كان إنسانًا متفردًا فى فكره وحياته وثوابته، جمع تناقضات كثيرة، كان منبهرًا بالفكر الغربى وفلاسفته ومظاهر الحياة فيه، وكان من أبناء الثقافة العربية حبًا وولاءً وانتماءً.. ورغم عواصف الفكر، جنح كثيرًا إلى شواطئ التصوف قرآنًا ونبيًا وعقيدةً ويقينًا، كتب عن القرآن الكريم وعن المصطفى عليه الصلاة والسلام.. اختلفت الآراء والمواقف حوله بين من أحبوه وساروا على دربه، ومن اختلفوا حول أفكاره وقناعاته..
ــــ عاش وحيدًا متنقلًا بين أكثر من وطن، واتسمت حياته بالبساطة التى جعلته يسكن الفنادق العادية وفى غرف صغيرة، كتب أكثر من 150 كتابًا ما بين الفلسفة والترجمة وقضايا الفكر والحرية ورحلة العمر، وحتى آخر أيام حياته كان يناقش ويختلف ويبدع.. كتب فى الفلسفة والأدب والشعر، وترجم أعمال أرسطو وأفلاطون والفلسفة الغربية، وكان رائد الوجودية فى الثقافة العربية، وتخرجت على يديه أجيال من المفكرين.. اختلف مع عدد كبير من تلاميذه ومريديه، وحين كان عميد الأدب العربى د. طه حسين يناقش رسالته للدكتوراه «الزمن الوجودي» قال كلمته الشهيرة: «هذا أول فيلسوف عربى أراه»، ومنذ هذا التاريخ حمل عبدالرحمن بدوى لقب «فيلسوف العرب».
ــــ اتسمت أحكامه فى أحيان كثيرة بشيء من القسوة، لم يعترف بالرواية العربية، حتى كبار مبدعيها، ووضع أمير الشعراء أحمد شوقى فى صدارة الشعر العربي، وإن ارتبط بصداقة مع محمود حسن إسماعيل حين عملا معًا فى الكويت وكتب ديوانا من الشعر.. لم يعترف كثيرًا بأساتذة الفلسفة، ولم يقتنع أن هناك فيلسوفًا عربيًا معاصرًا.. كان حادًا فى أحكامه، ورغم أنه كان من رواد المذهب الوجودى فى الثقافة العربية وأول من بشر به، إلا أنه لم يعترف بأن سارتر كان فيلسوفًا، واعتبره أديبًا، مؤكدًا أن جائزة نوبل اعتبرته أديبًا.. وكان د.بدوى يعتبر نفسه من تلاميذ هيجل، فيلسوف الغرب الأشهر..
ـــــ كان د. بدوى رافضًا مشاغبًا فى قضايا الفكر والفلسفة، خاصة قضية الحرية، ولهذا اختلف مع ثوار يوليو حول قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان ضد تأميم ومصادرة الأراضى الزراعية، خاصة أن ثورة يوليو قامت بتأميم 25 فدانًا من أرضه فى دمياط، وهى من أخصب الأراضى الزراعية فى مصر.. كان يقول: «لست على خصومة مع عبدالناصر، ولكننى كنت أرفض نظام حكمه لأنه لم يكن ديمقراطيًا»، ومن هنا اختار الغربة، ومضى يطوف فى أكثر من وطن، حتى استقر به الحال فى غرفة صغيرة فى أحد فنادق باريس البسيطة.. كانت دعوته للحرية شبحًا يطارده فى كل مكان يذهب إليه، وفى إحدى محاضراته فى ليبيا عن الديمقراطية، تعرض لأزمة كبيرة مع نظام القذافي، تطلبت تدخلًا من الدولة المصرية للإفراج عنه وعودته سالمًا إلى أرض الوطن..
ـــــ كنت فى باريس، عاصمة النور، وكنت أعلم أن د. عبدالرحمن بدوى يعيش فيها من سنوات، وكان لا بد أن أجرى معه هذا الحوار الذى نُشر يومها فى «الأهرام»، وكان ذلك فى شهر ابريل من عام 2000، أى قبل رحيله،
ـــــ عندما اتصلت بالدكتور بدوى فى غرفته بفندق «لوبتسيا» فى وسط باريس، حدد لى الرجل مرحبًا موعدًا صباح اليوم التالي.. كان الدكتور بدوى ينتظرنى فى بهو الفندق.. وكان ميعادنا التاسعة والنصف صباحًا...عرفته من بعيد.. سنوات العمر والزمن تبدو على ملامح وجهه.. وعينيه.. وصافحني، ونزلنا إلى الشارع. وعندما كنا نعبر إشارة المرور، حاولت أن أمسك بذراعه، ولكنه نزع ذراعه منى ومضى متماسكًا رغم الأعوام الثمانين التى يحملها على كتفيه.. جلسنا فى مقهى صغير..
-
وبادرته قائلًا: «كتابك الأخير أثار ضجة كبيرة فى مصر وخارجها.. هل قرأت ما كتبه المثقفون والنقاد؟» نظر إليَّ متجهمًا.
-
وقال: «ليس هذا غريبًا على الشيوعيين.. هكذا كانوا فى الماضى ولن يتغيروا... وهذا أمر لا يزعجنى على الإطلاق، لأن هجوم الشيوعيين فى حد ذاته وسام على صدر أى إنسان.. إنهم فئة ضالة.. أساءت لأجمل وجوه مصر وهى الثقافة».
-
قلت : للدكتور عبدالرحمن بدوى: «ولكنك هاجمت أسماء كثيرة.. لم تترك أحدًا ابتداء من طه حسين وحتى جمال عبدالناصر.. والعقاد.. وأحمد أمين.. ومحمود فهمى النقراشي...»
-
قال: «أنا لم أهاجم طه حسين.. وربما كان الكاتب الوحيد فى مصر الذى أحمل له تقديرًا خاصًا وأعرف قدره تمامًا.. وهذا عكس رأيى فى العقاد.. لأننى أرى أن العقاد كاتب محدود القيمة.. لم يكمل دراسته.. أما جمال عبدالناصر فَلابد أن أعترف بأننى أيدت الثورة فى سنواتها الأولى.. ولكننى تخليت عن مواقفى معها بعد أن اكتشفت موقفها الواضح من الديمقراطية... إن ثورة يوليو هى بداية المشكلات التى لحقت بمصر سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.. لقد شوهت ملامح الإنسان المصرى عندما فتحت الأبواب للانتهازيين والأفاقين وكتاب التقارير.. وجعلت الناس جواسيس على بعضهم البعض. أنا لم أهاجم شخص عبدالناصر، ولكننى هاجمت أسلوبه فى الحكم، وكيف أجهض تجربة مصر الليبرالية التى كان من الممكن أن تصل بنا إلى ديمقراطية مكتملة.. ولا شك أن مصر جديرة بذلك، ولكن الشعب يتحمل مسئولية ما حدث. إن قوانين الإصلاح الزراعى أخذت منى 25 فدانًا من أجود الأراضى الزراعية.. وعليك أن تتابع ما فعلته الثورة فى الشعب المصري.. ابتداء بسيطرة الشيوعيين على الثقافة والإعلام حتى الآن.. وانتهاء بفساد الجامعات وإهدار الكفاءات الحقيقية.. وتسلق الانتهازيين من أهل الثقة.. واختفاء أهل الخبرة وأصحاب المواهب الحقيقية.. واستباحة أموال الناس..» سكت د. بدوى قليلًا.
-
وقال: «ليس بينى وبين عبدالناصر الإنسان أى شيء على الإطلاق.. هل تعلم أن حفيد عبدالناصر تزوج ابنة أخى أخيرًا؟.. لقد كان الخلاف بينى وبين الثورة خلاف منهج وأسلوب.. وموقف من قضايا كثيرة أهمها الحرية وحق الإنسان فى حياة كريمة».
-
قلت للدكتور بدوي: «وماذا أخذت من الغربة وأنت تعيش وحيدًا فى باريس؟»
-
قال: «هل يمكن أن تشعر بالوحدة فى مدينة بهذا الجمال وهذا التناسق.. وهذا الشعور بآدمية البشر؟.. هل تجد هواءً نقيًا ومجتمعًا يحترم المواطنون فيه أكثر من هذا؟... إن الغربة الحقيقية أن يعيش صاحب فكر غريبًا فى وطنه... وهذا ما حدث معي.. كنت غريبًا فى وطني.. وهذا إحساس قاتل ومؤلم.. أن تشعر بقيمتك وقدرك خارج وطنك! إذا أردت أن ترى صورة مجتمع فانظر إلى مثقفيه.. هنا يحاولون أن يتصارعوا ويختلفوا ويهاجموا بعضهم البعض، ولكنهم لا يكتبون التقارير.. ولا يستعدون السلطة على بعضهم.. ولا يمارسون النفاق.. ولا يجيدون الدسائس.. ولا يصعدون على جثث بعضهم.. إنهم يتنافسون بشرف.. ويتحاورون بترفع... «الحرية... ولا شيء غيرها.. فى ظل غياب الحرية تنتشر خفافيش الثقافة وتجار الشعارات.. وهؤلاء هم أسباب الكارثة...
-
قلت: «ولمن تقرأ من الشعراء؟»
-
قال: «آخر عهدى بالشعر العربي.. محمود حسن إسماعيل.. عشنا معًا فترة عندما كنت أعمل فى الكويت.. ومات غريبًا هناك.. ولكننى أرى أن أحمد شوقى هو قمة الشعر فى القرن العشرين..»
-
قال: «سوف أصدر ديوانًا جديدًا بعنوان «أناشيد الغريب»...»
-
قلت: «هل هو عن سنوات الغربة؟...»
-
قال: «لم أشعر بالغربة حتى أكتب عنها..»
-
قلت: «ومتى تعود إلى مصر؟»
-
قال: «لا أعرف حتى الآن..»
-
سألته: «ما سر هذا الهجوم الضارى فى كتابك الأخير «سيرة حياتي».. هل هو انتقام أم تصفية حسابات أم كلمة حق؟..»
-
قال: «أنا لم أهاجم أحدًا لا يستحق هجومي.. والذين يدعون ذلك لم يقرأوا الكتاب..»
-
سألت نفسى يومها أليس من حق د. بدوى أن يقول شهادته فى عصره وزمانه ورفاق رحلته وتلاميذه، وهو أدرى الناس بهم؟.. مهما تكن قسوة هذا الرأي.. ولماذا نصر دائمًا فى مواقفنا وأحكامنا على أن نصادر فكر الآخرين مهما تكن أقدارهم؟.. حدث هذا مع كاتبنا الكبير توفيق الحكيم فى كتابه «عودة الروح».. وحدث هذا أيضًا مع عميد الرواية..
ــــ فى تقديرى أن الرجل ألقى قفازًا فى وجهنا جميعًا حينما وصل إلى تشخيص للداء، وهو يعكس محنة المثقفين الحقيقية.. وهو وإن أغضبنا اليوم فإنه يسعى إلى عدم تكرار ما حدث فى الغد.. إنه يحاول أن يمنع تكرار جريمة.. وإذا كانت الأجيال الحالية قد تعايشت مع هذه الجريمة، فإن الرجل يحاول أن يحمى الأجيال القادمة منها.. إنها جريمة المثقف الانتهازى حينما يبيع ضميره من أجل منصب زائل أو سلطان لن يدوم.. إنها تلك العلاقة المشبوهة بين بعض المثقفين والسلطة، وهى أخطر ما أصابنا من أمراض..أما د.عبدالرحمن بدوي.. فتكفيه غربته ومرارة الأيام التى عاشها بعيدًا عن وطنه..
ـــــ بدأ عبدالرحمن بدوى حياته متمردا فى قضايا كثيرة ما بين الدين والشعر والثقافة العربية ثم كانت له وقفات كثيرة فى رحاب القرآن الكريم ومسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وفى سيرته الذاتية ظهر المتصوف فيه وكانت هذه حياة الفيلسوف وحيرته وقناعاته وفى كل مراحل حياته لا تملك غير ان تنحنى إجلالا أمام تجربة ثرية ورحلة عمر لكاتب وفيلسوف كبير اصبح من علامات ورموز الثقافة العربية..
..ويبقى الشعر
لماذا أراكِ على كلِّ شىء بقايا.. بقايا؟
إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفـًا ..
وينسابُ عطـُركِ بين الحنايا ؟
لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ
فأجرى إليكِ.. وتأبى خُطايا ؟
وكم كنتُ أهربُ كى لا أراكِ
فألقاكِ نبضـًا سرى فى دمايا
فكيف النجومُ هوت فى الترابِ
وكيف العبير غدا.. كالشظايا ؟
عيونك كانت لعمرى صلاة..
فكيف الصلاةُ غدت.. كالخطايا ؟
لماذا أراكِ وملءُ عُيونى دموعُ الوداعْ؟
لماذا أراكِ وقد صرتِ شيئـًا
بعيدًا.. بعيدًا.. توارى.. وضاعْ؟
تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ
أحسُّـك نبضًا
وألقاك دفئـًا
وأشعرُ بعدكِ .. أنى الضياعْ
إذا ما بكيتُ أراكِ ابتسامهْ
وإن ضاق دربى أراكِ السلامهْ
وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ
تضىء عيونـُكِ.. خلف الغمامهْ
لماذا أراكِ على كل شىءٍ
كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ
كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ
وأنى خـُلـِقـْتُ لهذا السفرْ..
إذا كنتُ أهرب منكِ.. إليكِ
فقولى بربكِ.. أين المفـْر؟
----------------------
من قصيدة « متى يفيق النائمون » 1998
[email protected]لمزيد من مقالات هوامش حرة يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: