اهتز ضمير البشرية وكبرياء أبناء العصر أمام عمليات القتل الجماعى التى مارستها إسرائيل على أبناء غزة الجياع وهم يبحثون عن طعام يسد رمقهم فإذا بالسلاح الإسرائيلى الخبيث يمارس دوره المعتاد باصطياد العشرات بل المئات فيحصد أرواحهم، وكأنما ذلك هو الطعام الموعود، فالمحكوم عليهم بالإعدام تلبى طلباتهم قبل الرحيل من طعام وشراب وعلاج فإذا أطفال فلسطين وصبايا ذلك الوطن الجريح يستقبلون الرصاص القادم إليهم منطلقًا بدم بارد دون أن تهتز شعرة فى ضمير المجتمع الدولى الذى لايزال يقف متفرجًا ويرقب المشهد عاجزًا أمام جرائم إسرائيل التى فاقت الحدود، وتجاوزت كل التوقعات، وما أكثر شهداء فلسطين الذين رحلوا وهم جوعى، والذين سقطت أجسادهم متراكمة إلى جانب الطعام الموعود الذى حلم به هؤلاء الشهداء ولن ينالوه إلا فى الحياة الآخرة، حيث العدل الإلهى بقدرة الخالق عز وجل على إحقاق الحقوق وإقرار العدل الذى نفتقده حاليًا كما لم يحدث فى تاريخ البشرية من قبل. والمرء يدهش – من مختلف الثقافات والديانات والقوميات - كيف أصبح توزيع الطعام على جياع غزة مصيدة بشرية ومذبحة فورية بلا سبب ودون مبرر!.
وهنا لابد لنا من وقفة نتأمل فيها ذلك المشهد الحزين لما جرى وما يجرى على امتداد أرض الشهداء فى غزة وغيرها من المواقع التى شهدت المجازر البشرية ولاتجد لذلك صدى إلا صياح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش الذى امتلك الشجاعة من اليوم الأول مدافعًا عن الشعب الفلسطينى المقهور فى أرضه، المغدور به فى وطنه، فبعد أن قضى الاحتلال على وكالة الأنروا المعنية بشئون اللاجئين والتى أمضت عدة عقود فى أداء دورها الدولى والإنسانى وعاش بها ومعها مئات الألوف من أبناء غزة والمناطق الأخرى المنكوبة بالاحتلال الإسرائيلى لنكتشف اليوم أنها كانت تضم متعاطفين ومناصرين لقضايا الشعب الفلسطينى ومطالبه العادلة، حتى بلغ الأمر حد قصف مقارها وقتل أعداد من العاملين فيها، ولم لا إنها لغة الغاب وشريعة أعداء الحياة والحرية فى كل زمان ومكان. ولنتوقف الآن عند النقاط التالية:
أولًا: نتساءل كيف غاب الضمير البشرى وتكلست المشاعر الإنسانية لنصل إلى هذا المستوى من الانحطاط فى التعامل بين أطراف النزاعات المختلفة، مع أن المفترض هو أن الإنسانية قد بلغت مرحلة من النضوج الأخلاقى والتطور الفكرى يجعلها قادرة على تجنب جرائم الحرب واحترام آدمية البشر، ولكن من المؤسف أن ذلك لم يحدث، بل إننى أحسب أن البشرية اليوم تتراجع فى مشاعرها وأخلاقياتها على نحو لم نعرف له مثيلاً، حتى أصبحت المجازر البشرية والجرائم الأخلاقية أمرًا مألوفًا وتصرفًا شائعًا يثير التعاطف بعض الوقت، ولكنه لا يؤثر فى الجميع كل الوقت، بل تحول القصف الجوى إلى رسالة يومية تحصد مئات الأرواح بلا ثمن، ودون مبرر كل ذلك فى ظل تداعيات دولية وإقليمية تثير القلق الحقيقى على المستقبل وتدعو إلى شعور عام بالخوف فى ظل السيد الجديد للبيت الأبيض الذى يصعب بل يستحيل التنبؤ بقراراته وتوقع سياساته.
ثانيًا: إن ما جرى وما يجرى بين إيران وإسرائيل هو مواجهة تاريخية بين الشرق والغرب، أو بين تقاليد الحضارات القديمة فى جانب ورعونة التصرفات العنصرية الجديدة فى جانب آخر، فالولايات المتحدة الأمريكية تستخدم إسرائيل فى إطلاق نوبات الكراهية ونشر أسباب الرعب فى ظل تصور أحمق بأن الأمر سوف يظل على هذا النحو دائمًا.
ثالثًا: واهم من يتصور أن دماء الفلسطينيين وضحايا جرائم إسرائيل سوف تضيع فى منعطفات التاريخ وبعض صفحاته المطوية، فالأمر غير ذلك تمامًا، فلن تنتهى ملفات العصر إلا وصيحات الاستنكار الإنسانى تصك الأسماع وتهز القلوب، فلقد كنا نعرف من قبل حروب المواجهة العسكرية وحروب الاستنزاف المرحلية، ولكننا أصبحنا أمام أنماط جديدة من الحروب تطفو على السطح منها حرب التجويع التى اخترعها الاحتلال الإسرائيلى لتدمير البقية الباقية من أرواح أبناء غزة أطفالاً ونساءً تحصد آلة الحرب الإسرائيلية عشرات الألوف منهم بلا رقيب يحاسب أو ضمير ينصح، إننى أشعر بالأسف والأسى وأنا أشهد المجتمع الدولى وقد بدأ يعتاد على ما يراه ويسمعه وكأن هؤلاء الضحايا ليسوا بشرًا وكأن هذه الدماء رخيصة وأن الأرواح بلا ثمن.
رابعًا: إن التحية الواجبة للشهداء من جوعى أبناء غزة وملحقاتها سوف تظل وخزًا فى ضمير العصر وسبة فى جبين الإنسانية. وهى جرائم لا تسقط بالتقادم، ولكنها تظل فى ذاكرة الإنسانية إلى أبد الآبدين.
تحية لشهداء الحياة من الباحثين عن الطعام تحت زخات الرصاص وقصف القنابل، وسوف يستيقظ الضمير الإنسانى يومًا ما لينال أصحاب الحق ما ينتظرون وينال مجرمو الحرب ما يستحقون.!.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: