الشهادة على مجتمع ما فى فترة ما تكتبها الريشة ويرسمها القلم.. تسجلها اللوحات بالألوان، وتُدونها الأقلام بمداد الذكريات.. المذكرات.. كرسى الاعتراف.. الذى تسائل النفس هل أستطيع الجلوس إليه بنية خالصة لقول ما لم أفصح عنه من قبل؟ أن أفتح درج الأسرار وأمزق الشرانق وأرفع الستار وأهد الحيط وأخترق الحواجز وأخلع البراقع وأنسف الموانع وأطلق المسيرات وأشغل الرادارات وأفهرس الجينات وأفك الطلاسم وأنزع الأختام، وأندس ما بين السطور والتنويهات والتشبيهات، وأستغرق فى المدسوس والمكنون والمركون والمستبعد كلية، والمؤجل إلى حين.. ليلتقى المخبأ الدفين بوهج الكشف وفيض الوضوح نافضا عن كاهله تراب أزمنة الكمون.. قرار البوح.. نزع الخوف من القلب.. تقليم أظافر غول التردد.. سونامى الشجاعة.. أنا ومن بعدى الطوفان.. خلاص حصل ما حصل.. أفعال ارتكبتها فى الخفاء حان قطافها وسردها بحلوها ومرها.. مواقف افتعلها أو جاءت بها الصدفة.. أشخاص لهم الفضل والأثر وآخرون مروا مرور الكرام، وغيرهم وغيرهم وغيرهم حسبى اللـه فيهم ونعم الوكيل منهم لآخر العمر.. خروج الساحات الخلفية للمسرح الأمامى.. كومبارس الأحداث يلعب دور البطولة.. مواجهة ما قد كان ليكون.. النظر إلى الماضى بعين الحاضر.. الفضفضة من بعد الخصخصة.. جواز المرور لحقائق كان قد صدر فرمان بمنعها من التجوال والسفر.. فى سرد السيرة الذاتية مرحبا بخروج الصرخة المكتومة بالأعماق، والكدمة المزمنة منذ الطفولة، ونزول الدمعة المحبوسة عمرًا في المآقى، وجلجلة الضحكة التى قطعها حادث أليم، وإبداء قاطع الرأى فى البين بين، ونغبشة القلب التي أحدثتها نظرة، وارتعاشة الكتف تحت اللمس الرحيم، وشروخ وحطام من جراء خيانة، وعبارة هبطت سوطا أدمى الكرامة، ووالد وما ولد، وأم لها أبلغ الأثر، ودخيل استرق النظر، وصديق كان خلا وظلا ورفيقا وأخا، وحبيبا خان الود والعهد والموعد، ودرس كان عبرة لمن اعتبر، ومشوار قاد للتهلكة، وإياب سكن فيه الترقب والحذر، وأبيات شِّعر فى جوانبها المحتوى، وأغنية جاءت على الجرح التهب، وليلة أُنس بالعمر كله، وموقف كأنه يوم الحشر، ورسالة أعادت الضال لمآله الآمن، ومسيرة اضطرار وشهادة حرج وصحبة إجبار وعطاء ابتزاز وزيف اعتراف وذكرى لا تنام، وموقف لا يغتفر للئام.. الخ.. أن أكتبنى.. أن يقرأ أحد تاريخى. أن يدخل آخر أعماقى.. أن يسكن غريب كلماتى.. أن ينتمى لى اللامنتمى.. أن يطوى المهمل صفحاتى.. أن يكشف عابر سبيل ما تحت الغطاء.. أن أغدو سلعة للشارد والوارد.. أن يسبح هاو فى ثنايا دهاليزى.. أن يطرق غريب غرفي الخاصة، ويلامس أشيائى الخاصة، ويعايش أحلامى الخاصة وأيامى الخاصة وشخوصى الخاصة!!!
فى مجال أدب الاعتراف هناك «السيرة الذاتية» التى يكتبها المرء مُعبرًا عن تجارب شخصية وحكايات ذاتية قد تكون في شكل يوميات أو رواية أو مجموعة قصص أو حتى مسرحية ومن الأمثلة «أصابعنا التى تحترق» التى يسرد فيها صاحبها الأديب سهيل ادريس حول معاناة الكاتب الذي يُصارع واقعه وذاته، ومثل «أوراق حياتى» لنوال السعداوى، وهناك «السيرة الغيرية» التى تسرد حياة أحد الأشخاص الأُخر بجميع أبعادها، ولقد جمع عباس محمود العقاد بين السيرتين عندما كتب عن ذاته في مؤلفه «أنا» الذى أجاب فيه عن كثير من تساؤلات أهل عصره، كما غطى بعض جوانب حياته وفلسفاته، وكان يريد أن يُسميه «عنى» ولكنه رحل قبل أن يضيف إلى كتابه الكثير، وفى نفس الوقت قام العقاد بكتابة السيرة «الغيرية» حول الرسول صلى اللـه عليه وسلم وأصحابه فى «عبقرياته» الخالدة.
وتعد «المدونات» إحدى فروع السيرة الشخصية علي وسائل الاتصال الحديثة لنشر الأفكار والخواطر واليوميات والفلسفة والفكر والأدب والعلوم ويومًا بعد يوم أصبح التدوين يستقطب عددا من المشاهير يتصدرهم الكاتب البرازيلى باولو كويليو التى يدوِّن فيها يوميا انطباعاته في أمور شتى تاركا فرصة الاتصال المباشر مع القراء بحيث يطرح على سبيل المثال سؤالا فلسفيا وينتظر إجاباته أو يسأل القراء عن أكثر شخصيات رواياته تأثيرًا فيهم ولماذا، وكان باولو قد زار القاهرة فى صيف 2004 ليستضيفه فى منزله كل من الأستاذ هيكل ونجيب محفوظ ليكتب باولو عن لقائه بأديب نوبل فى مذكراته «دعانى العبقرى بلطف بالغ لتناول الشاى فى منزله لأعتز بصورتى معه».
وترتبط الرسائل بفن السيرة الذاتية عندما يتوفر لها خصائص اليوميات الصادقة كما في رسائل نابليون بونابرت لجوزفين، وفي أعمال «بلزاك» التى عنوانها «الغريب» ورسائل الفنان «فان جوخ» لشقيقه، ومن الرسائل العربية ذات القيمة رسائل مى زيادة وجبران خليل جبران، ورسائل غسان كنفانى لغادة السمان.. والكلام عن الذات لم يأخذ نصيبا كبيرا في الثقافة الإسلامية لكنه جاء بمثابة الكلام العارض، وكان التركيز على السير لخدمة النص الشرعى وليس لخدمة الشخص أو اظهار مناقبه.. التعرض للشخص كان فقط لخدمة الموضوع، وتعد كتب «الجرح والتعديل» هى العلم الذى يركز على سير الشخصيات والرواة للأحاديث النبوية للاستقرار على الصحيح منها والضعيف، فمن خلال دراسة تاريخ حياة الرواة قد يجاز الحديث أو يُستبعد، فقد يكون راوى الحديث النبوى الشريف فاسدا أو مهزارا أو سفيها أو أصابته لوثة في نهاية عمره، ومن هنا لا يؤتمن على ما ينقله.. والمؤرخون المسلمون لم ينشروا تلك السير وإنما حققوا في تاريخ أصحابها فقط حتى يؤخذ أو لا يؤخذ الحديث عنهم، وقد اهتموا بتاريخ رواد الطرق والفقهاء والصحابة والتابعين وتابعى التابعين خاصة عندما انتشر افتعال الأحاديث وظهور الإسرائيليات وانتشار الاختلاق، وقد بلغت دقة التحقيق لتنقية الأحاديث أن كان الواحد منهم يركب راحلته من مكة إلى اليمن للتأكد على الطبيعة من أن أحد الرواة قد قال الحديث أم لا؟.. وقد أتى في القرن العشرين الباحثون المحدثون لكتابة السير الشخصية للمسلمين الأولين والصحابة معتمدين علي كتب «الجرح والتعديل» الغنية بالحقائق والتفاصيل، وإذا ما كان الضوء قد ألقى على الكثير من السير الذاتية لعلماء العرب في الثقافة المعاصرة فلم يزل هناك من لم يأخذ نصيبه المفروض من الضوء أمثال «بن عربى» أحد أقطاب الصوفية الذى يعتنى به الأوروبيون الآن كأحد ظواهر الريادة الفكرية فى التاريخ عامة، بينما هناك من يخسف به مجرحا شهادته وما كان من شطحاته الصوفية التجريدية التي حلق فيها فوق الواقع متخيلا كمثال سيدنا الخضر يمشى أمامه.. هذا وإن كان قد صدر أخيرا المؤلف الضخم «موت صغير» المستوحى من السيرة الشخصية لابن عربي للكاتب والروائى السعودى محمد حسن علوان الحائز على جائزة بوكر وفيه جاء قول القطب صاحب السيرة ملخصا لمسيرته: «منذ أوجدنى اللـه فى بلدة مرسية حتى توفانى فى دمشق وأنا فى سفر لا ينقطع. رأيت بلادا ولقيت أناسا وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريق قدره اللـه لي قبل خلقى. من يولد فى مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن فى سفر دائم، والوجود كله سفر فى سفر.. من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم».

السيرة الذاتية العربية في مجملها تعد الأقل صراحة بين السير العالمية، فهي تتحسس طريقها الشائك بسطور متراجعة تخوفا من سياط النقد والتشهير والتهويل والقذف الذى قد يصل لمعدل التكفير، ومثال عندما أسر نجيب محفوظ للكاتب الناقد رجاء النقاش عن عالم النساء فى حياته قامت الدنيا ولم تقعد.. والدكتور لويس عوض عندما كتب فى سيرته الذاتية عن ظاهرة العقم داخل أسرته ثارت الأسرة وهاجت وماجت.. والشاعر عبدالرحمن الأبنودى عندما كتب عن ليلة دخلة أمه انبرى المؤنبون يتهامسون عن مدى تطاول الابن على قدسية منزلة الأمومة.. الثقافة العربية محافظة بطبيعتها إلى حد أن هناك سدًا عاليًا يتراءى فى الأفق لكل من يهم بكتابة أدب الاعتراف، فما يمكن قوله أقل بكثير جدًا مما يمكن نشره وما يمثله من حكى متجرد لآثام المثقف ومعاناته ونقائصه يمثل مخاطرة للأديب وسط تلك الدوائر الرقابية التي تبدأ من منزله ولا تنتهى بقارئ مجهول، وأبلغ مثال عندما عمد أبناء الناقد المصرى الدكتور شكرى عياد «1921 ـــ 1999» بسحب جميع نسخ كتابه الاعترافي «العيش علي الحافة» مبررين ذلك بأن فيه ما يعرضهم للحرج.. المثقف العربي يخشي البوح الصريح المطلق لأنه لا أحد يحب أن يكون محط أنظار الجميع ووضعه بخلجاته الإنسانية تحت مجهر المؤاخذة الشرهة بمعنى: «أنا أخلق نصوصى من وحى شخصياتى لكنى لا أكتبنى.. أحب أن أحتفظ بي لنفسى. أحب أن أشارك الناس خيالى لا واقعى».. وعمومًا فإن تسجيل سير الحياة يقابله معوقات كثيرة أهمها في تعذر استرجاع الذكريات إذ الكثيرون ينسون ماضى حياتهم، لاسيما طفولتهم، وما يذكرونه عنها هو ما رواه لهم الآباء والأجداد، وقد يعمد بعض الكتاب إلى استخدام أطياف من السير الذاتية في قصص يترجمون فيها لحياتهم أو بعض جوانبهم كما كان يفعل سومرست موم في معظم رواياته، ونجد هذا الاتجاه واضحًا فى «الحي اللاتينى» لسهيل ادريس، و«البيضاء» ليوسف إدريس، وثلاثية «بين القصرين وقصر الشوق والسكرية» لنجيب محفوظ ولكن تظل السرية نمطا بارزا في التراث العربى الذى ينصح بالكتمان: «لا تظهر كوامن صدرك بإذاعة سرك فيمكر بك حاسدك»، وفي ذلك يقول الأديب محمود تيمور: «نحن الشرقيين نحيا فى دنيانا هذه وعلي أخلاقنا وسلوكنا قناع غليظ، قلما نقول ما نعتقد وقلما نصارح بما نجد، وقلما نعبر عما تطويه السرائر.. كلنا متستر يداجى ويوارب»، ويرى أحمد أمين: «إن للنفس أعماقا كأعماق البحار، وغموضا كغموض الليل، والوعى واللاوعى، والعقل الباطن والظاهر، كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال وفهمها من ضروب المحال، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشىء إذا ما ازداد قربه صعبت رؤيته»، أما ميخائيل نعيمة فيقرر فى سيرته الذاتية «سبعون»: «إن حكاية ساعة واحدة من ساعات العمر أمر صعب فكيف يمكن حكاية سبعون سنة»، ويرى توفيق الحكيم فى سيرته «سجن العمر» 1967 أنها صفحات ليست مجرد سرد وتاريخ لحياة بل إنها تعليل وتفسير للحياة»، وغالبا ما تتفشى بداخل السيرة الذاتية العربية برودة أفاعيل التفضيل التى تجرد صاحبها من بشريته وتلبسه ثياب الملائكة، وتجعل من كاتبها الأعظم والأطهر الذي لم يمسه الدنس في حياته، ويأتى ذلك من خلال هيمنة ثقافة الستر والتخفي والحشمة التى تعوّد الإنسان العربى أن يعيش فى طياتها بمنطق «وإن ابتليتم فاستتروا»، ولذلك فإن أدب الاعتراف الذى يعلى من شأو البوح غير متيسر على نطاق واسع فى ثقافتنا العربية ليأتى جانب كبير من أعمال الذين غامروا بالكتابة فى هذاالمضمار بلغة خشبية لا تغنى من جوع معرفي أو فكرى أو سياسى وذلك لأن الكاتب العربى غالبا ما يجد نفسه إزاء موقفين إما السكوت عن المسكوت عنه وإما كتابة سيرة ناقصة لا تحقق الكثير فى مصداقيتها، حتى أيام طه حسين وإن كانت رحلة كفاح حقيقية بأسلوبها الجميل لكنها خالية من نبض الحياة وعنفوانها تماما مثل الأكل الصحى الملىء بالمعادن والفيتامينات، لكن تنقصه البهارات اللاذعة والتحويجة الحراقة، تماما مثل أكل المستشفيات ويغفر للأيام ويضرب لها سلام تعظيم وتبجيل، لأنها كانت بمثابة البداية والفتح ونقطة الانطلاق، وإذا ما كنا قد تعرفنا علي سعد زغلول زعيما من مواقفه السياسية فقد تعرفنا على سعد الإنسان من خلال بوح مذكراته التى كان يكتبها بالقلم الرصاص واعترف فيها بزلاته مثل القمار، وانكبابه علي يد الملك فؤاد يوسعها بقبلات الرجاء ليسترضيه بعدما لم ينم ليلته لغضبه عليه، وبيعه مصوغات زوجته صفية ليسدد ديونه. وعلي سكة البوح تابعنا سيرة الشيخ متولي الشعراوى في حلقاتها بالأهرام، وتوفيق الحكيم في «الوقت الضائع» وبنت الشاطئ فى سيرتها «على الجسر» ومذكرات أمينة السعيد و«الباب المفتوح» للدكتورة لطيفة الزيات، و«معك» لسوزان طه حسين، و«أيام معه» لكوليت خورى، و«حضن العمر» لفتحية العسال، و«وقفة قبل المنحدر» لعلاء الديب، و«ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمى، و»يوما أو بعض يوم» لمحمد سلماوى، و«كتابيه» لعمرو موسى، و«رحلة العمر» لعبدالرؤوف الريدى، و«سنة أولى سجن» لمصطفى أمين، ويعتبر أهل الأدب أن أصدق سيرة ذاتية عربية هى التى دونها الكاتب المغربى محمد شكرى فى كتابه «الخبز الحافى» ولكن لأنه قد صدم المجتمع وعراه بينما المجتمع العربى ليس معتادا علي هذا الكم من الصدق والصراحة، فقد منعت روايته فى العديد من الدول العربية، ويحمل الدكتور زكى نجيب محمود سيرته الذاتية «حصاد السنين» كمًا هائلا من الحزن وبكائية طويلة لنفسه وهو على قيد الحياة ظنا بها قد ضاعت سدى، وأنها بمثابة التغريدة التى تطلقها البجعة قبل أن تموت وهى تلفظ أنفاسهاالأخيرة فتخرج نغمة أجمل ما تكون النغمات وقعا في آذان البشر.
ولقد عاصرت عن قرب تدوينا للسيرة الذاتية للراحلة بالأمس القريب القديرة الشامخة سميحة أيوب التى قال عنها الأديب خيرى شلبى إنها ليس فقط معلمًا من معالم مصر، بل هى تلخيص لمصر المعاصرة وكانت بعنوان «ذكرياتى» والتى شرفت بتقديمها في حلقات علي مدى عام 2002 على صفحات «نصف الدنيا» عندما كنت أتولى رئاسة تحريرها والتى كتبت صاحبتها فى المقدمة: «عندما جلست لأكتب مذكراتى للمرة الأولى ترددت كثيرا قبل أن أمسك بالقلم لأخط مشاهد مسيرة حياتى الفنية، ماذا أكتب، ولماذا، وكيف، وبعد أن أمسكت بالقلم بدأت الذكريات تتداعى فى خاطرى لتتحول أمامى على الورق إلى لحظات من لحم ودم ومشاهد مسرحية وسينمائية، وأحيانا مسلسلات إذاعية، لم تكن مسيرة حياتى مجرد لحظات عابرة فى حياة فنانة، وهبت حياتها لفنها ووطنها ولأمتها..».. فى مذكراتها المحققة بالصور كتبت سميحة فى أحد أيامها عندما بحث عنها بابا شارو لكى يلحقها بالتمثيل فى الأوبريت الإذاعى «عذراء الربيع» بالاشتراك مع فاتن حمامة وذكرت فيه باسم «سميحة سامى» لأن والدتها اعترضت على أن تضع العائلة باسم أيوب «بين براثن القيل والقال»، وعلى مدى صفحات المسيرة تكتب صاحبتها عن قصة زواجها بزميلها النجم محسن سرحان لينجبا ابنهما الذى أسمياه «محمود فهمى النقراشى» وظل الارتباط قائما على مدى عام ونصف أجبرها فيه الزوج الغيور على التخلى عن الدراسة فى معهد التمثيل بجوار زملائها عمر الحريرى ونعيمة وصفى وحمدى غيث، وكانت لم تزل فى السنة الدراسية الأولى بالمعهد عندما قامت بالاشتراك فى مسرحية «البخيل» لموليير علي مسرح الأوبرا مع كل من سعيد أبوبكر وعدلي كاسب وعلي الزرقانى ونعيمة وصفى وفاتن حمامة، بعدما استشعر أستاذها زكى طليمات تفوقها ليقول عنها: «هذه الشابة لديها حضور مسرحى طاغ»، وبلغت شدة غيرة الزوج محسن سرحان عليها أنه كان يغلق عليها باب المنزل قبل مغادرته بالضبة والمفتاح، وعندما تحصل علي حريتها تتزوج من بعده بالفنان محمود مرسى عام 1955 الذى منحها حريتها بشكل كامل لدرجة الإفراط، لكن انغماسها فى عملها بالمسرح والإذاعة خاصة من بعد مسلسلها الناجح «سمارة» الذى كانت شوارع القاهرة تخلو تماما من المارة أثناء إذاعته، أدى ذلك أيضا إلى الانفصال لتظل سميحة أيوب طوال حياتها تكن لمحمود مرسى احتراما وإجلالا شديدين، وكانا قد أنجبا ابنهما علاء، لتتفرغ للمسرح وتقوم ببطولة مسرحية «المومس الفاضلة» للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى عام 1958 الذى حضر المسرحية ليصعد نحوها على خشبة المسرح ومعه الكاتبة سيمون دى بوفوار ليقبِّل يدها أمام المشاهدين قائلا: «أخيرا وجدت بطلة المسرحية (الكترا) فى القاهرة»، وترتبط بعدها سميحة بالكاتب المسرحى والمسئول الكبير بوزارة الثقافة سعد الدين وهبة الذى كان ارتباطهما يعرقل عليها السُبل فى بعض الأحيان، مثلما تولى إدارة السينما فوجد أن خمسة مخرجين قد اختاروا سميحة لتلعب دور البطولة فى الأفلام الخمسة فما كان منه إلا أن حذف الاسم حتى لا يقال إنه يستغل منصبه في استفادة شخصية»، وترحل سميحة أيوب من كانت تدب بقدمها علي خشبة المسرح فتزلزل الساحة، وتتهادى فوقه فتخطف الأفئدة، وتعشق بين جنباته فتذيبنا وجدًا، وترسل ضحكتها فيسلم السلم الموسيقى رايته لها، وتنطق الشعر فكأنما أنجبتها ساحة عكاظ.. ترحل.. بينما يظل صوتها المميز في أعمالها يستدعينى من أى هناك.. من أفكارى، من مشوارى، من شرودى، من انشغالى، فأهرول إلى حضرته لأضرب تعظيم سلام وأنا واقفة على عتبته فى وضع التمام.
وعشتها على الطبيعة، عندما يتوقف الكاتب فجأة عن الاستمرار فى البوح الأدبى قانعًا بأن المواجهة صعبة ووعرة، وخليها في القلب تدبح ولا تطلع برة تفضح، واكتم سرك تملك أمرك، والفتنة نائمة لعن اللـه من أيقظها.. عندما شرع الكاتب العملاق يوسف إدريس فى كتابة سيرته الذاتية على حلقات فى «نصف الدنيا» عام 1994 واختار لها اسم «ملكة» وارتأى بعين الفنان موقعا لها فى الصفحة الأخيرة بالمجلة، بدأها بنشوة بالغة ليقول لى عنها إنها ستكون بمثابة جوهرة أعماله. ستكون أجرأ ما كتب، وأصدق ما عبر عنه، وأفضل سطوره إلى قلبه.. وظل يكتب منتشيًا عن مراحل طفولته في بلدته وعلاقته بجدته ومدرسته وزملائه، وبدأ حثيثا يكشف أوراقه السرية ويفتح الأدراج المغلقة التى تعرف فيها على عالم الجنس، وفجأة دق الرنين ليعلن يوسف إدريس توقفه عن الحلقات.. ليه يا دكتور؟!! يشفيك يرضيك.. أنت لم تكمِّل ما توقفت عنده فى حلقة الأسبوع الماضى بشأن حادث السرقة الذى اقترفه الولد البطل في الفصل و.. ولم تفحمنى حجج الكاتب الكبير الذى ساق لى منها أنه سوف يعود للكتابة بعدما تتبلور الفكرة تماما في رأسه.. لا يا دكتور.. أبدًا.. لست أنت.. لماذا وأنت من كتبت «المهزلة الأرضية» و«البيضاء» وفيهما نبذات من سيرتك الشخصية.. لماذا؟!.. ورغم ريادتك وعبقريتك واستحقاقك لنوبل الأدب.. هل.. لأننا مجتمع لا يستطيع النظر إلى المرآة.. هل.. لأن عيوننا لاتتجه إلى سحنتنا الحقيقية وإنما فقط إلى البورتريه الجميل على الحائط.. هل لأننا لا نشم أنفسنا وإنما تتجه أنوفنا إلى عطر أخاذ يضعه الغير.. هل.. نحن مجتمع لا يريد أن يعرف الحقيقة؟!
و«هذه أنا» عندما يفتح النافذة أمامى رجل الأعمال والصناعة والزراعة والتجارة الكاتب الصحفى صلاح دياب بسيرته الشخصية بعنوانها «هذا أنا» التى شكلت فور صدورها فى رمضان الماضى دوائر اهتمام بالغة التأثر تزداد اتساعا كلما اجتذب صداها عشرات من القراء الجدد كل منهم يبحث بين سطورها عن سر صلاح للنجاح في سبل الحياة فهو الذى طرق الأبواب كلها لتظل المفاتيح ملك يده طيّعة لأفكاره منفذة لخططه المستقبلية ودراسات جدواه مهما يلاقى من صعود وهبوط ومكائد وافتراءات وجراحات دقيقة داخل القلب.. أجدنى عبر عباراته المباشرة الدافقة الدافعة قد أصابتنى عدوى النجاح لأعقد العزم على القيام بأمر على جانب كبير من الأهمية فى مسيرة الحياة.. لا أدرى ما هو!!!.. لكننى وللـه الحمد ناوية وجادة وجاهدة ومستنفرة وعلى الأهبة وفي وضعية الانطلاق ومشمرة عن سواعد الجد ومشمعة الفتلة وقايمة من طلعة الفجر لتحقيق المبتغى.. الذى؟!!.. لا أعرفه.. لكننى مُدركة بأنه فى مجال لم يطرق من قبل، وبأدوات لم يستخدمها أى أحد، وفي صرح لم تطأه قدم، وبكلمات لم تنطقها لغة، وبشدو لم تسمعه أذن، وبماء ونماء يبحث عن مسرى… قصة حياة بكل رموزها وأحداثها وأشخاصها ومتاعبها وآلامها تجلس إليه فيها مستغرقا مؤيدا ومعارضا ودامعا وضاحكا ولائما ومتابعا لخطوات الارستقراطى ناظر الزراعة فى مزرعة مالك الملك الذى روى فارتوى، وغامر فانعكست مغامراته تجارب مجدية للشباب الصاعد، واختار فاختارته السنين ليكون مثالا لنجاحات الاختيار، والتزم فتوارثته أسرة الالتزام لتعمل شهيرة ابنة رجل الأعمال الأكثر ثراء كاشيير فى كافيتريا الجامعة كل فترة دراستها، ويجمع الابن توفيق العنب فى محافظة البحيرة ليزيد مصروفه عن الثلاثة جنيهات، فالفراغ فى قناعة صلاح دياب مفسدة، والقدرة علي إدارة الحياة فى الكبر بمزيد من تحمل المسئولية منذ الصغر.. صلاح دياب صائد الفرص فى الوقت الذى لا تكون فيه الفرص واضحة لأحد.. عابر المشاريع من لب البطيخ فى كيس ورق، إلى فرن حلويات لابوار، إلى ثلاجة الخضار والفاكهة بيكو، إلى نيران آبار البترول في أعالى البحار، ومن بريمة تحت الأرض لأخرى فوق السحاب..الخ الخ.. حياة مثمرة تشابكت فيها السياسة بالثقافة والصحافة والمال والأعمال حرص فيها علي اصطحاب العائلة أينما كان توجهه متفاخرا بنشأتها ونشاطها ونياشينها وعلمها وأدبها وفكرها وصحافتها، منصتا جيدا لنصيحة المهندس نيازى - صديق الخال كامل دياب ــ بأن المليون الأول هو الأصعب دائما، وبعدها ستجد الملايين تتدافع إليك وأبدا لم يفصح صاحب المذكرات أى من مشروعاته عن التفصيلات اللـهم إلا في مشروعه لإنشاء جريدة «المصرى اليوم» ليُشيد بها الأستاذ محمد حسنين هيكل في أكثر من مناسبة بقوله فى إحداها: «إن مهمة الجريدة أن تأخذ من قلب الطوفان ما هو ضرورى لعرض صورة صحيحة ومتوازنة أمام قراء يريدون أن يكونوا على معرفة واتصال بدنياهم وعصرهم فكرا وفعلا».. لعلى واحد من الذين يعتقدون أن صحافة الكلمة رهان على المستقبل، وذلك امتيازها، ومع أن صحافة الصورة هى الأكثر سرعة وجاذبية فإنها لا تنقل غير ما تراه العدسة فى محيطها، تلتقط الراهن الحاضر وليس أبعد، فى حين تبقي الكلمة شعاعا قادرا علي تجاوز المرئى ــ الراهن والحاضر ــ وملامسة المستقبل والتعريف به رؤية وإمكانية».
صلاح دياب الذى يقول عن نفسه إنه ليس من محترفى الكلام بينما علي أرض الواقع هو جواهرجى كلام لكنه ولأول مرة فى تاريخ المذكرات الشخصية يستضيف صاحبها أفراد عائلته فى كتابة سطورها ذاكرًا أن مشروع العائلة هو مشروع العمر الحقيقى ليظهر دور الزوجة المهندسة عنايات الطويل بأنها في حياته بمثابة الباب السرى لعبور المحيط.. ومن خلال كلماتها عنه ورأى الابن توفيق وابنتيه شهيرة وعصمت فيه نجد جدوى مشاركة العائلة في كتابة مسيرة كبيرها، حيث تتعرف من خلالها على أوجه أخرى لم يكشف عنها في سطوره.. وعلى سبيل المثال يردد الابن ما قاله له والده: «أنا لست مثل والدتك.. قانون العمل يقول إن الإنسان لابد وأن يعمل 40 ساعة فى الأسبوع، وبالتالى يجب أن تذاكر 8 ساعات فى اليوم على مدار 5 أيام من بعد المدرسة.. كان يتقبل منى بصدر رحب أن أدخل عليه وأقول: لقد خسرت مبلغا من المال فى صفقة أو مشروع فيرد بالقول: ولا يهمك.. تعال نبحث عن طريقة لتعويض الخسارة، هذه هى قوانين البيزنس، أما غير العادى فى معاملته فهو أن يرانى أدخن سيجارة، أو أتناول قطعة حلوى ووزنى زائد، ويجن جنونه لو رآنى أعامل أحدا باستخفاف أو استعلاء أو تدن وتذلل».. وتلقي الابنة شهيرة ضوءا آخر على معاملة الأب صلاح للابناء: «كان يدخل علىّ أثناء المذاكرة وينظر فى الكتاب المفتوح أمامى، ودون أن أنتبه يحفظ رقم الصفحة التى أقرأ فيها، ثم يعود بعد ساعتين وينظر لرقم الصفحة فيجدنى لم أقرأ إلا صفحتين فيعنفني.. وبعدها حصلت على الدرجات النهائية».. وتكتب عصمت آخر العنقود عن والدها: «لم نشعر قط فى يوم من الأيام أنه مضغوط فى عمله، بمجرد دخوله البيت يصير ملكًا لنا».
وتكتب الزوجة المهندسة عن أول موعد لهما فى 31 يناير 1973 عندما جاءتها مكالمة منه أقنعها فيها بوجوب التلاقى كى يتعرفا علي بعضهما بشكل عصرى بحيث لو لم يحدث التوافق تظل الصداقة قائمة بين العائلتين.. «جاء صلاح متأخرًا ثلاث ساعات عن الموعد الأول في نادى الجزيرة، وفى المرة الثانية طلب أن تدخل سينما وأكل كل السندوتشات، ثم ألقى بى في تاكسى وقال للسائق: «وصلها مصر الجديدة» وكدت أجن، ما الذى يدفعنى للارتباط بشخص يتصرف على هذا النحو مع فتاة من المفترض أن يجتهد للفوز بثقتها!! كانت طريقته توحى بعدم الاكتراث بالعلاقة ونجاحها، إن موضوع إلقائى فى التاكسى دون أن يعرف إذا ما كان معى أجرته أم لا جارحًا لأى فتاة فى سنى.. وقلت فى نفسى: لو ارتبطت به علىًّ أن أخوض معركة لترويضه وكبح جماحه».
ويا عزيزتى الزوجة الفاضلة.. نفس تلك المشاعر وتمامها حدثت معى عندما شاهدنا معا فيلما سينمائيا بسينما راديو فى وسط البلد لنخرج للطريق، حيث أشار كنعان لسيارة الأجرة المارقة ليشحننى بداخلها مع توأم العبارة: وصلها للعباسية.. وتساءلت وحدي في المقعد الخلفى لماذا لم يصاحبنىِ من يبغى الارتباط بى لمشارف بيتى ليطمئن بنفسه على وصول آمن لى خاصة ولم يكن اختراع الموبايل قد ظهر بعد.. ونظرت يومها من نافذة التاكسى لخلفية متوقعة.. وداعا بابتسامة أو تحية رأس أو يد، لكنى وجدته قد عبرمسرعا للرصيف الآخر وكأنه على موعد آخر، وأحصى نقود حقيبتى فأجدها لا تسد، فأهبط مسرعة أخبط على حجرة البواب لأقول له بترفع مزيف: حاسب التاكسى ياعم محمد.. وألقى عديم الاكتراث صباحا في أخبار اليوم فلا يسألنى عن أمر وصولى.. وأتابع.. بعدما أحاول إقناع نفسى بأنه يتعامل معى بدون تكلف.. وأقاتل.. من أجل الحفاظ علي الفنان الذى يحتاج خوض معركة طاحنة لترويضه وكبح جماحه.. ولقد تم الترويض بنجاح منقطع النظير!
لمزيد من مقالات سـناء البيـسى رابط دائم: