب الزائرين وتمتمتهم بالدعاء كأنها ألحان سماوية تجذبك، سائرًا لست مخيرًا لتؤدى مناسك العمرة.. ألسنة عربية وأعجمية تتناغم بعيدة عن الأوطان.. الجميع سواسية، عطشى ينهلون من معين لا ينضب، تشعر وكأنك فى معية قدرية نورها يكسو النفوس بجلال عظيم.
الأيام تمر سريعة خاطفة نستعد للوداع والمغادرة، الجميع يدعون بنصيب فى العودة مرة أخرى، تحط الطائرة على أرض الوطن الحبيب وقت الظهيرة، يتفرق الأصدقاء.. يوم واحد للراحة من عناء الرحلة أذهب إلى قريتى، يأتى الأهل والأصدقاء والجيران، الكل يطلب بشغف معرفة تفاصيل زيارتك للأراضى المقدسة، الآذان مصغية والعيون تترقب وكأن أصحابها قد تركوك وغادروا إلى هناك يؤدون المناسك.
دقائق قليلة قبل الأذان، يفترش أصحاب البيوت، فقراء وأغنياء، أمام أبواب مساكنهم، بعضهم يضع الطعام أمامه، يدعو كل مَن يمر أمامه ليتناول الإفطار، دقائق ويذهب الجميع، رجالًا وأطفالًا، إلى المسجد، تشعر وكأنك لم تغادر الأراضى المقدسة.. أعود إلى القاهرة.
أيام قليلة وتتسلل إلى النفس مفاتن الدنيا وزينتها، تعتقد للحظة أنك ستقع أسيرًا لها، تطل من شرفة مسكنك ترقب عيناك أناسًا على اختلاف مشاربهم يجهزون موائد الرحمن يذكرونك بما يحدث فى الحرمين، يأتى صوت النقشبندى قبل الأذان ليذكرك بالصفاء، تنطلق بعد الإفطار إلى المسجد وبعد انتهاء الصلاة يتفرق الجمع.. ويبقى رمضان كريمًا.
وكيل الهيئة الوطنية للصحافة