جاء من قرية النخيلة فى صعيد مصر، وقال: هكذا أغني.. واحتار النقاد فيه : إلى أى مدارس الشعر فى بلاد الفرنجة ينتمي؟ وأى اللغات الأجنبية قد قرأ؟ وكيف تشكلت تجربته الشعرية بهذه الروح، وهذا التنوع، وهذه الحداثة، وهو لا يجيد لغة أجنبية، ولم يقرأ أليوت وديموسيه وبودلير وشيلي؟ يكفى أنه محمود حسن إسماعيل، النهر الخالد الذى تدفق فى ساحة الشعر العربى مبدعًا ومجددًا، وصاحب مدرسة فريدة لم يقلد فيها أحدًا، ولم يخرج من جلباب شاعر آخر..
◙ حين هبط محمود حسن إسماعيل على الوسط الثقافى فى مصر، تساءل الكثيرون : من أين جاءنا هذا الشاعر الذى ترك لهم الغناء فى القصور، ووقف يغنى وحيدًا على باب كوخ صغير فى إحدى قرى أسيوط التى اشتهرت بالنخيل، وهى تعيش فى أحضان النهر الخالد نيل مصر العظيم؟
اختلف النقاد حول هذا الشاعر الذى دخل القاهرة فى غزوة جمالية غير مسبوقة، وينشد شعرًا جديدًا فريدًا مميزًا لا يقلد فيه أحدًا .. ووجد محمود حسن إسماعيل نفسه وسط حديقة واسعة الأطراف لا يشاركه فيها أحد .. وهنا أعلن: «هكذا أغني» .. وكان قد شدا فى أغانى الكوخ، وأطرب الناس حين تحولت أحزان الفقراء فى كلماته إلى صرخات توقظ الضمائر وتدعو كل عشاق الحياة إلى مجتمع أكثر عدلًا، ورخاءً، وكرامة..
◙ انطلق صوت محمود حسن إسماعيل يغنى للحياة، والوسط الثقافى يتعجب كيف وصلت الكلمات للجموع الحائرة بلا وسيط أو جماعة أو عصابة ثقافية .. ورغم الحصار، وقوافل الغيرة، ومواكب النفاق، فإن شاعرنا مضى فى طريقه ولم يسمع أحدًا. كان يدرك أنه جاء من أجل رسالة واضحة: أن ينشر الحب والعدل والوفاء.. كان الوسط الثقافى قد تشبع بما أصابه من العلل والأمراض، ولكن إصرار محمود حسن إسماعيل كان أقوى من كل العقبات..
عندما انطلق صوت محمود حسن إسماعيل بالغناء فى حديقة الشعر العربي، كانت الساحة حافلة بالأصوات الجميلة والشجية .. كان أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان شاعر النيل حافظ إبراهيم، وكانت كوكبة أبولو : ناجي، على محمود طه، الشابي، الهمشري، الشرنوبي، وجودت، وأحمد فتحي.. وكان رامى يشدو وحيدًا مع كوكب الشرق..
◙ وسط هذا الحشد جاء محمود حسن إسماعيل يعزف لحنًا منفردًا جديدًا وغريبًا.. كانت هناك نخبة أخرى من الشعراء أتباع القصيدة الحداثية الجديدة مثل السياب ونازك الملائكة، وفى المهجر كان إيليا أبو ماضى وجبران ونعيمة.. كانت «أغانى الكوخ» شعرًا مختلفًا وجديدًا، وكانت «هكذا أغني». ثم جاءت قصائد محمود حسن إسماعيل فى ديوانه «أين المفر»، تجربة شعرية جديدة كانت إضافة حقيقية لإبداع هذا الشاعر الكبير، استعرض فيها كل مواهبه الإبداعية: صورًا، ولغةً، وتراكيب، وإحساسًا. وهنا فرض وجوده كصاحب مدرسة شعرية جديدة وفريدة..
◙ أعترف بأننى توقفت كثيرًا عند ديوان «أين المفر» وسبحت إلى أبعد نقطة فى هذا الشعر الملهم والفريد.. وجد الفرقاء نقطة ضعف تسللوا منها إلى حرم الشاعر، وهى ديوان كتبه فى شبابه مدح فيه ملك مصر فاروق، وحمل اسم الملك .. وأمام حسابات افتقدت الدقة والأمانة، هاجم المغرضون شاعرنا الكبير بعد أن قامت ثورة يوليو، وفتحواعليه نيران جهنم رغم أنه حاول أن يؤيد الثورة وكتب فيها أكثر من قصيدة .. وحين افتتح جمال عبد الناصر السد العالي، شارك فى المناسبة وألقى قصيدة عصماء أمام الرئيس عبدالناصر أشاد فيها بالمشروع، ولم يشفع له كل ذلك..
◙ لم يأخذ محمود حسن إسماعيل حقه من التقدير، وبقى ديوان الملك سببًا فى حالة جفاء بين ثورة يوليو ومحمود حسن إسماعيل، ولم يشفع له تاريخه وموهبته وقصائده للثورة تأييدًا ودعمًا .. وقد تعاملت الثورة مع الكثيرين من رموز مصر بهذه الطريقة .. لم يكن الديوان مدحًا لملك مصر، ولكنه كان شكوى المهمشين الذين صوَّر محمود حسن إسماعيل أحوالهم فى باكورة أعماله «أغانى الكوخ».. ويبدو أن الوسط الثقافى لم يستوعب تجربة الشاعر وموقفه مع الملك، واعتبر الديوان خطيئة من شاعر كبير..
◙ كانت مشكلة محمود حسن إسماعيل مع الوسط الثقافى المنقسم بين الأيديولوجيات والشلل والجماعات أنه لم يخرج من عباءة أحد، وأنه تفرد فى مواقفه وإبداعه وحياته دون أن يحتضنه تيار أو تتبناه شلة .. ولهذا كان الهجوم والتهميش والتجاهل، خاصة أن محمود حسن إسماعيل تجاوز الجميع شهرة وبريقًا وإبداعًا .. كان محمود حسن إسماعيل من حصون اللغة الفصحى، ويتحفظ كثيرًا على الفن الهابط وإسفاف العامية فنًا وغناءً.. وكان يتصدى لذلك كله عندما كان رئيسًا للجنة النصوص بالإذاعة، وإن كان ذلك قد فتح عليه عداوات كثيرة..
◙ بقى محمود حسن إسماعيل بعيدًا عن الأضواء والتقدير، وكان أكبر منصب تولاه رئاسة إذاعة القرآن الكريم .. لم ينسحب الشاعر، وظل صامدًا أمام المشككين والساخطين.. تسللت قصائده لتواجه التجاهل والتهميش.. غنت له أم كلثوم «بغداد يا قلعة الأسود»، وغنى له عبدالوهاب رائعته «النهر الخالد» و«دعاء الشرق».... رغم كل ما قدم محمود حسن إسماعيل من إبداع جديد وفريد، فإن الوسط الثقافي، بما كان فيه من أمراض الشللية والأيديولوجيات ودعوات التجديد، ظل يطارد محمود حسن إسماعيل، الذى بقى على عهده فوق الخصومات والمعارك والشجب والتصنيف فى دوامة التجاهل.. فى آخر مشواره، هاجر إلى الكويت مشرفًا على مناهجها الثقافية والتعليمية.. ذات يوم، فوجئت بأحد مريدى محمود حسن إسماعيل يزورنى فى الأهرام ويقدم لى تسجيلًا لإحدى قصائدى فى إذاعة الكويت بصوت محمود حسن إسماعيل.. مرت شهور وعلمت بأنه فى القاهرة، والتقينا وتحدثنا كثيرًا فى قضايا الشعر والشعراء..
◙ وأعترف بأننى كنت من رواد حديقته الغًّناء شعرًا وجمالًا وتصوفًا وأصالة.. كنت أرى تشابهًا كبيرًا بين العقاد ومحمود حسن إسماعيل، ليس فقط لأنهما من صعيد مصر، ولكن لأن كليهما كان يعتز كثيرًا بنفسه، كبرياءً وقيمًا.. أحببت كثيرًا شعر محمود حسن إسماعيل صورةً وتركيبًا ولغةً وتجديدًا، خاصة تلك الروح الصوفية التى كانت تشع من أبياته إيمانًا ويقينًا وعذوبة..
حرصت بعد رحيله أن أتواصل مع أسرته ؛ فقد كان من أقرب الشعراء إلى قلبي
..ويبقى الشعر
أَريحينى على صدركْ
لأنى مُتعبٌ مثلكْ
دعى اسمى .. وعنوانى .. وماذا كنتْ
سنين العمر تخنقها دروبُ الصمتْ
وجئتُ إليكِ .. لا أدرى لماذا جئتْ
فخلفَ البابِ أمطارٌ تطاردني
شتاءٌ قاتمُ الأنفاسِ يخنقُني
وأقدامٌ بلونِ الليل تسحقني
وليس لديَّ أحبابٌ ..
ولا بيت ليؤوينى من الطوفانْ
وجئتُ إليكِ تحملُني
رياحُ الشكِ.. للإيمانْ
فهل أرتاحُ بعضَ الوقتِ فى عينيكِ
أم أمضى مع الأحزانْ؟
وهل فى الناس مَن يُعطي
بلا ثمنٍ .. بلا دَيْنٍ .. بلا ميزانْ؟
***
أريحينى على صدركْ
لأنى متعبٌ مثلكْ
غداً نمضى كما جئنا
وقد ننسى بريقَ الضوء والألوانْ
وقد ننسى امتهانَ السجنِ والسجَّانْ
وقد نهفو إلى زمن بلا عنوانْ
وقد ننسى وقد ننسى
فلا يبقى لنا شيء لنذكره مع النسيانْ
ويكفى أننا يوماً .. تلاقيْنا بلا اسْتئذانْ
زمانُ القهرِ علمنا
بأن الحبَّ سلطانٌ بلا أوطانْ
وأن ممالكَ العشاقِ أطلالٌ
وأضرحةٌ من الحِرمانْ
وأن بحارنا صارت بلا شطآنْ
وليس الآن يَعنينا
إذا ما طالت الأيامُ
أم جنحت مع الطوفانْ
فيكفى أننَا يوماً تمردنْا على الأحزانْ
وعشنا العمرَ ساعاتٍ
فلم نقبضْ لها ثمنًا
ولم ندفْع لها دَينًا
ولم نحسِبْ مشاعَرنا
ككلَّ الناسِ .. فى الميزان
-------------------------
قصيدة «شىء سيبقى بيننا» سنة 1983
[email protected]لمزيد من مقالات هوامش حرة يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: