"الفصال" عادة العديد من الناس، ربما يعدونها شطارة، فهو نوع من العادات التي توارثتها الأجيال، وهذه العادة تحدث في الأسواق والتجارة، أي في حركة البيع والشراء، ولكن أن تتحول هذه العادة إلى المشاعر والأحاسيس، والقيم الإنسانية، فهذا ما لا يستسيغه العقل، أو يرتضيه الضمير الإنساني، أو تتقبله المبادئ، فكيف يتسنى للإنسان أن يُفاصل ويُقايض ويُزايد على مشاعره وأحاسيسه وقيمه؟ فهذا السلوك يُنبئ عن فقدان التوازن الداخلي، وللأسف، عادة ما يحدث الفصال مع الأشخاص الذين يستحقون عدم إدخال الحسابات في التعامل معهم، في حين أن مَنْ يستحق المُقايضة يتم إعطاؤه وبلا حدود، وكأن هذا العطاء حق مُكتسب له، لا يجوز الفصال فيه.
موضوعات مقترحة
فذات مرة، سألت سيدة رجلاً كبيرًا في السن: "بكم تبيع البيض؟" فقال لها البائع: "50 سنتًا للبيضة سيدتي"، فقالت له: "سآخذ 6 بيضات بسعر 2.5 دولار بدلاً من 3 دولارات، وإلا سأذهب ولن أشتري منك"، رد البائع: "اشرتيهم بالمبلغ الذي تُريدينه يا سيدتي، قد تكون هذه بداية جديدة لي، لأنني لم أستطع بيع أي بيضة اليوم وأحتاج هذه الأموال لكي أجد قوت يومي".
فاشترت السيدة البيض بالمبلغ الذي تُريده وذهبت وشعرت أنها انتصرت، ثم ركبت سيارتها الأنيقة، وذهبت لمطعم فاخر مع صديقتها، واشترت هي وصديقتها ما رغبتا في شرائه، أكلاً قليلاً وتركتا الكثير مما طلبتاه، ثم دفعتا المبلغ، وكان 400 دولار، ولكن السيدة دفعت 500 دولار، وتركت المتبقي لعامل المطبخ.
فهذه القصة تُؤكد أن الفصال أحيانًا كثيرة يكون مع شخص في حاجة للعطاء، في حين أنه يتلاشى تمامًا مع آخرين، وللأسف هذا ما يحدث في الحياة، فنحن نُفاصل مع مَنْ يستحق العطاء، وهذا سواء في المال أو النصيحة، أو المشاعر أو الشهامة، فهنا نُفكر آلاف المرات قبل العطاء، ربما ليقيننا لتقبله لأقل الأشياء بسبب شدة احتياجه، أو لإيماننا أنه يحمل مشاعر قوية وحقيقية لنا، لذا لن يقف على سفاسف الأمور، وسيتنازل عن بعض حُقوقه في سبيل إرضائنا، أو لإدراكنا أنه ليس بيده حيلة، فنستغل ضعفه، ونفرض آراءنا وشروطنا بمُنتهى القوة، وكل هذا رغم اليقين بداخلنا أنه يستحق أن يحصل على كل شيء بدون فصال.
والعكس صحيح، فمَنْ يضنّ في مشاعره، ويشحّ في ماله، ويستكثر العطاء، ولا يقنع بأي شيء، ولا يرتضي بنصيبه، نجد أنفسنا نمنحه بدون حساب، ولا نُفاصل معه، بل أحيانًا ما نبذح في عطائنا له، حتى نحصل على رضائه الذي نادرا ما يحدث.
والسؤال هو، لماذا نجد أنفسنا نأتي بهذا السلوك غير المفهوم؟ والحقيقة أننا لا نعرف على وجه التحديد ما الدافع وراء ذلك، ولكن كل ما في الأمر أنها مسألة نفسية بحتة، فدائمًا يزداد دلالنا على مَنْ يتحملنا، وتتزايد طلباتنا على مَنْ يجزل في عطائه لنا، ونُفاصل مع مَنْ نتأكد من احتياجه، ونُؤجل مَنْ لديه الاستعداد لانتظارنا.
وبالقطع، تكون سلوكياتنا على النقيض من ذلك مع مَنْ يتحفظ في عطائنا، وبحسب كل تصرف وكل كلمة وكل إحساس، وكأننا نُكافئ مَنْ يُقطر في عطائه، ونُعاقب من يجزل في مشاعره، وهذا السلوك المُتطرف ينم عن وجود حالة من الاضطراب بداخل الإنسان تدفعه إلى الاستهتار والاستهانة بمَنْ يُظهر المشاعر النبيلة، وتُجبره كذلك على احتواء مَنْ يُظهر اللامبالاة، وبالقطع هذا الاضطراب يقود إلى نتيجة مبناها عدم العدالة في السلوك أو ردود الأفعال، ومما لا شك فيه أن هذا الظلم والإجحاف سيخلق حالة من التمرد بداخل مَنْ يُعطون بغير حساب، ولا يجدون سوى الاستهتار والتجاهل والتعنت، في حين أن هذا السلوك لن يُعدل من تصرفات الأشخاص الأشحاء في مشاعرهم، بل على العكس سيزيد لامبالاتهم.
والأحرى بالإنسان أن يجعل من أحاسيسه ميزان عادل، يمنح من خلاله كل شخص ما يستحقه دون أن يدع نفسه لأهوائه، بل يجعل القيم هي ميزانه، فلا يأتي على الضعيف، ولا يُطأطأ رأسه للقوي، ولا يستخدم شطارته مع المُحتاج، ولا يجزل في العطاء مع مَنْ يملك كل شيء، ولا يتجاهل مَنْ يهتم به، ولا يهتم بمَنْ يتجاهله، فغير ذلك يكون هناك حالة من الاضطراب النفسي والبلبلة السلوكية، والشتات الذهني، علاوة على خلق حالة من التشويش الفكري لدى الآخرين، لاسيما وأنه لا تُوجد ترجمة أو تفسير منطقي لتلك السلوكيات غير السوية.
وأخيرًا، إذا كان ولابد أن نُفاصل، فعلينا أن نُفاصل مع مَنْ يملك ولا يحتاج، ويُفكر ألف مرة قبل أن يمنح أو يُعطي، فهذا هو مَنْ يستحق الفصال.
بقلـــم
د./ داليا مجدي عبد الغني