رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

«كيف فعلها» الرئيس السيسى؟

على مدى عامين كاملين ظل إقليم الشرق الأوسط تحت ضغط غير مسبوق، كان من الممكن أن يجر الإقليم إلى حرب إقليمية واسعة. كل العوامل كانت تقود إلى هذا السيناريو المرعب؛ طرف لديه أهداف توسعية، ويحظى بدعم سياسى وعسكرى وإعلامى على المستوى الدولى الأمر الذى عزز فجوة القوة بينه وبين الطرف الفلسطينى الذى عانى فى المقابل من هشاشة سياسية داخلية بفعل تراكم العديد من الأوضاع الاستثنائية، خاصة منذ سيطرة حماس على قطاع غزة فى يونيو 2007. ورغم أن الوضع داخل إسرائيل لا يقل هشاشة من الناحية السياسية بالمقارنة بالطرف الفلسطيني، فى ظل سيطرة اليمين الدينى المتطرف على عملية صنع القرار، لكن هذه الهشاشة كانت عاملا إضافيا فى زيادة فرص جر الإقليم إلى الحرب. أضف إلى ذلك أن هذه الأزمة جرت فى لحظة لها خصوصيتها على مستوى النظام الدولي؛ فرغم صعود قوى دولية تتبنى خطابا مهما حول ضرورة الانتقال إلى نظام دولى متعدد الأطراف، لكنها لم تنتقل بعد إلى مرحلة تتبنى فيها «سياسات خشنة» لفرض هذا النظام من خلال التدخل الفاعل والمباشر، سواء العسكرى أو غير العسكري، الأمر الذى ساهم فى التحليل الأخير فى تفرد القوة المهيمنة الرئيسية، ممثلة فى الولايات المتحدة، كطرف أصيل فى إدارة أزمة غزة، وغياب ضغوط دولية حقيقية على الجانب الإسرائيلي.


رغم كل هذه المعطيات الخطيرة، نجح الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الوصول إلى الأهداف المركزية للدولة المصرية، والتى جرى تحديدها بشكل واضح منذ اليوم الأول للأزمة، وتمثلت فى ثلاثة أهداف رئيسة، هي: حماية الأمن القومى المصري، وحماية القضية الفلسطينية من التصفية، ومنع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة باعتبار ذلك هو الوجه الآخر لتصفية القضية الفلسطينية. عوامل عدة ضمنت نجاح الرئيس السيسى فى تحقيق هذه الأهداف:

أولها، قراءته الدقيقة والمبكرة لطبيعة الأزمة وتداعياتها المحتملة، والطريقة التى سيتم بها توظيف أحداث 7 أكتوبر 2023 لخدمة أهداف أكبر لدى إسرائيل، وهى أهداف مستقرة فى عقيدتها السياسية والدينية بشكل عام، ولدى التيار الدينى اليمينى المتطرف بشكل خاص. هذه القراءة شكلت حائط صد قويا أمام تمرير الجانب الإسرائيلى لأهدافه، ومثلت مدخلا مهما فى تحديد الموقف المصرى فى الأزمة.

ثانيها، الخلفية المهنية للرئيس السيسي؛ فلا شك أن خلفيته العسكرية وفرت له قدرة أكبر على قراءة الموقف بشكل استشرافي، وقدرة على إدارة الأزمة والتعامل مع أطرافها الدوليين والإقليميين، بل والأطراف المحلية داخل إسرائيل نفسها.

ثالثها، الإدارة العلمية المنهجية للأزمة، وتفكيكها بشكل يساعد على تعزيز مواجهة سياسات ومغالطات الطرف الآخر، فقد ركزت إدارة الأزمة على عدد من المسارات المتمايزة لكنها عملت بشكل متكامل فى الوقت نفسه؛ شملت المسار السياسى (من خلال الانخراط فى المفاوضات الخاصة بالهدن الإنسانية ووقف إطلاق النار، وتفويت الفرصة على الجانب الإسرائيلى للقضاء على هذا المسار من خلال طرح وتطوير أوراق مصرية محددة للتعامل مع المواقف المتجددة، والعمل على بناء كتلة دولية داعمة لإنهاء العدوان، والقفز مباشرة إلى بديل الاعتراف بالدولة الفلسطينية كأداة للتكريس الواقعى لمبدأ حل الدولتين، وتفنيد المغالطات الإسرائيلية حول الدور المصري، والحفاظ على قنوات اتصال مباشرة مع أطراف الصراع والقوى الدولية المعنية بإدارة الأزمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة رغم التباين المصرى مع المواقف الأمريكية المعلنة فى بعض المراحل، وغيرها). والمسار الإنسانى (من خلال ممارسة الضغوط لضمان نفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية داخل القطاع باعتبار ذلك شرطا ضروريا لتمسك الأشقاء الفلسطينيين بأرضهم ومواجهة المسعى الإسرائيلى لتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة). المسار العسكري- الأمنى (من خلال توظيف سياسة الردع للحيلولة دون توسع العدوان فى اتجاهات محددة، ورفض أية ترتيبات أو واقع أمنى/ عسكرى دائم داخل غزة يكون على حساب مشروع الدولة الفلسطينية، أو على حساب الأمن القومى المصري، وهو ما دفع إلى ضبط الجدال الدائر حول «اليوم التالي» فى غزة).

بجانب العوامل الثلاثة السابقة، هناك عامل رابع يتعلق بالعقيدة السياسية للرئيس السيسي. عدد قليل من القيادات السياسية فى العالم هو من يمتلك عقيدة سياسية واضحة، تمثل البوصلة فى حركتها السياسية الخارجية وإدارة مشروعها الوطنى، وتصبح هذه العقيدة أكثر فعالية عندما تضمن التكامل بين الحركة الخارجية للدولة ومشروعها الوطنى الداخلي. ونشير فى هذا السياق، إلى أن الرئيس السيسى هو واحد ممن ينتمون إلى هذا النمط القليل من القيادات السياسية فى العالم. الوقوف على طبيعة العقيدة السياسية للرئيس السيسى يحتاج إلى مساحة أكبر للتحليل، لكن يكفى أن نشير هنا إلى أنه من بين مكونات هذه العقيدة «التوظيف الذكى للقوة»، والتى تقوم على استخدام «مزيج» يضمن تحقيق الأهداف الخارجية بدون استخدام فعلى للقوة أو التورط فى عمل عسكرى خارجي. ليست هذه هى المرة الأولى التى تنجح فيها الدولة المصرية بقيادة الرئيس السيسى فى تحقيق أهداف خارجية من خلال استخدام هذا «المزيج» الذكي، فقد سبق توظيفه فى منطقة شرق المتوسط على نحو ساهم فى التحليل الأخير ليس فقط التعامل مع تهديدات محددة لكنها ضمنت تحول منطقة شرق المتوسط إلى أحد أهم مجالات الحركة الخارجية المصرية. من بين مكونات هذه العقيدة أيضا العمل على مسارين يبدوان متناقضين؛ هما تحقيق الأمن والتنمية معا؛ ذلك أن تعزيز الأمن يتطلب تحديث القدرات العسكرية وصولا إلى إمكانية تنفيذ عمليات عسكرية خارجية فى بعض الحالات، بينما تتطلب عملية التنمية التركيز على المشروع الوطنى الداخلى وتجنب التورط فى أى عمليات عسكرية خارجية. وعلى عكس الكثير من القيادات السياسية، فإن العقيدة السياسية للرئيس السيسى تقوم على العمل على المسارين معا، وبشكل يضمن التكامل بينهما. فى هذا السياق، يمكن فهم حرص الرئيسى السيسى على توظيف البيئة الإقليمية لخدمة المشروع الوطنى الداخلي، من خلال مسارات عدة، أبرزها العمل على عودة الدول المأزومة إلى مسارها الطبيعي، والحفاظ على الثوابت الرئيسة التى قام عليها -ولايزال- أمن الإقليم. لكن كل ذلك، لم يكن ليتحقق بدون تعزيز الرئيس السيسى للقدرات العسكرية والدفاعية المصرية للحفاظ على حالة الردع، مع وجود حالة التناغم القائمة بين كل المؤسسات الوطنية المصرية المعنية بحماية الأمن القومى المصري. تلك هى بعض الشروط التى ضمنت استخدام المزيج الذكى لحماية الأمن القومى المصرى والوصول إلى الأهداف المصرية.

***

عدد قليل من القيادات السياسية فى العالم هو من يمتلك عقيدة سياسية واضحة، تمثل البوصلة فى حركتها السياسية الخارجية وإدارة مشروعها الوطنى، وتصبح هذه العقيدة أكثر فعالية عندما تضمن التكامل بين الحركة الخارجية للدولة ومشروعها الوطنى الداخلي. ونشير فى هذا السياق، إلى أن الرئيس السيسى هو واحد ممن ينتمون إلى هذا النمط القليل من القيادات السياسية فى العالم.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: