أثار الإعلان عن تأسيس حزب سياسى جديد تحت اسم «الجبهة الوطنية» نقاشا واسعا حول مدى الحاجة لوجود حزب سياسى جديد، وما الذى يمكن أن يضيفه حزب جديد للحياة السياسية والحزبية فى مصر فى هذه المرحلة. البعض ذهب إلى أننا لسنا فى حاجة إلى حزب جديد، بقدر ما أننا فى حاجة إلى مراجعة لبيئة عمل الأحزاب السياسية. واستدل هؤلاء بوجود عدد كاف من الأحزاب السياسية فى مصر لكنها لم تؤد إلى تعزيز حالة المنافسة السياسية والحزبية المأمولة. كل هذه التساؤلات هى تساؤلات مشروعة بالتأكيد، لكنها تغفل عددا من الأمور المهمة عند الإجابة على هذا النوع من التساؤلات، أو أنها لا تضع هذه التساؤلات فى إطار أوسع، وهو كيف تتطور الحياة السياسية؟. ونشير فيما يلى إلى عدد من الملاحظات المهمة التى يتعين أخذها فى الاعتبار عند الإجابة على تلك التساؤلات، وحتى نضع مسألة ظهور أحزاب سياسية جديدة فى السياق الدقيق.

الملاحظة الأولى، تتعلق بعدم دقة السؤال: هل نحن بحاجة إلى حزب سياسى جديد؟ ذلك أن طرح هذا السؤال يعنى ضمنا أن هناك قيدا ما على الحق فى تشكيل الأحزاب السياسية؟ أو أن مسألة الحاجة السياسية إلى وجود حزب سياسى من عدمه تمثل قيدا على ممارسة الحق الدستورى والقانونى الأصيل فى تأسيس الأحزاب السياسية باعتباره أحد الحقوق السياسية، خاصة بعد حزمة التطورات السياسية والدستورية والتشريعية التى شهدتها مصر خلال العقد الأخير، والتى عكست نفسها فى دستور 2014، وقانون الأحزاب السياسية. الخلاصة هنا أنه بصرف النظر عن مدى الحاجة السياسية إلى حزب جديد من عدمه فإن هذا يجب ألا أن ينال من ممارسة الحق الدستورى فى تأسيس الأحزاب السياسية.
الملاحظة الثانية، تتعلق بتقييم تطور الحياة السياسية فى مصر، ومسألة ظهور حزب سياسى جديد ضمن تلك العملية. وغالبا ما تقع عملية تقييم تطور الحياة السياسية فى بلد ما فى خطأ تقييم تلك العملية على المدى القصير. صحيح أن التحول إلى نظام التعددية الحزبية بدأ فى مصر فى منتصف سبعينات القرن الماضي، لكن يمكن التأريخ لبدء مرحلة التعدد الحزبى الفعلية بمرحلة ما بعد يناير 2011 مع التعديلات التى أُدخلت على طريقة تأسيس الأحزاب السياسية. كذلك، فإن تطور العملية السياسية ونضجها يأخذ مدى زمنى طويلا نسبيا، ولا يرتبط ذلك بتطور الأبنية الدستورية والتشريعية فقط، لكنه يرتبط أيضا بتطور خبرات المجتمع وخياراته، وتطور النخب السياسية والحزبية. فى هذا السياق، لا يمكن تقييم واقع الخريطة الحزبية الراهنة فى مصر، وما تتضمنه من إشكاليات، بمعزل عن واقع النخب السياسية والحزبية. إن اكتمال عملية التطور السياسى لابد أن يرتبط هنا بشرط مهم، وهو قدرة النخب على طرح أحزاب سياسية تطرح بدائل حقيقية أكثر منها هياكل تنظيمية غير فاعلة. الخلاصة هنا أن ظهور حزب سياسى جديد وقوى يعبر فى التحليل الأخير عن تطور النخب السياسية والحزبية، ويمثل نقطة إيجابية فى تطور الحياة السياسية والحزبية فى مصر، خاصة عندما يقف وراء هذا الحزب نخبة قوية. كذلك يجب عدم النظر إلى الخريطة الحزبية فى حياة أى بلد ما، فى لحظة محددة، على أنها خريطة جامدة أو يجب أن تكون كذلك، فالأمر يرتبط كما سبق القول بتطور المجتمع والنخب السياسية.
الملاحظة الثالثة، تتعلق بالعلاقة بين عدد الأحزاب السياسية وفعالية النظام الحزبي؛ فوجود عدد كبير من الأحزاب السياسية هو مؤشر صحى بالتأكيد من الناحية النظرية، لكنه لا يعنى بالضرورة فعالية النظام الحزبي، فالأمر يعتمد على حجم هذه الأحزاب، ومدى قوة هياكلها التنظيمية والتمويلية، ومدى قدرتها على الانتشار الجغرافي، وقدرتها على تطوير رؤى ومشروعات بديلة للسياسات العامة والخارجية إزاء التحديات الداخلية والخارجية، ومدى قدرتها أيضا على تطوير وإضافة بدائل عملية لهذه السياسات أمام الناخب، ومدى قدرتها أيضا على خلق وتطوير نخب وطنية جديدة فى مختلف المجالات. ذلك أن تطوير نخب سياسية وحزبية هو إحدى وظائف الأحزاب السياسية. إذا أدخلنا هذه المعايير وغيرها فى تقييم واقع الأحزاب السياسية فى مصر، فإن عددا قليلا من هذه الأحزاب ينطبق عليها مفهوم «الحزب السياسي» الحقيقي، ما يعنى أن عددا غير قليل من هذه الأحزاب لازال يمثل مجرد أرقام على الخريطة الراهنة للأحزاب السياسية. العدد الكبير للأحزاب السياسية فى مصر أصبح سؤالا مهما، وطُرح بشأنه عدد من البدائل لإصلاح الخريطة الحزبية، كأن تتجه الأحزاب السياسية إلى عمل عدد من الاندماجات التى تؤدى إلى تقليل عدد الأحزاب وبناء أحزاب أقوى. الاستنتاج المطروح هنا أننا فى حاجة إلى المزيد من الأحزاب القوية وليس الأحزاب الصغيرة غير الفعالة، دون أن ينفى ذلك الحفاظ على الحق الدستورى والقانونى فى تشكيل الأحزاب السياسية.
الملاحظة الرابعة، وترتبط بالملاحظة السابقة، وتتعلق بالخبرات الدولية؛ إذ تشير هذه الخبرات إلى أن العبرة ليست بكثرة عدد الأحزاب بقدر ما تتعلق بوجود عدد مناسب من الأحزاب السياسية الكبيرة والقوية. وينطبق ذلك على الديمقراطيات الدولية المستقرة، مثل الولايات المتحدة والهند، وغيرهما. الولايات المتحدة على سبيل المثال استقر الأمر على وجود حزبين كبيرين رئيسيين، هما الحزبان الديمقراطى والجمهوري، وفى الهند تقوم الخريطة الحزبية الراهنة على حزبى المؤتمر وبهاراتيا جاناتا. استقرار الخريطة الحزبية يأخذ مدى زمنى طويلا؛ قد يتصدر هذه الخريطة بعض الأحزاب فى مرحلة ما، وتتراجع لمصلحة أحزاب أخرى فى مرحلة تالية. الاستنتاج الرئيسى هنا أن الخريطة الحزبية الفاعلة تتسم أولا بالديناميكية، ولا يمنع ذلك ــ ثانيا ــ إمكانية وجود حزبين أو ثلاثة أو أربعة أحزاب كبيرة، تلعب الدور الرئيسى فى تطوير بدائل السياسات العامة أمام الناخب فى مرحلة ما، فهو المستفيد فى التحليل الأخير.
خلاصة القول، يجب عدم التعامل مع الخريطة الحزبية فى مصر على أنها خريطة جامدة، كما أن ظهور حزب سياسى جديد يمثل فى التحليل الأخير إضافة للحياة السياسية طالما وقفت ورائه نخبة قوية، وهى خطوة نحو تطوير الخريطة الحزبية والنظام الحزبى فى اتجاه تعزيز ظاهرة الأحزاب القوية كجزء من واقع الخبرات الدولية السائدة. ويجب أن نفهم هذا التطور فى سياق أوسع وهو تطور الحياة السياسية فى مصر.
***
إن ظهور حزب سياسى جديد وقوى يعبر فى التحليل الأخير عن تطور النخب السياسية والحزبية، ويمثل نقطة إيجابية فى تطور الحياة السياسية والحزبية فى مصر، خاصة عندما يقف وراء هذا الحزب نخبة قوية.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: