الذى يطالع الخبرات التنموية الدولية سيلاحظ أن كل دولة كان لها سماتها الى تميزها عن غيرها، وطورت ما يناسبها من الآليات والمؤسسات التى تتناسب مع واقعها الاقتصادى والاجتماعى والثقافي. ظلت هناك العديد من المساحات والقواسم المشتركة فى التعامل مع بعض القطاعات، لكن ظل فى المقابل من عناصر التمايز التى تحفظ لكل تجربة تميزها واختلافها. يصدق ذلك على طريقة التعامل مع القطاع الأهلي. إحدى الحقائق المهمة فى الحالة المصرية أن هذا القطاع هو واحد من القطاعات المهمة والقوية فى مصر، خاصة على خلفية تطور عدد من الجمعيات الأهلية الكبيرة، والتى بات لديها ليس فقط خبرة كبيرة فى مجال العمل الأهلي، لكنها باتت تمتلك قواعد بيانات واسعة حول الواقع المحلى فى مختلف الأقاليم المصرية، توفر أساسا لبناء خرائط متخصصة لحاجات المجتمعات المحلية فى الريف والحضر، فى مجالات الصحة والتعليم والغذاء...إلخ. الأهم من ذلك أيضا أن عمل هذه الجمعيات الأهلية بات يتجاوز الأنشطة الخيرية وتقديم المساعدات الإنسانية ليشمل بعدا تنمويا، بدءا من رؤيتها لدورها وطبيعة مهامها، وبما ينعكس على أدائها على الأرض.
فى هذا السياق اكتسبت خطوة تأسيس التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموي، بموجب القانون رقم 171 لسنة 2023، أهمية كبيرة، والذى جاء ليكرس مجموعة من الأبعاد المهمة.
البعد الأول، تعميق وتوسيع فلسفة التشبيك بين الجمعيات الأهلية فى مصر، استنادا إلى عضوية عدد من الجمعيات الأهلية الكبيرة بالتحالف، والإبقاء على باب العضوية مفتوحا أمام غيرها من الجمعيات، وعمل التحالف كمظلة لأكبر عدد ممكن من الجمعيات الأهلية. وتزداد أهمية تعميق هذه الفلسفة فى ظل حالة التنوع الكبيرة فى مجالات عمل هذه الجمعيات، والتى تغطى حزمة مهمة من المجالات (التعليم، الصحة، الغذاء، الزراعة، وغيرها)، فضلا عن تنوع مجالات عملها الجغرافي، الأمر الذى يحتم حالة من التنسيق الذى يعمق بدوره حالة التكامل بين هذه الجمعيات. كما تزداد أهمية هذه الفلسفة أيضا فى ظل قواعد البيانات المهمة المتاحة لدى هذه الجمعيات، الأمر الذى يعزز حالة التكامل فيما بينها، ويعظم العوائد المتحققة من مواردها المالية المتاحة.
البعد الثانى، التأكيد على الطابع التنموى لقطاع الجمعيات الأهلية؛ فعلى الرغم من قدم هذا القطاع المهم فى مصر، لكنه عانى لفترة غير قليلة من تركيز النسبة الأكبر من هذه الجمعيات على الأعمال الخيرية، بينما جاءت الجمعيات التنموية فى ترتيب تال من حيث نسبتها إلى إجمالى الجمعيات. الآن، مع تأسيس التحالف الوطني. فقد أصبح البعد التنموى بعدا رئيسا فى عمل التحالف والجمعيات الأهلية المنضوية تحت مظلته. وعلى الرغم من أن نشاط هذه الجمعيات لا يخلو من بعد خيرى وإنساني، لكنه يرتبط بشكل أصيل بالبعد التنموى ويُخدم عليه؛ فلا شك فى وجود تداعيات تنموية غير مباشرة لبعض الأنشطة ذات الطابع الخيرى الإنساني، بما فى ذلك تأثيرها على الصحة والتعليم والإنتاجية... إلخ. ويتأكد البعد التنموى فى عمل التحالف فى ظل اعتبارين أساسيين. الأول، هو تنوع الخلفيات المهنية ومجالات عمل أعضاء مجلس أمناء التحالف والجمعيات المنضوية تحت مظلته. الاعتبار الثاني، هو ما يتضمنه مجلس أمناء التحالف من نخبة وطنية تعكس حالة التنوع داخل المجتمع وداخل قطاع الجمعيات الأهلية.
البعد الثالث، هو تعميق حالة التكامل بين فاعلين وشركاء ثلاثة، هم الحكومة، والقطاع الأهلي، والقطاع الخاص. التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى ليس مؤسسة حكومية، ولا يعمل كامتداد للحكومة المصرية، لكن هذا لا ينفى فرص التنسيق بين التحالف والحكومة فى وجوه عدة، خاصة فى ظل وجود مشروعات ومبادرات تنموية كبيرة لدى الحكومة، على رأسها مشروع حياة كريمة والذى يخلق فرصا كبيرة للتنسيق والتعاون بين أنشطة التحالف الوطنى وهذه المبادرات. هذا التكامل بين الشركاء/ الفاعلين الثلاثة مثل إحدى السمات المهمة للتجارب التنموية الآسيوية، التى قامت على بناء علاقة تكامل بين الشركاء الثلاثة فيما عرف بالدولة التنموية. انطلاق تجربة التحالف الوطنى استنادا إلى هذه الفلسفة المهمة يؤسس بلا شك لمزيد من التسريع لعملية التنمية الجارية فى مصر، كما يوفر فرصا لنشر وتعميق المبادرات التنموية.
البعد الرابع، يتعلق بحوكمة العمل الأهلى فى مصر؛ فعلى الرغم من وجود تشريع ينظم العمل الأهلى فى مصر (القانون رقم 149 لسنة 2019، ولائحته التنفيذية الصادرة فى عام 2021)، والذى يحدد شروط التأسيس، والاستمرارية، والأهداف، ووقف النشاط وحل مجالس الإدارات، والعلاقة مع الجهة الإدارية... إلخ، لكن الحوكمة المقصودة هنا تتجاوز هذا الإطار القانوني، ليشمل بعدا أو مستوى آخر يتعلق بنمذجة standardization القاسم الأكبر من العمل الأهلى التنموي، خاصة الذى يجرى من خلال الجمعيات الأهلية الأكبر فى مصر، وهى أمور لا تتعلق بالأبعاد القانونية بقدر ما تتعلق بشروط ومعايير تقديم الخدمة وعلاقاتها بباقى الخدمات والأنشطة الخدمية والتنموية.
البعد الخامس، يتعلق بالبعد الدولى فى عمل التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموي، فقد شملت اختصاصات مجلس أمناء التحالف (البند 3، المادة 12) «التعاون مع المؤسسات والمنظمات الدولية الأجنبية العاملة فى مجالات التنمية والعمل الأهلي، وفقا للضوابط التى تحددها لائحة النظام الأساسي» للتحالف. إفساح المجال أمام التحالف للتعاون مع المؤسسات الدولية المناظرة يكسب قطاع الجمعيات الأهلية فى مصر بعدا دوليا مهما. ولا يخفى علينا جميعا الدور الذى باتت تلعبه المنظمات غير الحكومية على المستوى الدولي، سواء فى المجالات الإغاثية أو التنموية أو غيرها، وبات بعضها يلعب دورا فى تشكيل الرأى العام العالمي، والتأثير فى السياسات الدولية. الجمعيات الأهلية المصرية، من خلال التحالف الوطني، يمكن أن تلعب فى هذا السياق دورا مهما فى تعزيز وتعظيم دور مصر فى المجالات الحيوية، وفقا للعقيدة السياسية المصرية التى تقوم على بناء السلام، ونشر التنمية، وتشارك الخبرات التنموية.
الأبعاد الخمسة السابقة تؤكد الفرص والمقومات الكبيرة التى يمتلكها التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموي، من خلال النخبة الوطنية التى تقف وراءه، والذى يمكن أن يتحول إلى أداة مهمة ليس فقط لنشر التنمية داخل الأقاليم المصرية، لكن أداة أيضا لتعزيز دور مصر الخارجى وفقا لعقيدتها السياسية، على نحو ما سبقت الإشارة إليه.
***
مع تأسيس التحالف الوطني أصبح البعد التنموى بعدا رئيسا فى عمل التحالف والجمعيات الأهلية المنضوية تحت مظلته. وعلى الرغم من أن نشاط هذه الجمعيات لا يخلو من بعد خيرى وإنساني، لكنه يرتبط بشكل أصيل بالبعد التنموى ويُخدم عليه.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: