رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

رسالة من الشرق الأوسط

لا يوجد توصيف دقيق لحالة العالم فى اللحظة الراهنة أكثر من أنه فى «مفترق طرق» crossroads بالمعنى الدقيق؛ إما أن ينزلق فى اتجاه حالة من الفوضى الواسعة، قد تصل إلى حرب عالمية ثالثة، أو أن تنجح القوى الدولية الرئيسية فى الوصول إلى تفاهمات إستراتيجية كبرى تضمن تجنب الدخول فى هذا السيناريو، والتحول إلى صياغة أجندة دولية جديدة. هناك صراع على قمة النظام العالمي، بين روسيا، وبإسناد سياسى على الأقل من جانب الصين وكوريا الشمالية، من ناحية، والولايات المتحدة وحلفاء أوروبيين من ناحية أخرى. مبعث هذا الصراع هو قلق روسيا من توسع الناتو شرقا وتجاهل الغرب لشواغلها الأمنية. هناك صراع آخر بين الصين من ناحية، والولايات المتحدة وعدد من حلفائها الآسيويين من ناحية أخرى، مبعثه الرئيسى هو القلق الأمريكى من صعود الصين، وما يمكن أن يترتب على هذا الصعود من هيمنة الأخيرة على طرق الملاحة والمضايق البحرية فى الإندوباسيفيك، أو إزاحة الولايات المتحدة من على قمة النظام العالمي.

هذان المستويان من الصراع الدولى ليسا وليدى اللحظة الراهنة، بل تطورا بفعل مجموعة من التراكمات، لكنهما أخذا مسارات محددة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أبرزها الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى بدأت فى فبراير 2022، وتصاعد الأزمات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي. فى هذا السياق، اتجهت العديد من القوى الدولية إلى مراجعة عقائدها وإستراتيجياتها العسكرية، ومعدلات إنفاقها العسكرى (من ذلك ألمانيا، واليابان، وكوريا الشمالية). فى ظل هذا الوضع أيضا تدهورت البيئة الأمنية فى الشرق الأوسط بفعل عدوان إسرائيل على قطاع غزة، ومحاولاتها فرض هيمنتها على الإقليم. سبق هذا العدوان انفجار الصراع داخل السودان بين الجيش الوطنى وقوات الدعم السريع. عدم تسوية هذه الأزمات الدولية والإقليمية سيترك تأثيرات خطيرة على الأمن العالمي.

لقد بشر الرئيس المنتخب دونالد ترامب فى أثناء حملته الانتخابية بقدرته على حسم هذه الصراعات والحروب، وأنه «سيجلب للعالم الأمن والسلام». هذا الخطاب يجد له بعض الأسانيد، منها قدرة ترامب أثناء وجوده فى البيت الأبيض (يناير 2017 ــ يناير 2021) على تغيير مسار بعض الأزمات لتأخذ مسارا مغايرا تماما. من ذلك، على سبيل المثال، التغير المفاجئ فى العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج، التى تحولت من التفاعلات الصراعية الحادة إلى التفاعلات الإيجابية، وعقد عدد من القمم بين ترامب وكيم جونج أون، كان من الصعب توقعها آنذاك. من ذلك أيضا تغيير ترامب مسار العلاقة مع طالبان أفغانستان من خلال الدخول فى مفاوضات مباشرة انتهت بتوقيع اتفاق فبراير 2020 الذى أسس لخروج الولايات المتحدة من أفغانستان بحلول أغسطس 2021.

لا يمكن القطع بقدرة ترامب على إنهاء هذه الصراعات والحروب بمجرد دخوله البيت الأبيض، فكثير من شروط إنهاء هذه الصراعات بيد أطراف أخرى، لكن بالتأكيد فإن ترامب يمتلك إحدى السمات المهمة التى افتقدتها إدارة بايدن وهى القدرة على الحسم؛ فقد دعمت الإدارة أوكرانيا بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين، لكن هذا الدعم لم يؤد إلى حسم الحرب، وليس من المتوقع أن يؤدى إلى حسمها فى ظل موازين القوى القائمة مع روسيا وحسابات المواجهة غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، ما لم يتم تغيير هذه الحسابات بشكل جوهرى على نحو قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة. كذلك، بدت إدارة بايدن عاجزة أمام إصرار نيتانياهو على إفشال المسار التفاوضى بشأن مشروعات الهدنة فى غزة، وتوسيع رقعة الصراع فى الإقليم، ولم يترك لإدارة بايدن سوى استمرار تمسكها بدعم إسرائيل وحمايتها لاعتبارات تتعلق -فى جزء منها ــ بالمنافسات الانتخابية.

لاشك أن النظام العالمى بات فى حاجة شديدة إلى حسم هذه الصراعات والحروب، ووضعها على مسار يضمن نهاية قريبة لها. ولاشك أن الولايات المتحدة لديها قلق بشأن التحولات الجارية على قمة النظام العالمي، لكن الثابت أيضا أنه يمكن الوصول إلى تفاهمات إستراتيجية بين القوى الثلاث الرئيسية (الولايات المتحدة، والصين، وروسيا) حول القضايا الرئيسية موضوع الخلاف والشواغل الأمنية لكل منها. بدون هذه التفاهمات قد تجد الأطراف الثلاثة نفسها أمام سيناريو مواجهات عسكرية غير مضمونة النتائج لأى منها.

العودة إلى تاريخ العلاقات الدولية يشير إلى وجود خبرات تاريخية عديدة للوصول إلى مثل هذه التفاهمات الاستراتيجية، كان أبرزها، على سبيل المثال، التفاهم الأمريكي- الصينى الذى بدأ فى بداية السبعينيات بعد ثلاثة عقود من القطيعة والصراع (بسبب مشكلات تايوان، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والتجارب النووية الصينية). حدث ذلك بسبب قدرة الرئيس الأمريكى آنذاك ريتشارد نيكسون، ثم جيمى كارتر على أخذ مسار العلاقة مع الصين فى اتجاه مغاير، رغم وجود معارضة آنذاك داخل الولايات المتحدة.

الأمر نفسه بالنسبة لإقليم الشرق الأوسط، الذى يعانى من مصادر هيكلية حافظت على عدم الاستقرار، وعلى رأسها عدم تسوية القضية الفلسطينية، وإصرار طرف محدد على القيام بتصرفات أحادية، سياسية وعسكرية، عقدت الصراع. أضف إلى ذلك استمرار حالة الدول المأزومة فى الإقليم. ومع أهمية هذه المصادر جميعها، لكن تظل القضية الفلسطينية هى القضية المركزية. الولايات المتحدة، بقيادة إدارة ترامب المرتقبة، فى اختبار تاريخى لمدى قدرتها على الاضطلاع بمسئولياتها كقوة عظمى، من خلال مساعدة الأطراف على البدء فى تسوية نهائية لهذا الصراع. مرة أخرى، هناك العديد من الخبرات التى نجحت فيها الولايات المتحدة فى الاضطلاع بهذه المسئولية فى الإقليم، كان أبرزها الدور المهم الذى لعبه الرئيس الأمريكى آنذاك جيمى كارتر، عقب حرب أكتوبر 1973، والذى انتهى بتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. الدرس المهم فى هذه الخبرة أن الولايات المتحدة تستطيع، عندما تريد، تبنى سياسات تحولية تساهم فى بناء السلام، سواء على المستوى العالمى أو المستوى الإقليمي. ولاشك أن الرئيس القادم دونالد ترامب يمتلك هذه القدرة لعوامل تتعلق بسماته الشخصية.

الوصول إلى هذه الأهداف لا يمكن أن يتحقق بدون التنسيق الكافى مع القوى الدولية والإقليمية المعنية. خبرة الفترة السابقة للرئيس ترامب تشير إلى الحاجة المهمة لتعزيز منهج العمل متعدد الأطراف multilateralism، بما يتضمنه ذلك من تعزيز دور الأمم المتحدة والمنظومة الأممية. مثل هذا المنهج يمكن أن يخلق مناخا مواتيا لبدء مسارات مغايرة للصراعات الدولية والإقليمية، على نحو يجنب العالم سيناريوهات كارثية، ويضمن إعادة هيكلة أجندة المجتمع الدولى بشكل يتناسب مع قائمة التحديات غير التقليدية. فهل يستطيع أن يفعلها ترامب كما فعلها رؤساء أمريكيون سابقون؟

 

 

لا يمكن القطع بقدرة ترامب على إنهاء الصراعات والحروب بمجرد دخوله البيت الأبيض، فكثير من شروط إنهاء هذه الصراعات بيد أطراف أخرى، لكن بالتأكيد فإن ترامب يمتلك إحدى السمات المهمة التى افتقدتها إدارة بايدن وهى القدرة على الحسم.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: