رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

نحو نسخة أخرى من خطة ترامب بشأن غزة

قد يبدو السؤال المطروح فى عنوان هذا المقال غير مستساغ بالنسبة للبعض، انطلاقا من صعوبة تصور تنازل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن خطته المعلنة فى أواخر سبتمبر الماضى بشأن الوضع فى غزة، لكن فى رأيى لا يمكن استبعاد تطوير هذه الخطة لنكون أمام نسخة أخرى تتعامل مع قضايا إضافية لم تتناولها النسخة الراهنة. ويستند هذا الافتراض إلى اعتبارين أساسيين، أولهما التطور الذى طرأ على موقف الإدارة الأمريكية، ويكفى هنا أن نقارن بين الخطة الحالية المعلنة وموقف هذه الإدارة نفسها منذ شهور قليلة والتى كانت تتحدث عن تهجير الفلسطينيين من القطاع، وعن حضور عسكرى أمريكى مباشر، فضلا عن تجاهلها الحديث عن وقف إطلاق النار. هذا التغير لم يأت من فراغ، لكنه جاء نتيجة جهود ضخمة لعبت فيها الدولة المصرية الدور الأكبر، لحلحلة الموقف الأمريكى وتشكيل كتلة دولية تدفع فى اتجاه إنهاء العدوان، وتشكل ضغطا على دولة الاحتلال، وتؤمن بحق الفلسطينيين فى تأسيس دولتهم استنادا إلى مبدأ حل الدولتين. هذا التغير فى الموقف الأمريكى لا يمكن فهمه بمعزل عن التحول الذى طرأ على الموقف الدولى، والذى عكسه بوضوح توالى الاعترافات بالدولة الفلسطينية. ثانيهما، يتعلق بطبيعة أى طرح أو مبادرة سياسية، فهو قابل للتطوير والتعديل فى سياق التفاعل المباشر بين أطراف الصراع المباشرين والوسطاء، وفى سياق ما سيسفر عنه التطبيق الفعلى. لكن بالتأكيد فإن الانتقال إلى نسخة أو صيغة جديدة من المبادرة الأمريكية الراهنة سيعتمد على قدرة الطرف الفلسطينى والأطراف الداعمة له على انتزاع تنازلات جديدة، وإقناع الطرف الآخر بأن تعديلات ضرورية على المبادرة القائمة تفرض نفسها على الجميع، وخلق واقع دولى ضاغط للانتقال إلى نسخة معدلة.


خطة ترامب تضمنت نقلات نوعية مهمة بالمقارنة بما كان يُطرح سابقا من جانب الإدارة الأمريكية، وبالمقارنة بالطبع بالأهداف الإسرائيلية. ست نقاط مهمة تضمنتها المبادرة. أولاها، الحديث عن وقف إطلاق النار وإنهاء العدوان، وهو ما تجاهلته أى طروحات أمريكية سابقة؛ إذ ظل السقف الأمريكى متوقفا عند فرض الهدنة وتبادل الأسرى والمحتجزين بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى. ثانيتها، الانسحاب الإسرائيلى من قطاع غزة حتى وإن ظل مرتبطا بشروط أخرى، ثالثتها استئناف نفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى داخل غزة وتوزيعها من خلال الأمم المتحدة ووكالتها والهلال الأحمر، وليس من خلال سلطة الاحتلال، وبما يتوافق -كحد أدنى- مع ما جاء فى اتفاق ١٩ يناير الماضى، بجانب إعادة تأهيل البنية التحتية الضرورية من مياه وكهرباء ومستشفيات ومخابز وإدخال المعدات اللازمة لذلك. رابعتها، التأكيد على عدم احتلال إسرائيل قطاع غزة أو ضمه إليها، على عكس ما كان يسعى إليه التيار الدينى المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية. خامستها، إنهاء مسألة التهجير القسرى، من خلال التأكيد على عدم إجبار أى مواطن على مغادرة القطاع وضمان حق العودة لمن يترك غزة طواعية، والعمل على تشجيع مواطنى غزة على البقاء بالقطاع. سادستها، التأكيد على حق الفلسطينيين فى تقرير المصير وإقامة الدولة باعتباره طموحًا فلسطينيًا.

حسنا فعلت حركة حماس عندما أعلنت موافقتها على المبادرة رغم ما لديها -ولدى كثيرين بالتأكيد- من تحفظات على بعض ما جاء بها، سواء لجهة إغفال المبادرة بعض القضايا المهمة، مثل عدم الحديث عن مبدأ حل الدولتين كأساس لتسوية الصراع، أو لجهة بعض الإشكاليات المرتبطة بما جاء بالمبادرة حول «مجلس السلام»، الذى سيشرف على الحكومة الفلسطينية الانتقالية بالقطاع، أو «قوة الاستقرار» التى سيتم نشرها بالقطاع باعتبارها -حسبما جاء بالمبادرة- الحل الأمثل للأمن الداخلى بالقطاع على المدى الطويل، أو لجهة نزع سلاح حماس. كما سبق القول، وفى ظل الفجوة الضخمة بين طرفى الصراع، وفى ظل الدعم غير المحدود الذى تحظى به دولة الاحتلال، لم يكن من المتوقع أبدا أن تأتى المبادرة الأمريكية للتعامل مع كل الطموحات أو الرؤى الفلسطينية. إننا إزاء طرح أو إطار سياسى، يتضمن الكثير من النقاط الإيجابية، التى نحتاج إلى تعزيزها والبناء عليها، وهو ما يفتح المجال أمام جولة جديدة وضرورية من الجهد الدبلوماسى والسياسى لخلق واقع دولى يعزز، أولا، من تطبيق المضامين الإيجابية الواضحة بالمبادرة، ويساهم، ثانيا، فى خلق استعداد أمريكى ودولى لتطبيق المضامين الإشكالية الأخرى بالشكل الذى يقترب من الرؤية الفلسطينية ويعزز المصالح الفلسطينية العليا. إن أى مبادرة سياسية كما أنها ترتبط برؤية من طرحها، فإن شكلها الأخير يرتبط أيضا بمن شاركوا فى تطبيقها. أضف إلى ذلك، فإن الواقع الدولى نفسه قد يشهد تحولات، وتغيرات فى بنية الأطراف المعنية بتطبيق المبادرة على الأرض، الأمر الذى قد يجعلنا عمليا أمام نسخة أخرى من المبادرة الأمريكية.

بالإضافة إلى الجهود السياسية والدبلوماسية المطلوبة للتعامل مع المضامين الإشكالية بالشكل الذى يضمن اتخاذها مسارا يعزز المصالح والرؤى الفلسطينية، فإن هناك استحقاقات فلسطينية يجب ألا تكون موضوعا للخلاف، ولم تعد أمرا ترفيا، وعلى رأسها مسألة تسريع وتعميق عملية الإصلاح داخل البيت الفلسطينى. أهمية هذا الملف أنه أصبح أقرب إلى كونه شرطا أساسيا لانتقال الأطراف، حال بدء تطبيق المبادرة، إلى قضايا مهمة؛ إذ اعتبرت المبادرة الأمريكية أن تنفيذ برنامج إصلاح السلطة (قد) يهيئ الظروف لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطينى وإقامة الدولة.

خلاصة القول، يجب أن ننظر إلى المبادرة الأمريكية الأخيرة باعتبارها إطارا سياسيا، لم يكن من المتوقع أبدا أن يكون إطارا مثاليا يتعامل مع توقعات ومطالب أحد طرفى الصراع دون الآخر، لكنها تضمنت بالفعل العديد من المضامين الإيجابية المهمة. كما أن الشكل الأخير من المبادرة سيعتمد على عملية التطبيق، والتى يجب أن ترتبط بجهود سياسية ودبلوماسية تعزز المصالح الفلسطينية، لكن بالشكل الذى يجنب الفلسطينيين خسائر تاريخية أخرى فى ظل واقع دولى وإقليمى معقد، بل وفى ظل بيئات داخلية ليست أقل تعقيدا على مستوى طرفى الصراع.

 

إن الانتقال إلى نسخة أو صيغة جديدة من المبادرة الأمريكية الراهنة سيعتمد على قدرة الطرف الفلسطينى والأطراف الداعمة له على انتزاع تنازلات جديدة، وإقناع الطرف الآخر بأن تعديلات ضرورية على المبادرة القائمة تفرض نفسها على الجميع، وخلق واقع دولى ضاغط للانتقال إلى نسخة معدلة 

[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات

رابط دائم: