ارتبطت المنظومة القيمية الغربية بالدفاع عن عدد من المبادئ السياسية والاقتصادية، دارت بالأساس حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وآليات السوق، وحرية التجارة والاستثمار، ومركزية دور القطاع الخاص، وضبط الدور الاقتصادى للدولة إن لم يكن تحجيمه إلى أقصى درجة ممكنة، فضلا عن الإيمان بحرية انتقال الأفراد. لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قامت المنظومة ذاتها على وجود علاقة قوية بين القيم السياسية والاقتصادية والمالية، بمعنى التعامل مع هذه المبادئ والقيم باعتبارها وجوها مختلفة لمنظومة قيمية متكاملة ومنسجمة. وقد استند دفاع الغرب والأدبيات السياسية والاقتصادية الغربية عن هذه المنظومة القيمية انطلاقا من عدد من الافتراضات، منها ما يتعلق بالعلاقة بين هذه القيم نفسها، فى جوانبها السياسية والاقتصادية، بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن بناء ديمقراطيات قوية مستدامة بدون نظم اقتصادية وطنية حرة تستند إلى آليات السوق وحرية التجارة والاستثمار وفتح الأسواق أمام الأفراد، والعكس صحيح. كما أنه لا يمكن بناء سلام وأمن عالمى بدون انتشار الأنظمة الديمقراطية والاقتصادات الحرة المستندة إلى آليات السوق. هذه الافتراضات أسست لتطور أدبيات غربية حول كيفية نشر الديمقراطيات واقتصادات السوق فى الدول الغربية، خاصة داخل الدول النامية، وصل الأمر فى بعض الحالات إلى دفاع بعض هذه الأدبيات عن التدخل العسكرى لفرض الديمقراطية واقتصاد السوق.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد قامت المؤسسات الدولية عقب الحرب العالمية الثانية على هذه الفلسفة، من خلال استحداث مؤسسات بريتون وودز، وعلى رأسها البنك الدولى وصندوق النقد الدولى اللذان تأسسا فى عام 1944، ثم منظمة التجارة العالمية التى تأسست فى عام 1995. استندت هذه المؤسسات لاحقا إلى مفهوم «توافق واشنطن» الذى صكه الاقتصادى الأمريكى جون وليمسون فى عام 1989. ويقوم المفهوم على عشرة مبادئ اعتقد وليمسون أنها تمثل جوهر حزمة السياسات الأساسية التى تتوافق عليها مجموعة المؤسسات الاقتصادية الدولية، بالإضافة إلى المؤسسات الاقتصادية الأمريكية خاصة وزارة الخزانة، ومجلس الاحتياطى الفيدرالي، والهيئات والوكالات الاقتصادية الأمريكية، ومراكز الفكر الاقتصادي... إلخ، وأن هذه المبادئ العشرة ضرورة، ليس فقط للتعافى والخروج من الأزمات الاقتصادية والمالية الدولية، لكنها ضرورية أيضا لتدشين واستدامة المشروعات التنموية المحلية. كان من بين هذه المبادئ تحرير التجارة الخارجية، وتسهيل عمليات تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر إلى الداخل، وإلغاء القيود المفروضة على حرية الدخول إلى السوق والخروج منها من خلال إلغاء القيود التى تؤثر سلبا على قواعد المنافسة.
وبعيدا عن الانتقادات التى وُجهت لمبادئ «توافق واشنطن»، والجدال النظرى الذى ارتبط بهذا المفهوم، وما يعنيه من سياسات اقتصادية ومالية على مستوى الاقتصادات الوطنية، لكن ظل هناك توافق دولى على أهمية الحفاظ على سياسات تحرير التجارة وأسواق رأس المال، حتى أن الصين نفسها أصبحت من بين أكثر الاقتصادات الصاعدة استفادة من هذه السياسات، وباتت من بين أكثر المدافعين عن العولمة وحرية التجارة والاستثمار. وارتبطت الموجات المتتالية من التجارب التنموية التى بدأت فى ستينيات القرن الماضي، فى آسيا وأمريكا اللاتينية، بظاهرة الأسواق المفتوحة، حيث لعبت الصادرات الخارجية وتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر دورا رئيسا فى استدامة النمو الاقتصادى فى هذه الاقتصادات. وتطورت فى هذا السياق مجموعة من الظواهر الدولية المهمة، كان أبرزها ظاهرة «الإقليمية الجديدة» أو «الإقليمية المفتوحة» وفق بعض التعبيرات، والتى قامت فى أحد أبعادها على التوسع فى إزالة الحواجز التجارية وغير التجارية أمام تدفقات التجارة والاستثمار، سواء عبر الإقليم عبر الأقاليم، وتُرك تطبيق سياسات تحرير الأسواق للاقتصادات الوطنية نفسها وفقا لأولوياتها وخططها الداخلية.
وفى اتجاه معاكس لهذا التوافق الدولي، واستقرار السياسات الاقتصادية والمالية الدولية عبر عقود متتالية، عادت خلال السنوات الأخيرة سياسات الحمائية التجارية، من خلال اتجاه الولايات المتحدة إلى استئناف فرض الرسوم الجمركية على وارداتها من عدد من الدول، بهدف تعزيز السوق المحلية والمنتج المحلى الأمريكي. كان مفهوما اتجاه الولايات المتحدة إلى هذه السياسية خلال الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترامب، وتحديدا فى عام 2018، فى إطار التنافس الاستراتيجى مع الصين، لكن هذه السياسة استمرت خلال إدارة بايدن، الأمر الذى أعطى هذه السياسة بعدا استراتيجيا. كذلك انتقل الأمر إلى تطبيقها فى مواجهة اقتصادات صديقة فى أوروبا وأمريكا الشمالية. ويعزز من تكريس هذه السياسة أيضا الاتجاه إلى فرض قيود على حريات انتقال الأفراد، والانسحاب الأمريكى من بعض المنظمات والمؤسسات ذات الطابع الوظيفى مما يعزز من التعاون الدولى فى مجالات أخرى بعيدا عن التجارة والاستثمار (منظمة الصحة العالمية، اتفاقية باريس للمناخ).
التوسع فى السياسات الحمائية ينطوى على مخاطر عدة، أولها أنها تأتى كمبادرة من جانب القوة العظمى التى تضطلع -ضمن وظائفها العديدة داخل النظام العالمي- بوظيفة حماية واستقرار النظام الاقتصادى والتجارى العالمى الحر، وفى القلب منه مجموعة القيم والمبادئ الأساسية التى يقوم عليها هذا النظام. ثانيها، أنها ستنال بالتأكيد من مدى تماسك المنظومة القيمية التى دافع عنها الغرب والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، بأبعادها ومكوناتها السياسية والاقتصادية والمالية. وتزداد أهمية هذا الخطر فى ظل حالة الصراع الراهن على قمة النظام العالمي، والذى ينطوى بالتأكيد على بعد قيمي. ثالثها، أنها قد تؤسس لاتجاه معاكس فى حركة رءوس الأموال والاستثمارات، بمعنى اتجاه الاقتصادات المتضررة والمتنافسة إلى سحب رءوس أموالها واستثماراتها من الاقتصادات المنافسة، وإعادة توجيهها وفقا لاعتبارات سياسية أو أيديولوجية اقتصادية، الأمر الذى سيكون له تأثيره السلبى على استقرار الاقتصاد العالمي، بل وعلى الأمن العالمى فى مرحلة لاحقة. رابعها، أنها قد تؤسس لتحولات داخلية فى العديد من الدول المتضررة فى اتجاه صعود تيارات سياسية متشددة وسيطرتها على السلطة، بما يؤسس بدوره لموجة جديدة من السياسات الاقتصادية والمالية الدولية أكثر تشددا. مثل هذه الظواهر سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية، على نحو دفع بعض الكتابات إلى اعتبار هذه السياسات الحمائية مقدمة لتطور بيئة دولية محفزة للاتجاه لحرب عالمية ثالثة.
مازالت هناك فرصة بالتأكيد للتراجع عن هذه السياسات الحمائية لمصلحة الحفاظ على الاستقرار العالمى على المستويين الاقتصادى والأمني، لكن الأمر يتطلب قدرا كافيا من الحكمة.
***
ارتبطت الموجات المتتالية من التجارب التنموية التى بدأت فى ستينيات القرن الماضي، فى آسيا وأمريكا اللاتينية، بظاهرة الأسواق المفتوحة، حيث لعبت الصادرات الخارجية وتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر دورا رئيسا فى استدامة النمو الاقتصادى فى هذه الاقتصادات.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: