شاهدت مؤخرًا فيلما تسجيليًا على إحدى القنوات الأجنبية يستعرض ظروف وملابسات اختفاء الإمام موسى الصدر بعد زيارة رسمية لدولة ليبيا فى ظل حكم العقيد معمر القذافى، وبدأت أستعرض فى ذاكرتى عددًا كبيرًا من الجرائم الغامضة التى لاتزال مفتوحة أمام الأجيال المتعاقبة لعل أشهرها مصرع الرئيس الأمريكى جون كيندى عام 1963 فى أثناء زيارته لولاية تكساس، ومازالت القوى التى وقفت وراء هذه الجريمة الكبرى باغتيال رئيس أكبر دولة فى العالم غامضة وثير العديد من الأسئلة المفتوحة والإجابات غير الكافية فى ظل إدارات أمريكية مختلفة، فلقد كان جون كيندى نمطًا مختلفًا من الرؤساء بشبابه وأفكاره ورؤاه، وهو ابن لسفير أمريكى سابق لدى لندن، وهو الذى تبادل الرسائل مع الزعيم العربى جمال عبدالناصر الذى قال فى إحداها لساكن البيت الأبيض عن الوعد البريطانى بالعمل على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين بأنه (وعدٌ ممن لا يملك لمن لا يستحق).
ولقد رحل كيندى منذ عدة عقود ومازال دمه موزعًا بين القبائل كما يقول المثل العربى، فهل الفاعل هو اليمين الأمريكى المتطرف الذى خشى من الرؤى الجديدة لرئيسٍ كان لا يزال فى الحلقة الأخيرة من شبابه بأفكار جديدة وحيوية دافقة أم هى إحدى الجماعات اليهودية التى رأت ضرورة التخلص من ذلك الرئيس الذى يمكن أن يكون متوازنا فى علاقاته بين العرب وإسرائيل، خصوصًا أن جون كيندى كان قد تبادل الرسائل الحادة مع بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل فى تلك الفترة، أم أنهم بعض العناصر المرتبطة بالمهاجرين الكوبيين فى ظل الصراع المحتدم للحرب الباردة بين الشرق والغرب، نظريات كثيرة وآراء مختلفة وتحليلات موجهة ولم تحسم لجنة (وارين) التى تشكلت رسميًا للبحث فى ظروف تلك الجريمة الكبرى الحقيقة الكامنة وراءها، ومازلنا نتذكر مصرع أميرة القلوب الحسناء ديانا الزوجة الأولى للملك تشارلز الثالث الذى يتربع حاليًا على عرش المملكة المتحدة فى صراع صامت بين السلطة والمرض، وكان مصرع الأميرة ديانا فى نهاية شهر أغسطس 1997 حدثًا مروعًا اهتز له العرش البريطانى وتعاطف معه الملايين فى أنحاء العالم الذين تابعوا باهتمام أخبار مصرع الأميرة البريطانية المثيرة للجدل فى حادث سيارة بأحد الأنفاق فى العاصمة الفرنسية، ومازالت أصابع الاتهام تشير - ولو من بعيد - إلى خيط رفيع يربط الحادث بالخلاف الحاد الذى كان قائمًا بين الأميرة وطليقها أمير ويلز حينذاك ولى العهد فى بلاط سان جيمس، وغطى ذلك الحادث المروع وقتها على وفاة الأم تريزا بتاريخها الإنسانى الدولى العريق، ولم يشعر الكثيرون برحيل سيدة عظيمة نذرت نفسها لخدمة الفقراء فى الهند وغيرها من بقاع العالم الذى خرجت إليه برسالتها الإنسانية من بلدها الأصلى ألبانيا.
تذكرت ذلك كله وأنا أتابع الفيلم التسجيلى عن الاختفاء الغامض لمؤسس حركة أمل الشيعية فى لبنان وزعيم المحرومين فى ذلك البلد العربى الشقيق، فقد تلقى الإمام دعوة من القائد الليبى لزيارة رسمية للقاء الزعيم المثير للجدل طوال الوقت، ومازلت أتذكر جيدًا وأنا أقف فى باحة مبنى معهد الدراسات الدبلوماسية بميدان التحرير فى أحد أيام عام 1978 وكنت وقتها سكرتيرًا أول عائدًا من لندن أتولى الإشراف على أبحاث الدبلوماسيين الجدد فى دوراتهم التدريبية بالمعهد، ورأيت المدير السفير إبراهيم صبرى وهو يهبط الدرج فى استقبال رجل طويل القامة ضخم الحجم يرتدى رداء أئمة الشيعة ويبدو مهيبًا فى نظراته للآخرين، وكان مدير المعهد الدبلوماسى وهو ابن إحدى شقيقات الزعيم الوطنى مصطفى كامل عائدًا من آخر موقع له فى الخارج كسفير لمصر فى بيروت، وإبراهيم صبرى بالمناسبة كان هو الذى وضع أسامة الباز تحت دائرة الضوء عندما اختاره مديرًا لمكتبه فى إدارة الأبحاث بوزارة الخارجية، ولقد لاحظت العلاقة الحميمة والوثيقة بين الإمام موسى الصدر والسفير المصرى مدير المعهد فى استقبال ضيفه الكبير القادم من بيروت ليلحق بطائرة فى رحلة خارجية، حينها بدأت أقرأ كثيرًا عن الإمام وجماعته وذكرتنى شخصيته إلى حدٍ كبير بالسيد جمال الدين الأفغانى، خصوصًا أن كليهما كان مرتبطًا بالدولة الإيرانية على نحو ما.
ومازال ملف اختفاء الإمام موسى الصدر مفتوحًا خصوصًا بعد رحيل القذافى وسقوط نظامه، ومازالت التحقيقات غير حاسمة فى ذلك الأمر وإن كانت تشير فى أغلبها إلى أن نظام العقيد هو الذى تخلص من الإمام الشيعى بقتله نتيجة خلافٍ فى تفسير آية قرآنية كان القذافى يسعى لتعديلها مما أزعج الإمام ومرافقيه فكانت نهايتهم المحتومة، هذه نماذج ثلاثة لجرائم غامضة فى التاريخ المعاصر وما أكثر الأحداث الملتوية فى حارات التاريخ السياسى، إنها قصص ترويها الأجيال وتغيب معها الحقائق وتختفى المشاهد، وتبقى السياسة الملوثة سيدة الموقف!
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: