ليس توقًا إلى حياةٍ بدائية بمقدار ما هو استياءُ من خواء الحضارة الصناعية وتداعياتها التى تُشّوه الكائنات البشرية، وتجردها من القيم الإنسانية. لا تُنكر إنجازات هذه الحضارة. ولكن لا تخفى فى الوقت نفسه آثارُها المؤذية المتزايدة. أصبحت سيئاتُها تفوق حسناتٍها التى تتجلى فى تقدمٍ علمى متسارع، ولكنه يحملُ أضرارًا وأخطارًا مثلما يُحّقق منافع وفوائد. َقَدمُ يبلغ مستوياتٍ لم تكن متخيلة. لكنه ينطوى، فى المقابل، على كثيرٍ مما يُفسد العقل والروح والحياة فى آن معًا.
حضارةُ تبدو لامعةً براقة ساطعة، ولكن السواد يغشاها من كل جانب. حضارةُ تُهدى البشر بيدٍ ما يفيدهم وينفعهم، وتحمل فى اليد الثانية ما يضرهم ويُدمر أرواحهم وإنسانيتهم. تُحقَّق ازدهارًا، مثلما تخلق بؤسًا. وبأى حسابات موضوعية، نجد أن البؤس يفوق الازدهار. البؤساء فى عالم اليوم أكثر بؤسًا ممن سعى فيكتور هوجو إلى التعبير روائيًا عن مظالمهم فى القرن 19. الجحيم البشرى، الذى كتب عنه فى مستهل روايته، صار أكبر وأوسع نطاقًا. ليست أعداد البؤساء وحدها التى ازدادت، بل أحوالهم التى صارت أكثر بؤسًا، رغم أن ثروات العالم الآن باتت تكفى لانتشالهم إن وُزعت بشكلٍ أقل ظلمًا، بخلاف ما كانت عليه قبل ما يقربُ من قرنين. كما يطولُ البؤس نفوسًا وأرواحًا على نحوٍ لا سابق له.
لا يغُرَّنك ما تبدو حريةً يتمتع بها البشر فى الدول التى قطعت أشواطًا أبعد من غيرها نحو هذه الحضارة. تُصادرُ هذه الحرية من وقتٍ إلى آخر كما رأينا فى منع رافضى جرائم الحرب الصهيونية فى بعض الدول «الحرة» من التعبير الحُر عن مواقفهم، كما أنها فى كل الأحوال ليست إلا قشور حريةٍ مكبلة بقيود جديدة نوعيًاٍ تنتجُ عن سطوة التقنيات الرقمية، والتغول الخوارزمى إن جاز التعبير، إذ صار الكائن البشرى مرصودًا من الشركات الكبرى التى تُنتج هذه التقنيات وتتحكم فى عوالمها، وليس فقط من السلطات التى قصدها جورج أورويل فى روايته «1984».
والحال أن عالم الحضارة الراهنة يزدادُ خواءً بمقدار ما تُفقدُ فيه الروح, ويتحكمُ طامعون ومجرمون فى مصائر شعوبه.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: