فى تطور يحمل العديد من الرسائل المهمة، شهدت مصر أمس الأول الاحتفال ببدء الإنتاج والتشغيل بشركة النصر للسيارات وتسليم أول دفعة من الأوتوبيسات إلى شركات وزارة النقل. التطور لا يقف عند هذا الحد، فهو جزء من مشروع متكامل يشمل أيضا صناعات النقل الخفيف، وسيارات الجولف، والتوك توك الكهربائي، بالإضافة إلى الاتفاق على تأسيس شركة لتصنيع البطاريات، وسيارات «المينى باصات» الكهربائية بالتعاون مع شركات دولية. هذا التطور بكل ما يمثله يحمل الكثير من المعانى والدلالات التى يجب أن نقف عندها بدقة.
الدلالة الأولى أن هناك فلسفة واضحة ومتكاملة تحكم عمل المشروع الوطنى المصرى الذى انطلق فى عام 2014. فقد ركز المشروع فى مراحله الأولى على تنمية وتحديث البنية التحتية. البنية التحتية هنا لا تشمل فقط الطرق ومحاور الربط بين المدن والأقاليم والموانى المصرية، لكنها شملت أيضا عمليات التحديث التى شملتها قطاعات أخرى مثل الطاقة الذى يمثل شرطا رئيسا لتوطين الصناعة وجذب الاستثمارات الأجنبية. بدء المشروع الوطنى المصرى بتحديث البنية التحتية لا يمثل استثناء فى سياق الخبرات الدولية، إذ لا يمكن بحال من الأحوال بدء مشروع مستدام للتنمية والتصنيع، أو جذب الاستثمارات الأجنبية، دون توفير مجموعة من الشروط المسبقة، أهمها توفير الحد الأدنى اللازم من البنية التحتية الحديثة، ونظام اقتصادى طبيعى بما يشمله ذلك من القضاء على كافة أشكال «التشوه» الاقتصادي، وعلى رأسها تعدد أسواق وأسعار الصرف، وهو ما كان يقتضى تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى والمالى الذى بدأته مصر فى نوفمبر 2016. الإهمال الذى طال قطاعات البنية التحتية فى مصر على مدار عقود سابقة حتم التركيز فى المراحل الأولى من المشروع التنموى الجارى فى مصر على هذه القطاعات، قبل الانتقال إلى أبعاد أخرى من المشروع، مثل التصنيع والتعليم والتنمية البشرية بشكل عام. ولا يعنى ذلك أن هذه الأبعاد كانت غائبة بشكل كامل فى المراحل الأولى من المشروع، لكنها باتت تحظى الآن بأولوية رئيسة.
الدلالة الثانية أن الاحتفال ببدء التشغيل وإنتاج وتسليم أول دفعة من الأوتوبيسات مثل ردا قاطعا ودامغا على كل الاتهامات التى روج لها البعض بأن الدولة قد أهملت التصنيع أو أنها تسعى إلى فرض قطيعة مع مرحلة المشروع الوطنى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وتحدث البعض هنا عن إهمال صناعة الغزل والنسيج، والنصر للسيارات، وغيرهما، بوصفهما رموزا مهمة للصناعات الوطنية المصرية، وهى اتهامات ثبت، وسيثبت تباعا، عدم صدقها. إن عملية إحياء وتطوير هذه الصناعات التاريخية المهمة تتطلب جهدا ضخما، بسبب التقادم الذى لحق بخطوط إنتاج هذه الصناعات، فضلا عن التغيرات الضخمة التى لحقت بأسواقها الرئيسة والفرعية، والمنافسة الشديدة التى فرضها دخول منتجين جدد من جانب العديد من الاقتصادات المتقدمة والناشئة. من ثم، فإن إحياء هذه الصناعات المهمة ووضعها على طريق المنافسة تطلبا، ومازالا، مراجعات شاملة لمختلف هذه الجوانب.
الدلالة الثالثة أن هناك فلسفة جديدة باتت تحكم دور الدولة فى الاقتصاد بشكل عام. وفى تقديرى، أن هذه الفلسفة تقوم على ثلاثة مسارات رئيسة. الأول هو إصلاح مناخ وبيئة العمل، بشكل يعزز فرص النمو والانطلاق الاقتصادي، وهو ما يجرى من خلال مراجعة العديد من التشريعات والسياسات ذات الصلة. الثانى هو توسيع وتعميق دور القطاع الخاص فى التصنيع والإنتاج، وهو توجه اتضحت ملامحه خلال السنوات الأخيرة، وتم التعبير عنه فى أكثر من مناسبة وبأكثر من آلية، كان أبرزها وثيقة سياسة ملكية الدولة وإعلان عدد من السياسات الحكومية الأخرى. المسار الثالث هو إدارة قطاع الأعمال العام وفق فلسفة جديدة. فلسفة لا تقوم على التخلص من الإرث أو التعامل معه على أنه يمثل عبئا على الاقتصاد الوطني، بقدر ما باتت هذه الفلسفة تقوم على تعزيز الاستغلال الأمثل لأصول الدولة وصناعاتها التاريخية التى مثلت جزءا من الاقتصاد الوطني، وما حملته من علامات تجارية مهمة ارتبطت بتاريخ الأمة المصرية. الشاهد أن الحكومة المصرية، ووزارة قطاع الأعمال العام باتتا تعملان وفق فلسفة تستهدف إحياء قطاعات اقتصادية وصناعات وطنية مهمة. وتمثل شركة النصر للسيارات مثالا مهما فى هذا السياق، حيث تأسست فى عام 1959 كأول شركة مصرية لصناعة السيارات، ثم اُتخذ قرار بتصفية الشركة فى عام 2009، ليتم العدول عن هذا القرار فى عام 2017.
لا شك أن هذا التوجه سيكون له تداعياته الإيجابية المهمة على الاقتصاد الوطنى لأسباب عدة، أولها عدد الشركات والصناعات والخدمات التى تعمل تحت مظلة وزارة قطاع الأعمال العام والتى تتوزع على عدد من القطاعات المهمة. ثانيها علاقات التشابك القوية بين هذه الشركات ومختلف القطاعات الاقتصادية. ثالثها ما تتسم به بعض هذه الصناعات من اعتمادها على العمالة الكثيفة، الأمر الذى سينعكس إيجابيا على خلق فرص عمل جديدة. رابعها التأثيرات الإيجابية المهمة لإحياء هذه الصناعات على تعزيز قطاع الصادرات، وهو التوجه الذى ارتبط بعملية إحياء هذه الصناعات.
إن الاحتفال ببدء التشغيل وإنتاج وتسليم أول دفعة من الأوتوبيسات مثل ردا قاطعا ودامغا على كل الاتهامات التى روج لها البعض بأن الدولة قد أهملت التصنيع أو أنها تسعى إلى فرض قطيعة مع مرحلة المشروع الوطنى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: