Close ad

حكايتى: أمى التى لم أعرفها ..!

26-6-2024 | 18:50
حكايتى أمى التى لم أعرفها حكايتى: أمى التى لم أعرفها ..!

 

موضوعات مقترحة

حكايات من الواقع يكتبها: خالد حسن النقيب

ربما كانت الأم صاحبة قصة "أقف على حافة آخرتى" التى باعت ابنتها بعرض الدنيا مجرمة فى حق ابنتها و ربما قد يكون أكثر جرما و خطيئة أن تخرج من قبر الماضى شبحا مخيفا يفزع من حوله و أولهم ابنتها التى لم تكن تعرف شيئا عنها غير أنها ماتت منذ زمن و هى بعد طفلة صغيرة ، لا ترى فيها غير صورة مثالية للأم بكل كل ما تحمل فى قلبها من حنان و حب لم يمهلها القدر أن تمنحه ابنتها و رحلت عنها مبكرا تاركة لها إرثا من اليتم و الحنين لأمومة مفتقدة لم تجد عوضا عنها إلا احتضان جدتها لأبيها لها أما بديلة استطاعت أن تحقق لها التوازن النفسى فى حياتها حتى تفتحت زهرة حياتها للدنيا فكيف لشبح أم لم تكن أما حقيقية فى الماضى أن يأتى ليدمر حاضرا سعيدا و يدوس زهرة حياة إنسانة لم يكن لها ذنب فى الحياة غير أن لها أما خاطئة باعتها صغيرة و جاءت اليوم تقضى عليها كبيرة .

أجل يا سيدى أنا تلك الابنة الثكلى للحنان و الحب أكثر من خمس و عشرين عاما ، أنا من جائتنى أمى تلتمس منى حبا و وفاء ليسو عندى ، أنا من طردتها من بيتى كما طردتنى من حياتها و أنا لا حول لى و لا قوة ، هى اشترت بى غرائزها و المتعة الحرام و أنا اشتريت بها بيتى و أولادى و شرفهم و سمعتهم بين الناس .. !

أكتب لك بقلب ملؤه الخوف من نفسى فما كان قلبى موحشا قبل اليوم و استوطن الشر نفسى إلا يوم أن طردتها و إذا كان دينى يفرض علىّ أن لا أرد سائلا و إن أفزعنى فكيف بامرأة سكنت رحمها شهورا و إن لفظتنى و لكن ليس بيدى حيلة من أمرى غير لوعة أشبه بألسنة لهب تحرق النفس منى و تحيلنى رمادا جاحدا لأمى التى لم أعرفها .. !!

فى صغرى تفتحت عيناى على ملامح وجه جدتى ، كانت هى صورة الأم عندى بقسمات البراءة و الحنان تملأ الوجه منها ، سألتها يوما عن أمى عندما تفتح الوعى منى فقالت لى أمك أعظم أم فى الدنيا كانت تحبك أكثر من نفسها ، تحلم باليوم الذى تكبرين فيه و تراك عروسا جميلة فى بيتك و لكن القدر لم يمهلها، داهمها المرض و ماتت سريعا ، و عندما مات أبى و أنا فى الثانوية العامة بمرض السرطان تذكرت أمى و كيف ماتت بنفس المرض و كيف رسم القدر لهما نهاية واحدة، و عشت حياتى كلها أدعو لها و أبى بالرحمة فى كل مرة تلمس فيها جبهتى الأرض ساجدة و كان الله بى رؤوفا رحيما ، بعث لى بإنسان يحبنى و يتقى الله فىّ و رزقت منه بثلاثة أطفال هم كل شىء فى حياتى مازالو فى عمر الزهور ، بات لى بيت سعيد و زوج عظيم و أبناء هم الرزق و الهبة و المنة من المولى عز و جل كيف لى أن أدمر كل هذا مقابل حنينى لأمومة زائفة تتوارى خلف قناع شيطانة ماكرة ما جاءت إلا لتدمرنى و أسرتى .. !

طردت أمى و طردت معها استقرار نفسى و سكينتها ، جافانى النوم و قضت مضجعى أشواك السهاد تدمى وسادتى ندما و تأنيبا فمن طردتها أمى و ذلك ليس اختيارى و ما وقع منها ليس إلا قدرا كتبه الله علىّ و عليها و لست أدر إن كان مفروضا علىّ أن أتجرع مرارته و أثمل به حتى تلفظ الروح منى أم كان يجب على أن أتحمل إرثها الثقيل رغما عنى وفاء لأمومتها التى أوصانا بها الله عز و جل فى كتابه الكريم و على لسان نبيه محمد صلى الله عليه و سلم و إن كانت أعتاب الجنة تحت قدميها فكيف لى أن أدخلها بدونها حتى و إن كانت خاطية ، و لكن من أنا حتى أكون لها القاضى و الجلاد فى وقت واحد ، و إذا كان الله عز و جل قد شملها برحمته هل أغلق أنا عليها باب الرحمة ؟

و لكنى لست أدر ماذا أفعل ، لقد قرأت ما كتبت من عذابات أمى و توقها أن تحتصننى و تلقيت منك اتصالا طلبت منى فيه أن أصارح زوجى بحقيقة الأمر و أضع الموقف كله بين يديه لعله يعيننى على تجاوز ما بداخلى من صراع إلى قرار هو إلى الله أقرب .

و كان زوجى رجلا عاقلا ، تفهم موقفى و لم يمنعنى من أمى و لكن طلب منى أن لا نعلن عودتها و نتولى رعايتها إرضاء لله ، و اليوم جئتك كى أقابل أمى كما طلبت منى ، جئت أسترضيها تحتضن فىّ ابنتها الغائبة و أحتضن فيها أما لم أعرفها غير ذكرى لامرأة متوفاة .

س . م

كانت تقدم خطوة و تتأخر خطوات و ضربات قلبها تتعالى حتى تهتك صمت المكتب و ما أن وقعت عليها عيناها حتى ارتمت على صدرها تبكى بحرقة طفل ابتعد عن أمه رغما عنه ، لحظات خاطفة اختلط فيها البكاء بالضحك و تبللت الابتسامات بالدموع و تجلت آيات الرحمة فى قلب إنسانة استجابت لنداء أمها و قررت أن لا تحرمها من بنوتها .

عندما كتبت حكاية المرأة التى تقف على حافة آخرتها استرحمت ابنتها أن تأتى و تحتضن أمها و لو لمرة واحدة فى حياتها و ها هى اليوم تأتيها و تخطو على أعتاب جنتها تقبل أقدام الحب و الحنان فيها ، تملا الصرخة جوف الصدر منها لأول مرة .. أمى .. أمى .. أمى ..

و انتهت المقابلة التى رتبت لها فى المكتب و لكن بقيت الأم على حالها و ذهبت ابنتها لحياتها ، ليس الوفاء يا ابنتى لأمك و إن لم تعاشريها بعض جنيهات تلقيها فى حجرها و تمضى ، لابد و أن تدركى أنها مريضة و يتحشرج الموت فى أنفاسها يوشك أن يقضى عليها يوما ، و إذا كان الله قد كتب عليكى برها صفقة رابحة معه فعليكى أن تقومى على خدمتها ، علاجها ، رعايتها حبا و برا ، و ليس مطلوبا منك استضافتها فى بيتك و لا مواجهة المجتمع بها و لكن فقط برها فى آخر أيامها .

و صدق المولى عز و جل عندما قال فى محكم آياته ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء: 23-24).

الزمى يا ابنتى أمك ما بقى لها من عمر و إن طال و بريها و إن جافتك تنالين رضا ربك وتزرعين بذور خير فى نفوس أولادك تجنيها يوم هرمك برا منهم و وفاء و لله در رجل جاء إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أبوك ) صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم . رواه البخارى

اقرأ أيضًا: