فى ظنى أن أسامة الباز لم يحظ بعد رحيله وربما فى حياته أيضًا بما كان يستحقه من تقدير وتكريم، فالرجل الذى بدأ حياته وكيلاً للنائب العام، ثم أصبح دبلوماسيًا مرموقًا فى وزارة الخارجية المصرية يبدو للجميع أنه صانع النجوم ومبرز الشخصيات فى سمو ورفعة ورقى واحترام، فهو ابن عالم أزهرى وشقيق عالم الفضاء فاروق الباز، والغريب أنه وهو دبلوماسى مرموق وسياسى متميز لم يعمل فى إحدى بعثاتنا فى الخارج، ولم يستمتع بامتيازات سفير فى إحدى العواصم، وقد خرجت من عباءته أسماء لامعة تبوأ بعضهم منصب وزير الخارجية، وظل بعضهم الآخر يعترف بفضله ويتذكر قيمته فى مناسبات عديدة، فقد كانت كفاءته وشخصيته معًا نموذجًا يثير الاحترام ويدعو للاعتزاز، ولقد لعب الرجل دورًا مهما فى الخفاء مع شباب ضباط الثورة المصرية عام 1952 ثم انخرط فى التنظيمات الناصرية فى الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان طالبًا للدكتوراه فى القانون الدولى هناك، ثم عاد قبيل رحيل عبدالناصر بسنوات قليلة ليشارك فى إدارة معهد الدراسات الدبلوماسية ويصبح قدوة لأجيالٍ من الدبلوماسيين الذين اقتربوا منه وأتشرف شخصيًا أننى أحدهم، وقد عثر عليه الرئيس الراحل السادات عندما كان الباز مديرًا لمكتب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللامع إسماعيل فهمى وأصبح عضوًا بارزًا فى المجموعة المحيطة بالرئيس السادات وشارك باقتدار فى مفاوضات كامب ديفيد وكان هو محرر معظم الوثائق المتصلة بذلك الحدث أو على الأقل كان مراجعًا لكل ما قيل وكتب من الجانب المصرى فى تلك المباحثات المحورية فى تاريخ السلام المصرى الإسرائيلى، ولقد أنس السادات إليه وقدر موهبته واصطفاه مستشارًا قريبًا منه، وعندما اقتربت المباحثات من نهايتها طلب الرئيس الأمريكى كارتر من السادات أن يترك معه أسامة الباز حتى يتمكن كارتر والباز من تسجيل العقبات المتصلة بصياغة وثائق ما جرى وما تم الوصول إليه، ومازلت أتذكر الصفحة الأولى فى الأهرام وفيها يجلس جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وعراب اتفاق كامب ديفيد ومعه أسامة الباز فقط يجلسان وحدهما لترتيب الصياغة النهائية لوثائق المباحثات، وكان أسامة الباز أيضًا هو الذى صاحب السادات مع بطرس غالى فى زيارة القدس الشهيرة، وكان القرار خطيرًا وأشبه بصدمة كهربائية كبرى هزت أعطاف المنطقة وزلزلت أركان عقود طويلة سبقتها، وهو أيضًا أسامة الباز الذى صاغ معظم خطب الرئيس الراحل أنور السادات ومن بعده الرئيس الراحل أيضًا حسنى مبارك، وعندما تولى الأخير منصب نائب رئيس الجمهورية باختيار السادات اقترح الأخير على نائبه الجديد أن يجد مساعدًا عالى الكفاءة للنائب القادم من حياة عسكرية مشرفة فى القوات الجوية ليصبح مسئولاً فى السياستين الداخلية والخارجية عندئذٍ رشح اسماعيل فهمى رحمه الله أسامة الباز للنائب الجديد للرئيس، فكان خير عون ومثل بحق العمود الفقرى فى السياستين الداخلية والخارجية، وأتذكر الآن مما حكاه لى أسامة الباز وقد كنت قريبًا منه فى سنوات حياته الأخيرة أن السادات قد كلفه بصياغة خطاب مصر الذى سوف يلقيه الرئيس الراحل فى احتفال البيت الأبيض بتوقيع معاهدة السلام عام 1979 وكتب الباز الخطاب من منظور وطنى وقومى، فقد كان الرجل من أعلم رجالنا بدروب القضية الفلسطينية وتاريخها المزمن، وأفاض الباز فى إعطاء الفلسطينيين جرعات من الإشادة السياسية والدعم المصرى، وعند دخول السادات إلى مبنى البيت الأبيض رأى مجموعة من المتظاهرين يهتفون ضده وضد مفاوضات السلام التى أسفرت عن تلك الاتفاقية فى 26 مارس 1979، وكان السادات قد قرأ مسودة الخطاب ووافق عليه قبل أن يرى تجمع المتظاهرين المعادين له وللاتفاق الذى سوف يوقعه، فما كان من السادات وهو رجل دولة بخبرات واسعة إلا أن أسقط صفحة كاملة من الخطاب كانت تحتوى على إشادة بالغة بالموقف الفلسطينى رغم ابتعاده عن مسار السلام فى ذلك الوقت، واعتبار السادات عميلاً يبيع القضية، وفوجئ الباز بخلو الخطاب وهو يستمع إليه من الإشارات الحميمة تجاه القيادةالفلسطينية كما وردت فى النص الأصلى الذى سلمه للرئيس الراحل قبل قراءته، وبعد الجلسة همس الباز فى أذن السادات بأن فقرتين كبيرتين قد سقطتا من الخطاب فابتسم السادات فى دهاء وقال له إن سكرتيرى فوزى عبدالحافظ على ما يبدو قد نسيهما أو سقطا منه سهوًا، ويستطرد الباز فيما حكاه لى شخصيًا بأنه بعد ذلك بعدة أسابيع فى أحد اللقاءات ذات صباح فى استراحة القناطر قال له السادات هل تذكر يا أسامة خطاب يوم توقيع اتفاقية السلام، وكيف أن صفحة كاملة قد سقطت من الخطاب، إننى أعترف أمامك الآن بأنى قد فعلت ذلك متعمدًا احتجاجًا منى على التجمع غير المسئول الذى كان يهتف ضد مصر ورئيسها رغم أنهم يسعون جادين لتحقيق السلام فى إطار إقرار الحقوق الفلسطينية الثابتة، ووجدت أن ذلك التجمع أمام مبنى البيت الأبيض لم يرتفع إلى مستوى ما كتبته عن الشعب الفلسطينى المكافح من أجل استقلاله والمناضل فى سبيل حريته.
رحم الله كارتر الذى رحل عن عالمنا أخيرا عن مائة عام ، والرئيس السادات صاحب قرارى الحرب والسلام، وأسامة الباز ابن مصر البار صاحب السجل الناصع فى خدمة وطنه وأمته.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: