أى عملية إصلاح بطبيعتها هى عملية معقدة ومركبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بملفات عانت من إهمال متواصل عبر عقود متتالية، أو بغياب رؤية إصلاحية شاملة تطال كافة أبعاد الملف، أو عندما يتعلق الأمر بظاهرة أو ملف يتضمن عددا غير قليل من الفاعلين، الأمر الذى يعنى عدم فعالية أى رؤية إصلاحية ما لم تتعامل مع هؤلاء الفاعلين، وتضمن تحولهم من قوى رافضة للإصلاح إلى جزء من عملية الإصلاح نفسها، أو عندما لا تأخذ هذه الرؤية الإصلاحية الواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى السائد.

حالة التعليم فى مصر تقدم مثالا معبرا عن أهمية المحددات السابقة فى أى عملية إصلاحية لهذا الملف المهم. من ناحية، عانى هذا الملف، كغيره من الملفات، من إهمال شديد عبر عقود متتالية. وحتى عندما ظهرت بعض المحاولات لإصلاح التعليم ظلت محاولات جزئية تعاملت مع أحد أبعاد الملف أو مكوناته دون الآخر. من ناحية ثانية، فإن أى عملية إصلاحية لا تتعامل مع مختلف الفاعلين ذوى الصلة: المدرس، والمدرسة، والعملية التعليمية، والمقررات التعليمية، والفاعلين الآخرين المرتبطين بالعملية التعليمية (مراكز الدروس الخاصة أو ما يمكن أن نطلق عليه «المدرسة الموازية»، الأمهات أولياء الأمور، وغيرهم)، ستظل قاصرة، أو على الأقل ستنال من فعالية عملية الإصلاح.
استنادا إلى هذه المقدمة، يمكن القول إننا إزاء عملية إصلاح حقيقية للتعليم فى مصر. وللوقوف على هذه العملية يمكن تحديد سماتها فيما يلي:
{ السمة الأولى، أنها تنطلق من فهم دقيق للواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى القائم، بمعنى أنها لا تنطلق من افتراضات تتجاوز هذا الواقع، ولا تنطلق من رؤية فوقية. لقد طُرحت بعض الأفكار الإصلاحية للتعليم فى مراحل سابقة، لكنها عانت من إشكالات عدة، كان أبرزها أنها لم تأخذ هذا الواقع فى اعتبارها، الأمر الذى أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين بعض مكونات عملية الإصلاح المطروحة آنذاك وهذا الواقع الذى مثل بدوره عقبة أمام عملية الإصلاح. لقد نجحت الحكومة المصرية، من خلال وزارة التربية والتعليم بقيادة الوزير محمد عبد اللطيف، فى وضع رؤية إصلاحية تنطلق من الاعتراف بالواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى القائم، وتنطلق أيضا من توصيف دقيق لواقع مكونات وأطراف العملية التعليمية، وهو ما ضمن وضع رؤية إصلاحية حقيقية قابلة للتطبيق فى ظل هذا الواقع المعقد.
{ السمة الثانية، أنها تنطلق من رؤية إصلاحية شاملة، تتعامل مع كافة الأطراف ذات الصلة بالعملية التعليمية، بدءا من المدرس، والمدرسة، والعملية التعليمية نفسها، والمقررات والمناهج التعليمية، وانتهاء بالأطراف غير المباشرة. هذا الاقتراب العلمى المتكامل يضمن بلا شك توفير الشروط اللازمة لنجاح عملية الإصلاح وتحجيم الآثار السلبية المتوقعة. فعلى العكس من المحاولات الإصلاحية السابقة، فقد نجحت وزارة التربية والتعليم فى كسب تفاعل المدرس وأولياء الأمور معا مع هذا المشروع الإصلاحي، وهو أحد الشروط الرئيسية لنجاح عملية الإصلاح، وهو شرط لم يكن ليتحقق لولا نجاح الوزارة فى استعادة الثقة فى المدرسة من جانب هذين الطرفين المهمين فى المعادلة. هذه الثقة تمثل بدورها شرطا ضروريا للتعامل مع العقبات المتوقع ظهورها فى أثناء عملية الإصلاح. استرداد ثقة المجتمع والأسرة فى المدرسة جاء نتيجة مجموعة من السياسات والإجراءات المهمة، كان أبرزها عودة الحياة المدرسية إلى طبيعتها، والتى افتقدها المجتمع نتيجة هيمنة «المدرسة الموازية» التى فرضت نفسها منذ سنوات بفعل عوامل عدة، ثم جاءت فترة وباء كورونا لتوجه ضربة موجعة للمدرسة الرسمية والتعليم الفعلى لمصلحة «العملية التعليمية الافتراضية». عودة الثقة فى المدرسة والحياة المدرسية أصبح مصلحة رئيسية للقاعدة الكبيرة من المدرسين، فى مواجهة شريحة قليلة من المستفيدين من «المدرسة الموازية». الأمر نفسه بالنسبة للأسرة، التى عانت من الاستنزاف المالى من خلال «المدرسة الموازية». الملاحظة المهمة فى هذا السياق، أن القضاء على «المدرسة الموازية» لم يأت بقرارات فوقية بقدر ما جاء بإجراءات ذكية من خلال إعادة الاعتبار للمدرسة الرسمية والحياة المدرسية.
{ السمة الثالثة، أن عملية الإصلاح تلك تنطلق من توظيف ذكى للموارد البشرية والمادية المتاحة. إن أى عملية إصلاح تتطلب توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة، ويصدق ذلك من باب أولى على عملية إصلاح التعليم التى تتسم بطبيعتها بكثافة العنصر البشري، سواء المعلمون أو الجهاز الإدارى المعاون، وكثافة الأبنية والمساحات الجغرافية، متمثلة فى العدد الضخم من المدارس والفصول. يعنى ذلك أن أى عملية إصلاح للتعليم فى مصر تتطلب بالتأكيد تعزيز هذه الموارد فى جانبيها البشرى والمادي. إن ما يميز عملية الإصلاح الجارية للتعليم أنها لم تنتظر تحقيق هذه النقلات الكمية المطلوبة لتنفيذ عملية الإصلاح، بقدر ما ركزت على إعادة التوظيف الذكى للموارد المتاحة؛ إذ لم يعد هناك ترف لتأجيل أى عملية إصلاح حقيقية لحين توافر هذه الموارد، بالنظر إلى العلاقة القوية بين إصلاح التعليم وتسريع عملية التنمية.
{ السمة الرابعة، أنها تستند على قراءة للخبرات والتجارب الدولية فى مجال أنظمة التعليم، ومراجعة للأنظمة القائمة فى مصر بغرض الاستفادة من هذه الخبرات من ناحية، ومسايرة التعليم المصرى للأنظمة الدولية المختلفة، من ناحية أخرى. عملية الإصلاح الجارية بهذا المعنى تمهد لتحقيق عدد من النتائج المهمة، أولاها، العمل على إنهاء الفجوة القائمة بين التعليم الوطنى المصرى والأنظمة التعليمية الأخرى الموجودة فى مصر. ثانيتها، المساهمة فى بناء طالب مؤهل للالتحاق بالجامعات الدولية سواء داخل مصر أو خارجها، ثالثتها، زيادة الثقة المجتمعية فى التعليم الوطني، الأمر الذى سيعمق الآثار الإيجابية للتعلم فى تعزيز الهوية الوطنية.
إن أى عملية إصلاح لا تجرى فى فراغ أو دون معوقات. أهم هذه المعوقات ترتبط بوجود فاعلين ليس من مصلحتهم نجاح عملية الإصلاح، ويصدق ذلك بشكل خاص أيضا على عملية إصلاح التعليم، بالنظر إلى طبيعة ملف التعليم نفسه على نحو ما أُشير إليه سابقا؛ إذ يظل هناك متضررون من تلك العملية من خارج المنظومة التعليمية الرسمية. وهنا تأتى أهمية تكاتف الأسرة والمعلم جنبا إلى جنب مع الحكومة ووزارة التعليم من أجل إنجاح عملية الإصلاح الجارية. لقد نجحت الوزارة فى كسب ثقة المعلم والأسرة فى هذه العملية خلال فترة زمنية قصيرة، لكن المتضررين من عملية الإصلاح لن يكفوا بالتأكيد عن العمل على هز هذه الثقة من خلال العديد من الإجراءات.
***
لقد نجحت الحكومة المصرية، من خلال وزارة التربية والتعليم بقيادة الوزير محمد عبد اللطيف، فى وضع رؤية إصلاحية تنطلق من الاعتراف بالواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى القائم، وتنطلق أيضا من توصيف دقيق لواقع مكونات وأطراف العملية التعليمية، وهو ما ضمن وضع رؤية إصلاحية حقيقية قابلة للتطبيق فى ظل هذا الواقع المعقد.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: