أصدر مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية دراسة مهمة بعنوان "إدارة التنوع الثقافي داخل بيئة العمل: حالة الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية"، ضمن سلسلة كراسات إستراتيجية، التي تصدر شهريا عن المركز.
موضوعات مقترحة
وتناولت الدراسة، التي أعدها د. أحمد قنديل، رئيس وحدة العلاقات الدولية بالمركز، ود. إيمان مرعي، الخبيرة بالمركز ونائب رئيس تحرير دورية "أحوال مصرية"، بالتعاون مع مجموعة من باحثي المركز، موضوعا ذي أهمية كبيرة بالنسبة للشركات الأجنبية العاملة في مصر والدول العربية، وهو كيفية التعامل الناجح مع الاختلافات الثقافية داخل مثل هذه الشركات التي تضم العديد من العاملين ذوي الثقافات المختلفة في بيئة عمل واحدة، خاصة أن عدم مراعاة هذه الاختلافات قد يؤثر على قدرة هذه الشركات على تحقيق أهدافها، كما أنها قد تتسبب في كثير من الأحيان في إرباك العمل أو الحد من فاعليته أو ارتفاع التكلفة المالية والاجتماعية لتنفيذه.
وتنبع أهمية هذه الدراسة من تجربة الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية CSCEC في التعامل مع مسألة إدارة التنوع الثقافي داخل المشروعات التي تنفذها خارج الصين. الشركة مرت بمراحل تاريخية طويلة قبل أن تصبح واحدة من أكبر شركات المقاولات في العالم.
وكان من أهم العوامل التي ساهمت في هذا النجاح هو ثقافة الشركة في إدارة التنوع الثقافي داخلها، خاصة مع توسع أعمالها وأنشطتها في دول مختلفة ذات ثقافات متعددة، تتجاوز عددها المائة في الوقت الحالي. وفي هذا السياق، يمكن أن تكون هذه الدراسة مفيدة لباقي الشركات الصينية العاملة في مصر، أو تلك التي ترغب في العمل في مصر أو الدول العربية مستقبلا.
كما ستكون هذه الدراسة أيضا مفيدة للشركات المصرية فضلا عن المهندسين والمدراء والعمال المصريين والعرب الراغبين في التعاون مع نظرائهم الصينيين في المستقبل، لأنها تكشف عن كثير من الجوانب الثقافية في إدارة الأعمال داخل واحدة من أكبر الشركات الصينية في مجال المقاولات والتشييد في العالم.
وتقوم الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية حاليا بتنفيذ مشروع ضخم داخل العاصمة الإدارية الجديدة، في إطار المرحلة الأولى من مشروع إنشاء منطقة الأعمال المركزية (Central Business District - CBD). ويعمل في هذا المشروع أكثر من ثلاثة آلاف مصري وصيني جنبا إلى جنب منذ مايو 2018، مما يجعله نموذجا مهما للتعاون المصري- الصيني في إطار مبادرة "الحزام والطريق". ويشتمل المشروع على بناء برج أيقوني ICONIC TOWER بارتفاع 385 مترًا (أعلى ناطحة سحاب في أفريقيا)، و12 برج شاهق للمكاتب، و5 أبراج سكنية شاهقة، وفندقان فاخران، فضلا عن إقامة أعمال البنية التحتية اللازمة لهذه المنشآت العشرين.
وقد كشفت الدراسة عن أبرز جوانب التشابه والاختلاف في ثقافتي العمل المصرية والصينية بشكل عام، وعن أهم التحديات الناجمة عن الاختلافات الثقافية بين المصريين والصينيين. كما رصدت الدراسة أيضا كيفية قيام الشركة بإدارة هذه الاختلافات باحترافية شديدة من خلال كثير من الأنشطة والسياسات الإدارية والثقافية.
وفي النهاية، طرحت الدراسة عددا من التوصيات لتحقيق أقصى درجة ممكنة من التفاهم الثقافي بين المصريين والصينيين بما ينعكس على أداء العاملين المصريين والصينيين في بيئة العمل المشتركة.
كان من أبرز الاختلافات الثقافية التي كشفت عنها الدراسة مسألة اللغة وصعوبة الترجمة؛ إذ لا تزال اللغة تمثل عائقًا كبيرًا أمام التواصل الفعال بين الصينيين والمصريين العاملين في مشروعات مشتركة. ففي حين يتحدث بعض الصينيين اللغة الإنجليزية، لا يتحدث أي صيني من العاملين في الشركة باللغة العربية (باستثناء المترجمين الصينيين بالطبع).
كذلك هناك عمال صينيون لا يعرفون اللغة العربية أو الإنجليزية. من ناحية أخرى، توجد بعض المصطلحات العربية وكذلك الصينية التي يصعب ترجمتها بشكل حرفي (خاصة المصطلحات الهندسية والطبية على سبيل المثال). أضف إلى ذلك وجود العديد من اللهجات داخل اللغتين العربية والصينية. ولذلك يلجأ المترجمون الصينيون إلى البحث عن أقرب معني لهذه المصطلحات واللهجات في اللغة محل الترجمة. ويتوقف النجاح في ذلك على خبرة المترجم وقدراته اللغوية وقدرته على الترجمة الفورية.
كذلك، كشفت الدراسة عن وجود اختلافات ثقافية واضحة بين المصريين والصينيين فيما يتعلق بأخلاقيات العمل. على سبيل المثال، فإن العمل بالنسبة للمصريين يمثل جزءا من حياتهم بعكس الصينيين الذين يعتبرون العمل هو كامل حياتهم.
ويغلب على العقلية الصينية تقديس العمل باعتباره قيمة في حد ذاته، بينما لا يغفل المصريون الأبعاد الإنسانية في ممارسة العمل. من ذلك على سبيل المثال، لجوء العمال المصريين إلى "الهزار" و"المزاح" أثناء العمل، والحرص على أداء شعائر العبادة، وهي تقاليد لا يعرفها الصينيون.
وكان واضحا أن الضغط الزائد في العمل يُعد من أكبر الإشكاليات التي تواجه المصريين.
صحيح إن الضغط المصاحب للعمل هو أمر معتاد في بيئات العمل، وصحيح أن الشركة الصينية لا تسئ معاملة المصريين العاملين فيها مقارنة حتى ببعض شركات القطاع الخاص المحلية الصغيرة، لكن يظل هناك حرص واضح لدى بعض العاملين المصريين على الربط بين القيام بأية أعمال إضافية والأجر الذي يحصلون عليه، وذلك على العكس من العمالة الصينية التي لا تتمسك كثيرا بهذا الربط.
كشفت الدراسة أيضا أن كثير من المديرين الصينيين يفتقدون إلى المعلومات الكافية حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر، خاصة أولئك الذين يعملون لأول مرة خارج الصين، الأمر الذي يخلق لديهم مشكلة في التكيف مع الحياة في مصر، والإحساس بالغربة والحنين إلى وطنهم الأم.
ومن بين التحديات الثقافية المهمة أيضا، التي كشفت عنها الدراسة، ما يتعلق بعدم قبول بعض المهندسين المصريين فكرة التعامل مع مدير صيني أصغر منهم سنا، في الوقت الذي تفضل فيه إدارة الشركة إعطاء المناصب القيادية لصغار السن من ذوي الكفاءة. كما يتحفظ بعض المهندسين المصريين على تفضيل المديرين في الشركة الصينية للمهندسين الذين يتسمون بالمرونة والانخراط في أعمال أخرى خارج تخصصهم الهندسي، مثل المشتريات أو التفاوض وغيرها، فيما يُعرف بمفهوم "المهندس الشامل" لدى الجانب الصيني. بينما يميل المهندسون المصريون إلى تفضيل نموذج "المهندس المتخصص" وليس "المهندس الشامل".
ومن الاختلافات الثقافية المهمة أيضا التي كشفت عنها الدراسة نظرة الطرفين إلى الإجازات وأوقات الراحة، حيث يتمسك المصريون بالحصول على الإجازات وفترات الراحة بصرف النظر عن وجود عمل متراكم من عدمه. كما لا يفضل المديرون الصينيون الإجازات القصيرة المتقطعة على فترات زمنية قصيرة، على عكس الإجازات الطويلة نسبيا على فترات متباعدة، والتي يمكنهم خلالها إسناد الأعمال والمهام إلى أشخاص آخرين.
وكان من بين أهم الاختلافات أيضا تلك المتعلقة باختلاف الأنظمة المالية والضريبية وقوانين العمل، الأمر الذي تطلب وقتا لتوافق الشركة وتأقلمها مع هذه الأنظمة.
في النهاية، طرحت الدراسة مجموعة من التوصيات، كان أبرزها تعزيز التواصل اللغوي بين العاملين في الشركة، من خلال تطوير مستوى اللغة الصينية للمصريين العاملين في الشركة، باعتباره أحد العوامل التي قد تساعد على توسيع التناغم والتجانس مستقبلا. كما يمكن أن تقوم الشركة بتوفير دورات لتعلم اللغة الإنجليزية للجانبين المصري والصيني، لكي يتم إيجاد لغة مشتركة بين الجانبين لتسهل عملية التواصل وإيصال المعلومات بصورة دقيقة، خاصة فيما يتعلق بالرسومات واللوحات الهندسية. من ناحية أخرى، قد يكون من الضروري أيضا أن تشجع الشركة العاملين الصينيين على تعلم اللغة العربية لتسهيل التواصل مع نظرائهم المصريين من ناحية، ولتعزيز قدرتهم على التكيف من أجل العيش والعمل في مصر، من ناحية أخرى.
ومن أجل مواجهة الاختلافات الثقافية المرتبطة ببيئة العمل، أوصت الدراسة بأهمية زيادة الوعي بين المديرين الصينيين بشأن تطبيق السياسات التنظيمية التي تعزز التوازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصة، وبناء ثقافة مؤسسية تركز على تحقيق النتائج على المدى الطويل بدلا من مجرد النظر إلى مؤشرات الأداء في المدى القصير فقط، والنظر في إمكانية زيادة عدد المهندسين والعمالة المصرية، حتى لا يؤثر غياب البعض على معدل سير العمل في هذا المشروع المهم. كذلك، أوصت الدراسة بأهمية مراجعة المديرين الصينيين لفكرة "المهندس الشامل"، وضرورة اهتمام الشركة بتنظيم دورات للتأهيل الثقافي للصينيين العاملين في مصر حاليا أو مستقبلا لزيادة معارفهم حول مصر، خاصة طبيعة العادات والتقاليد المصرية، اعتمادا على خبراء مصريين متخصصين.
الغلاف