يمحو الذّنوب و يغرس في الإنسان خلق التواضع مع الخلق والخالق
موضوعات مقترحة
أحمد هلول
علاقة الإنسان بالله أو بغيره من بني جنسه علاقة قوامها الأدب في كل صوره وأشكاله، ومن صور الأدب بين الخلق أدب الاعتذار، والاعتذار هو إظهار الإنسان ندمًا على ذنب يقرُّ بأنَّ له في إتيانه عذرًا، وقيل: هو تحرّي الإنسان ما يمحو أثر ذنبه.
و يقول الشيخ محمد فكري الباحث في التراث الإسلامي قال الفيروز آبادي: إن الاعتذار على ثلاثة أنواع؛ فالنوع الأول أن يقول المعتذِرُ: «لم أفعل» والثاني أن يقول: «فعلت لأجل كذا وكذا» فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبًا مؤاخَذًا بذنبه، والثالث أن يقول: «فعلت ولا أعود» ونحو هذا مما يؤدي معناه، وهذا الثالث هو التّوبة، وكلّ توبة عذر، وليس كل عذر توبة.
وقد ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤكد على أن يحرص الإنسان على ألا يقع منه ما يحمله على الاعتذار، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه» وهذا أصل أصيل ينبغي أن يستمسك به العاقل، وإن كتب عليه أن يصدر منه ما يدفعه إلى الاعتذار فإن عليه أن يبادر إليه؛ فإنه أصفى للقلوب، وأطهر للنفوس، ويحمل على إفراغ القلوب مما قد يزيدها شحناء وبغضاء.
و أوضح انة من صور الاعتذار في حياة الصحابة الكرام ما يروى من قصة اعتذار عمر لأبي بكر، وأبي بكر لعمر، رضي الله عنهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبًا، فاتَّبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتّى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدّرداء: ونحن عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا صاحبكم فقد غامر» وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتّى سلّم، وجلس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، قال أبو الدّرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إنّي قلت: يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت».
و قال يذكر العلماء للاعتذار فوائد كثيرة، من أهمها: أن الاعتذار يمحو الذّنوب، حيث يعترف الإنسان بقصوره وتقصيره، مع الله عز وجل، فيستغفر الله جل وعلا على ما بدر منه، ويعترف بذنبه، ويقر بخطيئته، فيقبل الله معذرته، ويتوب عليه ما لم تطلع الشمس من مشرقها أو ما لم يغرغر العبد، وحسبك على ذلك دليلًا صيغة اعتذار العبد إلى ربه في صيغة سيد الاستغفار التي أشار إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».ومن فوائد الاعتذار أنه يغرس في الإنسان خلق التواضع مع الخلق والخالق سبحانه، وينفي عنه مفاتيح الكبر والاستعلاء على الناس، وفي هذا ما ينشر المودة والمحبة بين الخلق، فإذا تواد الناس وتحابوا وقعوا في مرضاة الله سبحانه، وهذه فائدة مركبة من فوائد انتشار خلق الاعتذار، فعلينا أن نعمل على ذيوعه وانتشاره.
و يقول الشيخ كمال محمد منصور الواعظ بالأزهر الشريف وعضو لجنة الفتوى بالأزهر ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ إحدى الثقافات التي غابت عنا، وضَعُف استخدامها بيننا، ولعلَّ معظم مجتمعنا يرى في ثقافة الاعتذار ضعفًا واستسلامًا، ولا تُعطى ثقافة الاعتذار حقها وقيمتها الحقيقية في المجتمع وبين أفراده ،و لا بدَّ من وجود شجاعة للاعتذار والاعتراف بالخطأ، وفي الوقت نفسه مطلوب شجاعة في قبول الاعتذار، وغالبًا ما تعود فكرة الاعتذار إلى شخصية المعتذَر له؛ كيف سيفهم الاعتذار؟! ضعفًا أم اعترافًا بالخطأ ونزولًا على الحق؟!
وقال هنا يُمكن للطرف الآخر أن يبادر ويعلن الاعتذار، والحرص على عدم فتح الموضوع أو الإشكالية بمجرد الاعتذار والاعتراف بالخطأ مطلوب؛ لأن إعادة المحاسبة والمعاتبة تُعيد فتح الجرح، وقد تؤدِّي لخلل أكبر، ولجرح أعمق؛ لذا فلتَغفِر للمُخطئ وتُسامحه، عندما تَشيع ثقافة الاعتذار وقبوله يعمُّ الحب والسلام مجتمعنا، وتسود فيه العلاقات الطيبة الصلبة، ونكون كالجسد الواحد فعلًا لا يحمل بعضنا لبعض الغلَّ والحقد والشر؛ لذا فلنزرع ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ وقبول الاعتذار، لنزرعها في نفوس أبنائنا، ولنغرسها في تربيتهم بأن نطبِّقها نحن في تعاملاتنا وعلاقاتنا، وأن نحمل هذه الثقافة في حياتنا،
وبالتالي تتنقل لأبنائنا والأجيال القادمة، ولنُعلمهم أن الاعتذار ليس ضعفًا، وأن الانقسام ليس بقوة، الاعتذار من شيم الكبار، فمثلاً الأنبياء كانوا يعتذرون عن أي خطأ يرتكبونه؛ موسى عليه السلام بعد أن وكز الرجل بعصاه فقتله: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، ثم قدم الاعتذار: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16]، وآدم عليه السلام اعترَف بذنبه عندما أخطأ هو وزوجه وأكَلا من الشجرة المحرَّمة: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
هنالك العديد من الفوائد للاعتذار، والتي تنعكس إيجابياً على المجتمعات المسلمة، منها ما يمحو الذنب، فهو دال على تواضع المعتذر وعدم مكابرته على الخطأ. المسلم الذي يقبل العذر من أخيه، يعينه دائماً على الاعتراف بالخطأ، وعلى فعل الخير. الاعتذار يجنب الناس الهلاك بسوء الظن وتقاذف التهم ويصفي القلوب. الاعتذار ينبع عن تواضع وإنصاف، كما أن قبول المعتذر إليه العذر يدل أيضاً على تواضعه، وإن الله يحب المتواضعين. الاعتذار يؤدي إلى استجلاب المنافع من المعتذر إليه. الاعتذار يجعل المجتمعات الإسلامية أكثر مرونة. اقتداء المعتذر بالصحابة -رضوان الله عليهم-، فقد كان الاعتذار أدباً مميزاً لمجتمع الصحابة.