ظهر الإسلام فى القرن السابع الميلادى بعد نزول الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم وبحلول القرن الثامن عشر كان الدين الإسلامى قد دخل إسبانيا غربا وسمرقند شرقا ثم إلى تركيا والقارة الهندية، وعندما نقترب بمجهرنا من النسيج النورانى للإسلام نجد الفن الإسلامى يختلف فى معناه كثيرا عند المسلم وغير المسلم، فهو لدى المسلمين انعكاس للتدين والعبادة، وعند غيرهم حالة شديدة الجاذبية والتناغم فى شكل زخارف وزينات طغت على الساحة وشغلت جميع الفراغات... وعلى الجبهتين هناك تأثر بثلاثة عوامل أساسية هى الفكر الإسلامى، والتاريخ، والجغرافيا، وما نُركز عليه هما العاملان الأخيران، حيث نعى أن جزءا لا يستهان به من الرقعة الإسلامية جغرافيا كان أراضٍ جافة وقاحلة، ولم تكن المناطق الخضراء والمعمورة بالبشر سوى بقاع استثنائية وسط المحيط الصحراوى المسيطر، وكان الناس يعتمدون على التجارة والرعى، ومن هنا كانوا كثيرى التنقل مما أكسب ثقافتهم وفنونهم سمات البداوة المتنقلة، ورموز الخيام والقافلة والواحة والصحراء والرمال والكثبان والجمال.. الخ، كذلك انعكست البيئة على أخلاقيات الكرم والانتماء وفنون الشعر والحديث، وأيضا امتد الانعكاس على علاقتهم بالشعوب الأخرى ومدى تواصلهم معها نظرا لطبيعة نشاطهم التجارى بحكم وضعهم مركزا متوسطا بين تجارة الهند والصين، ولا يغفل هنا مع العامل الجغرافى أنه فى الأماكن التى تمر بها الأنهار مثل مصر والعراق، حيث قامت الحضارات العريقة أن فنونها قد اندمجت فى العالم الإسلامى لتغدو طابعا متأصلا فيه، وعلى سبيل المثال فإن تصميمات الحدائق فى البلاد الإسلامية تأثرت بالنسق الذى كانت تتطلبه عملية الرى، وأن مظهر تلك الحدائق قد تأثر بالأوصاف التى جاء ذكرها فى القرآن الكريم لما ستكون عليه جنة الخلد.
أما بالنسبة للعامل التاريخى وتأثيره على الفن الإسلامى فقد كان العالم وقت ظهور الإسلام محكوما بقوتين عظيمتين، الأولى: القوة البيزنطية فى منطقة البحر المتوسط والثانية: القوة الفارسية المتوغلة فى آسيا والتى امتدت لتشمل اليمن وجنوب غرب الجزيرة العربية... وفى مدن الشام تعرض العرب إلى تأثيرات الإمبراطوريات الكبرى وظهر الطراز الرومانى فى «بالميرا» حيث هزم الرومان ملكتها «زنوبيا» عام 272، كذلك يوجد بعض الأثر للطراز الفارسى، وينطبق نفس الكلام على مدينة «بترا» الأردنية، ولكن فى داخل شبه الجزيرة العربية كان التأثير أقل بكثير، وكان الخيط الذى يجمع كل هؤلاء العرب والبدو، هو اللغة العربية التى أتقنوها وأتقنوا أشعارها، ورغم اهتمامهم وحفظهم للقصائد والأبيات الصعبة فإن الشعر الجاهلى لم يتم تدوينه إلا فى القرن التاسع، وكانت الاحتفاليات تقام بسباقات الخيول والجِمال وسوق عكاظ للشعر، حول مراكز التجارة والبلاد ذات الأهمية العقدية وعلى رأسها مكة، وولد الرسول صلى الله عليه وسلم عام 570 عام الفيل فى مكة بقبيلة قريش ونزل عليه الوحى وهو فى سن الأربعين وحفظه صحابته فى صدورهم حتى تم جمعه وتدوينه فى عهد الخليفة عثمان بن عفان، وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة عام 622 م بدأ التقويم الهجرى للمسلمين وظلت المدينة مستقرا للرسول حتى وفاته صلى الله عليه وسلم عام 632م، ولأن الدين الإسلامى يقوم على خمسة أركان «الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج» مؤكدا بشرية محمد صلى الله عليه وسلم وأن الرسالة والعقيدة تقع فى الصدارة، فمن هذه الأهمية جاءت أهمية الكلمة متمثلة فى الشهادة التى تكتب على الجدران والنقود والرايات، والسقوف، ومن هنا أتت أهمية الخط العربى فى الفن الإسلامى الذى فاق أهمية التصوير بالنسبة للمساجد التى تقام فيها الصلاة، حيث تأثر معمارها وزخرفتها بطبيعة صلاة المسلمين، فكل ما يتطلبه المكان هو المساحة الواسعة والنظافة ووجود محراب يقف أمامه الإمام فى الصلاة ومكان للوضوء، ولأن الصلاة تستوجب السجود، فقد أدى ذلك إلى الاهتمام بفنون السجاد، وبالنسبة لتأثير الزكاة على الفنون الإسلامية فقد تمثلت فى إقامة المنشآت الخيرية التى يتم صرف أموال الزكاة عليها، أما الصوم فكان تأثيره محدودا على الفن الإسلامى وقد يكون مختصرا على ما يقام من مظاهر الشعائر فى رمضان والعيد، أما انعكاس الحج على الفن فقد تمثل فى كسوة الكعبة التى تُطرز وتغير سنويا ببدائع الآيات الكريمة المشغولة يدويا، وبشكل أكثر عموما فقد ساعد الحج على التفاعل والتداخل بين أقطار المسلمين وتأثر الثقافات ببعضها البعض بشكل أقوى، أما عن الصور فى الفن الإسلامى فالتاريخ يعرفنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل كانوا يتعاملون بالعملة البيزنطية والفارسية التى تزدان بصور ملوك الفرس وأباطرة بيزنطة.

وبالنسبة للصورة فى الإسلام فالتاريخ يذكر الكثير عن تواجدها منها تماثيل وأنسجة وخيام وحلى وأدوات عليها رسوم آدمية كانت ترد للمسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من بلاد الفرس، وكانت هناك بيوت كثيرة مُحلاة بالرسوم والصور منها منزل مروان بن الحكم الذى كان واليا على المدينة عام 672م ومنزل ياسر بن نمير خازن بيت المال فى عهد الخليفة عُمر بن الخطاب، بل إن المبخرة التى كان الخليفة عمر نفسه يستعملها فى المسجد كانت مزينة بالصور الآدمية.
كما روى أيضا عند ابن الأثير فى كتابه «الكامل فى التاريخ» أن النبى صلى الله عليه وسلم كان له ترس فيه صورة رأس كبش، وكان رجال الدولة الأموية الأقرب عهدا إلى الرسول وعصر الراشدين لا يتحرجون من تزيين قصورهم وبيوتهم بالصور، ولاتزال تلك الصور تكشف عنها الحفائر الأثرية حتى الآن، ويعتبر قصر «عمرة» الذى يقع على بُعد حوالى مائة كيلومتر شرق عمان مثالا لأقدم قصور البادية الأموية، حيث يحدد بناؤه فيما بين عام 94هـ إلى 96هـ فى عهد الوليد بن عبدالملك الخليفة المظفر بفتوحاته الكبرى فى المشرق والمغرب، وصاحب المبانى الفخمة فى كل من المدينة ودمشق، ومازالت جدران هذا القصر تحمل صورا منها واحدة تمثل الأمير جالسا على العرش وفوقه مظلة يحملها عمودان حلزونيان، على عقدهما كتابة كوفية، ويحف بالأمير شخصان، وفى صورة أخرى تعد أهم أثر تاريخى له دلالته وتسمى «أعداء الإسلام» فيها ستة أشخاص مرسومون على صفين، وقد استنتج المستشرق السويسرى «فان برشم» أن هؤلاء الملوك هم أعداء الوليد بن عبدالملك، وهناك قصر هشام بن عبدالملك ويقع على الضفة الغربية من الأردن على بُعد خمسة كيلومترات شمال أريحا ومبنى القصر به رسوم بالفسيفساء تمثل شجرة مورقة وعلى جانبى القصر أسد ينقض على واحدة منها.. وهناك قصر المشتى الذى يعود تاريخه بين عامى 123 و133هـ ويقع على بعد نحو 20 ميلا جنوبى شرقى عمان، وأهم أجزائه الواجهة الرئيسة التى ترتفع إلى خمسة أمتار وتمتد على طول أكثر من أربعين مترا والتى تُظهر النقش الحجرى كأنه زخرفة السجاد، والتى تعطى المبنى من بُعد شكل المخيم أكثر من مظهر القصر، ونقش الواجهة أشبه بإفريز منكسر متعرج فى شكل مثلثات كبيرة به زهور «الأكانتوس» التى تتفرع منها وردات كبيرة..الخ.
ويذكر التاريخ أن رجال الدولة العباسية الأوائل قد وجدت فى قصورهم بمدينة «سامرا» صورا آدمية على الجدران تمثل مناظر مختلفة، وقد أثبت علم الآثار ذلك بالأدلة والبراهين.
الفن الإسلامى انعكاس للدين الحنيف الذى عنى منذ نشأته بالفن الجميل فلفت الأنظار إلى ناحيتى الجمال والزينة بمعناهما الواسع الذى لا يقف عن حدود الحس، ولا ينحصر فى قالب محدود.. الجمال فى الكون ونجومه وشموسه وأقماره وما بينهما من روابط وانجذاب.. الجمال فى الطبيعة بما فيها من أضواء وظلال وجوامد وأحياء.. الجمال فى المشاعر الحب والخير والسمو.. الجمال فى القيم والمبادئ والأفكار التى قال عنها القرآن الكريم فى تمييزه بين الإنسان والحيوان فى سورة الإسراء «ولقد كرمنا بنى آدم»، وقوله سبحانه فى سورة الصافات «إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب»، وفى سورة الملك «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين»، وفى سورة «ق»: «أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج».. ويلعب الخط العربى دورا جوهريا فى الفن التشكيلى الإسلامى منذ بداية الدعوة، وظل دوره يرتقى ويتبلور لتجمع المصادر العربية كـ «العقد الفريد»، و«خلاصة الأثر» لمحمد أمين، والكامل لابن الأثير، و«الفهرست» لابن النديم، و«صبح الأعشى» للقلقشندى وغيرها على أن الخط لم ينل عند أمة ما ناله عند المسلمين من العناية به والتفنن فيه فاتخذوه بداية وسيلة معرفة ثم ألبسوه لباسا قدسيا من الدين وفى هذا يقول الشاعر:
إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم
وعدوه مما يُكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزًا ورفعة
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
ولقد أضاف عز وجل تعليم الخط إلى نفسه فى قوله: «اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم»، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم» الخط الحسن يزيد الحق وضوحا»، وقال عبيد «الخط لسان اليد»، وقال النظام «الخط أصل الروح»، ولأن الخط العربى هو الوسيلة الجليلة لكتابة القرآن الكريم لذلك لم تكن وليدة المصادفة تلك المكانة الرفيعة المتميزة له فى نفوس المسلمين وأفئدتهم منذ هبوط الوحى على الرسول للآن، هذا وقد راعى الفن الإسلامى ما يناسب كل مجال وكانت هناك قواعد وأصول وفلسفات موضوعة بناء على بحث ودراسة وتأمل وممارسة ليس فقط فى اختيار الأشكال المناسبة لكل مكان، بل أيضا فى اختيار الموضوعات، فما يصح لتزيين محراب مسجد قد لا يجدى فى مجلس الحكم أو فى غرف الحريم، وما يكتب من آيات فوق سرير الخلافة لا مكان له فى حمام السلطان، وفى تحليل صور الحمامات يقول الرازى: «وتفكر فى كون الحكماء والمتقدمين الذين نظروا وعملوا وتيقنوا أن الإنسان إذا دخل الحمام تحلل من قواه شىء كثير، فاتفقوا بحكمتهم وجالوا بفكرتهم واستخرجوا بعقولهم ما يجبر ذلك سريعا، فقرروا أن يرسموا صورا بأصابع حسنة، يوجب النظر إليها زيادة القوى والأرواح، وقسموا ذلك التصوير إلى ثلاثة أقسام، وذلك أنهم علموا أن الأرواح فى البدن ثلاثة أصناف: الحيوانية والنفسانية والطبيعية فجعلوا كل قسم من التصوير سببا لتقوية القوى المذكورة والزيادة فيها، أما القوة الحيوانية فالقتال والحرب الملتحمة، وأما القوة النفسانية فالعشق والتفكير فى العاشق والمعشوق، والقوة الطبيعية فالبساتين وصور الأشجار والثمار والطيور وما أشبه». ولعل أبرز صورة اكتشفت فى الحمامات فى تاريخ الفن الإسلامى كانت بالحمام الفاطمى بجوار منطقة أبوالسعود بمصر القديمة بالقاهرة، والمرسومة على الجص والمحفوظة الآن بمتحف الفن الإسلامى وتمثل شابا جالسا يمسك بيده كأسا ويرتدى جلبابا تزينه حليات من زخرفة نباتية حمراء اللون وعلى رأسه عمامة بها طيات وحول الرأس هالة كاملة الاستدارة.
وعندما نأخذ مصر كمثال لتطور مجال العمارة والفنون الإسلامية نجد أن العصر الطولونى «254 - 292هـ/ 868 - 905م» قد تأثرت فيه العمارة الطولونية كثيرا بالنمط السائد فى مدينة سامراء بالعراق ويتضح هذا التأثير فى جامع أحمد بن طولون، الأثر الوحيد الباقى من مدينة القطائع، ومع وصول الفاطميين إلى مصر ظهرت تأثيرات جديدة فى العمارة أتوا بها من شمال إفريقيا، كما ظهرت لأول مرة موضوعات فنية زخرفية ذات عناصر مستمدة من الأشكال الآدمية والحيوانية، وقد انحصرت فنون العمارة الفاطمية فى المدن التى أسسها الفاطميون فى افريقيا ومصر وهى «المهدية» و«صبرة المنصورية» و«القاهرة»، وفى عام 359هـ أى 970م وضع جوهر القائد أساس «جامع القاهرة» الذى عرف فيما بعد بـ«جامع الأزهر» ليفتتح فى 7 رمضان من عام 361هـ ولم تظهر الحجارة فى العمارة الفاطمية إلا عند بناء «الجامع الأنور» الذى بناه العزيز بالله وأكمله ولده الحاكم بأمر الله وبذلك أصبح يمكن الاستغناء عن الطلاء الجصى فى تغطية المسطحات الجدارية وتسويتها.
وعرفت مصر فى العصر الفاطمى المسجد ذا الضريح، وهو نوع أقيم لإحياء ذكرى آل البيت، وأهم تلك المساجد التى بها الأضرحة أو «المشاهد» مشهد السيدة سُكينة، ومسجد عاتكة والجعفرى، ومشهد السيدة رقية، ومشهد إخوة يوسف، ومشهد اللؤلؤة، ومشهد الجيوشى الذى أقامه بدر الجمالى على هضبة المقطم عام 1085م ربما ليُدفن فيه، وأهم المشاهد جمعاء «المشهد الحسينى» حيث نقل الفاطميون فى عام 548هـ/ 1153م رأس الإمام الحسين بن على بن أبى طالب التى كانت مدفونة فى مدينة عسقلان خوفا عليها من الفرنج ودفنوها داخل القصر الفاطمى فى قبة «الديلم» التى يؤدى إليها باب الديلم، باب القصر الفاطمى الكبير الجنوبى الشرقى. أما أبواب القاهرة وأسوارها التى شيدها بدر الجمالى بين عامى 1087 و1092م فمازال باقيا منها جزء من السور الشمالى، وأربعة أبواب هى «باب النصر» و«باب الفتوح» فى السور الشمالى، و«باب زويلة» فى السور الجنوبى، و«باب البرقية» الذى كان يفتح فى السور الشرقى، ولا تذكر نصوص الكتب التاريخية الموجودة على هذه الأبواب نفس الأسماء المعروفة لنا، وإنما نجدها تطلق على باب النصر «باب العز» وعلى باب الفتوح «باب الإقبال» وباب البرقية «باب التوفيق»، وقد بُنيت الأبواب من الحجارة بارتفاع قد يزيد على عشرين مترا فى مساحة حوالى خمسة وعشرين مترا مربعا، وكتلها الحجرية المستخدمة فى البناء جلب الكثير منها من الآثار الفرعونية حتى أن فى بعضها لم تزل ظاهرة الكتابة المصرية القديمة، ويتقدم كل بوابة برجان ضخمان فى الجهة الخارجية فيما عدا باب البرقية، وتظهر فى بوابة النصر أقدم أمثلة لتجميع «الصَّنج» المعشقة فى تاريخ العمارة الإسلامية كلها.
ومن حكايات أبهة القصور وهندستها فى تاريخ العرب ما جاء فى عصر بنى أمية بعدما فتحت الشام وورث الفاتحون الدور والقصور التى كانت من قبلهم تتنفس الحضارة اليونانية والرومانية، فلم يكتفوا بها بل أقاموا تراثهم المعمارى الخاص، وتعاقب فى الحكم من بعد معاوية ابنه يزيد ومن بعده مروان بن الحكم وأبناؤه الذين أحاطوا أنفسهم بكل مظاهر أبهة الملك لا فى قصورهم المزدانة بالطنافس وتلمع حوائطها بالفسيفساء وصفائح الذهب وتتراقى فى أفنيتها النافورات فقط، بل أيضا فى بيوت الله، ويبدو ذلك جليًا فى عناية عبدالملك بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة التى تعد إحدى عجائب الدنيا ــ ويمثلان أقدم نموذج فى العمارة الإسلامية، حيث شرع فى البناء عام 68هـ / 688م لينتهى فى عام 72هـ / 691م وطُليت القبة الدائرية بالذهب التى ارتفاعها 35 مترا وبها خمسة أبواب: باب الرحمة، والجنائز، والمفرد، والمزدوج، والثلاثى، وأشرف على البناء المهندسان رجاء بن حيوة الكندى، وهو من التابعين المعروفين وأصله من مدينة بيسان فى فلسطين ويزيد بن سلام مولى عبدالملك بن مروان وهو مهندس من القدس، ويعود اسم قبة الصخرة المثمنة نسبة إلى الصخرة التى تقع داخل المبنى والتى عرج بها النبى محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء فى ليلة الإسراء والمعراج ــ وكذلك عناية الوليد ابنه بالجامع الأموى فى دمشق وزخرفته بالرخام والفسيفساء والزجاج الملون، ولاتزال من ذلك بقية ليومنا هذا، وتلك العناية لم يبخل بها الوليد بل بسطها على المسجد الحرام فى مكة، فأحاله إلى تحفة رائعة، وقد بلغ التنافس فى بناء القصور الفخمة فى البصرة ما جاء ذكره فى كتب التراث كأمثلة للبذخ، ويذكر منها قصر زربى مولى عبدالله بن عامر، وقصر أبى نافع مولى عبدالرحمن بن أبى بكرة، وقصر ابن الأصبهانى، وقصر شيرويه الأسوارى الذى سُمى بـ«هزاردر» لأنه كان يضم ألف باب، ومما يدل على مبلغ التألق فى بناء هذه القصور ما يروى عن أحد التميميين بالبصرة من أنه طلب إلى معاوية أن يعطيه فى بناء داره عشرة آلاف جذع شجرة، وما يروى من أن عبيدالله بن زياد أنفق على داره هناك التى سماها «البيضاء» ألف ألف درهم وأنه ملأها بالرياش والطنافس وزخرف حوائطها بصور الحيوانات، وفى نصوص تراثية كثيرة أنهم كانوا يحيطون قصورهم جميعا بالحدائق الغنّاء، وكانت هناك فى البصرة والكوفة فى عهد معاوية وذريته الحمامات التى تدر فى ذلك الزمان أموالا كثيرة، حتى يروى أن بعضها كان يدر يوميا ألف درهم، ولم يكن يمتلكها العرب وحدهم، بل الموالى أيضا، ومما يذكره البلاذرى من حماماتهم حمام أيمن مولى سعد بن أبى وقاص، وحمام قبل مولى زياد، وحمام سباه الأسوارى.

ويُعد تشييد مدينة بغداد أبرز مثال للهندسة الإسلامية بجميع مقوماتها ودعائمها، ويعود إلى أبى جعفر المنصور فى الدولة العباسية الفضل فى قيامها بعيدا عن الكوفة مركز العلويين ليأمن على نفسه ما ينشب فيها من ثورات، وحتى يعزل جنده عن أهلها فلا يؤثرون فيها.. اختار المنصور بقعة بغداد ليقيم فيها قلعته الحصينة فأحضر لها المهندسين والفعلة والصناع من أطراف الأرض شارحا لهم رغبته فى أن تكون عاصمة مستديرة على نفس نسق المدن الفارسية والآشورية القديمة، ووضع لها حجر الأساس بيده عام 145 قائلا: «بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين»، وظل بناء بغداد لمدة ثلاثة أعوام ليكتمل فى سنة 149 ليستدير من حولها خندق كبير وسوران شاهقان عريضا الجدران وراءها سور داخلى زيادة فى التحصين، وفتح فى كل سور أربعة أبواب متساوية الأبعاد: باب الشام فى الشمال الغربى يقابله باب البصرة فى الجنوب الشرقى، وباب خراسان فى الشمال الشرقى بحذاء دجلة، ويقابله باب الكوفة فى الجنوب الغربى، وكان على كل باب خارجى ساحة يصعد إليها على ظهور الخيل عليها قباب مذهبة فى رأسها تماثيل تتجه مع اتجاه الرياح، وكان من بين كل قبتين 18 برجا مجهزة بأدوات الدفاع عن المدينة، وما لبثت بغداد أن أصبحت أهم مدينة فى العالم العربى، إذ بنيت بها مئات المساجد والقصور الفخمة وتكاثر بها التجار والصنّاع، وكان لكل طائفة شارع وسوق خاص، فهذا سوق العطارين وسوق الوراقين وسوق الصيارفة وسوق الحلى وسوق الرقيق، الخ... وتعددت مظاهر الرفاهية والحيوية تتبدى فيها البساتين الملحقة بالقصور والمتنزهات العامة وميادين اللعب بالصولجان، والقوارب التى تتلألأ على صفحات دجلة بأشكالها المبتكرة، وعندما ازداد عدد الأتراك فى عسكر المعتصم وزاد أذاهم مع الجمهور اعتزلهم المعتصم فى سامراء شرق دجلة بين بغداد وتكريت، وأمر بأن يُسمى الموقع «سرمن رأى» التى اختصرت إلى سامراء التى بدأ بناؤها عام 221، وقد أحضر لها المعتصم المهندسين والصنّاع من سائر البلاد وابتدأ فيها بقصره المسمى «الجوسق» وابتنى بجواره مسجدا كبيرا إلى جانب الدواوين، وحفر القنوات التى تأخذ من دجلة، وجلب للمتنزهات الزرع والزهور من البصرة والشام وخراسان، وظل الخلفاء بعد المعتصم يقيمون فى سامراء حتى عام 276 بعدها تحولوا منها إلى بغداد مما قضى عليها لتغدو أطلالا إلا ما كان من مسجدها الذى اعتنى به المعتصم، حتى قال المقدسى إنه أفضل من مسجد الوليد بن عبدالملك بدمشق ولاتزال مئذنته الشاهقة قائمة إلى اليوم..
ويأتى العصر العباسى الثانى الذى بدأ بالمتوكل حيث بلغت النفقات ما لم تبلغه فى أى عصر من قبل خاصة فى بناء القصور وكان كلما بنى قصرا تبعه بآخر حتى بلغت قصوره العشرين، وإذا كان أبوجعفر المنصور قد شيد بغداد عاصمة للدولة العباسية فى العراق فقد قام أحمد بن طولون فى مصر بإنشاء مدينته «القطائع» خارج الفسطاط، وكانت البداية مع قصره الذى توسط قطائع لعساكره من الترك والسودان والروم، وضمت المدينة الجديدة الشوارع والحارات والأزقة والحوانيت وبنيت المساجد والطواحين والحمامات والأفران، وبنى ابن طولون جامعه الكبير وأنفق عليه مائة وعشرين ألفا من الدنانير، وبنى بيمارستان وأنفق عليه ستين ألف دينار، وجعل أمام قصره ميدانا كبيرا للعب كرة الصولجان أنفق عليه خمسين ألف دينار، وعندما استقر الملك بعده لابنه خمارويه زاد فى عمارة قصر أبيه، وجعل الميدان من أمامه بستانا زرع فيه الرياحين والورود والشجر وكسا النخل نحاسا تخرج من عيونه المياه لتنحدر إلى فسقيات يفيض منها الماء إلى أنهار تسقى سائر البستان، وأطلق فيه طيورا مغردة وطواويس رائعة، وشيد لنفسه مجلسا سماه «دار الذهب» طلا حوائطه بالذهب والفضة وجعل فيه تماثيل وصورا بارزة لمحظياته ومغنياته وعلى رؤوسهن الأكاليل من الذهب والجواهر المرصعة، وأنشأ وسط البستان فسقية من الزئبق طولها خمسون ذراعا تبدو متعة للناظرين عندما يكتمل البدر فى السماء وينعكس ضياؤه على السطح الفضى، واتخذ خمارويه بيوتا للسباع والوحوش إلى جانب الاسطبلات التى لا آخر لها للخيول ذات الأنساب، ومما يدل على ما بلغت إليه الدولة من ثراء جهاز ابنته قطر الندى حين زوجّها للخليفة العباسى المعتضد، الذى ضم هودج العروس المكون من دكة تتألف من أربع قطع صلبة من الذهب فوقها قبة من الذهب المشغول معلق فيها أقراط وشخاليل فى كل قرط حبة من الجواهر التى لا تُقدر بمال، وكان فى الجهاز مائة هاون من الذهب وبنى خمارويه على مدى الطريق من مصر إلى بغداد عشرات القصور الفاخرة لتبيت فيها العروس فى رحلة السفر.
ويذهب الطولونيون ويأتى بعدهم الإخشيديون، حيث يشيد فى عهد الإخشيد سنة 330 قصر «المُلك» فى جزيرة الروضة، ومن بعدها تلقى مصر بكنوزها للفاطميين الذين عاشوا فى ثراء وترف وبذخ قال عنه المقريزى: «بعد تقوض الدولة واستيلاء صلاح الدين على مقاليد الحكم أن كشف ما كان فى خزائن القصر الفاطمى الخاصة وصل إلى أنه قد خرج من القصر ما بين دينار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسلاح ما لا يفى به ملك الأكاسرة ولا تتصوره الخواطر الحاضرة ولا يشتمل على مثله الممالك العامرة ولا يقدر على حسابه إلامن يقدر على حسابات الخلق فى الآخرة».. ويرحل سلاطين الأيوبيين بعد انتصاراتهم على الصليبيين ويتحول صولجان الحكم إلى سلاطين المماليك لتعد أيامهم من أزهى أيام مصر الإسلامية إن لم تكن أزهاها، وتميَّز عصر المماليك بالثراء مما أعد الدولة لتنهض نهضة كبيرة بالحركة العلمية وبفن العمارة بالذات، حيث اكتظت القاهرة بمساجد سلاطينها وقبابها الشامخة الرائعة، وكأنما كُتب على الشعب المصرى أن يؤدى ثمنا باهظا لمرحه ولهوه فى زمن المماليك حيث كان الناس يخرجون للكرنفالات والاحتفالات وللنزهة فى الأزبكية وعلى شط النيل وفى بولاق وجزيرة الروضة، ويستأجرون القوارب والسفن الشراعية للتنزه بها فى النيل، وكانت هناك المسارح الشعبية وخيال الظل ومسرحيات ابن دانيال الفكاهية، ولقد دفع الشعب المصرى الثمن بعد اجتياح العثمانيين دياره وأعتمت سماؤه نحو ثلاثة قرون إلا قليلا بعدما تحولت مصر من امبراطورية ذات سلطان وصولجان إلى ولاية عثمانية يجردها سليم الفاتح من علمائها ورجال الفنون بها ومهرة صناعها وتراثها الفني...
وليكرِّم الله كل من أتى بعدها ليُعيد لها مجدها التليد وشعبها الرشيد وطبعها الفريد ورأيها السديد وبأسها الشديد وجيشها العتيد.
لمزيد من مقالات سـناء البيـسى رابط دائم: