لا يمكن نفى أن اغتيال حسن نصر الله وعدد غير قليل من قيادات الحزب سيكون له تأثير كبير على الإقليم، بالنظر إلى ما مثله الحزب من رقم مهم داخل ما يُعرف بمحور المقاومة الذى ارتبطت عناصره ــ بدرجات مختلفة ــ بإيران والحرس الثورى الإيراني، والذى مثل جزءا من أوراق إيران فى إدارة صراعها مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالنظر أيضا إلى مركزية الصراع مع إسرائيل على أجندة الحزب من خلال ما اصطلح عليه بالجبهة الجنوبية (بالنسبة للحزب)، بجانب جبهة الصراع الداخلى فى لبنان، الأمر الذى ساهم فى خلق عبء عسكرى وسياسى على صانع القرار الإسرائيلي، بصرف النظر عن حجم هذا العبء من مرحلة إلى أخرى فى تطور هذا الصراع. أضف إلى ذلك الانشغال المتوقع لحزب الله لفترة ليست قليلة بتبعات غياب نصر الله وعدد من قيادات الحزب، بدءا من إعادة بناء هيكل القيادة الداخلي، وانتهاء بمراجعة الأنظمة الداخلية (أنظمة الاتصالات الداخلية، وتوزيع القيادات على الأرض، وترميم صورة الحزب فى الإقليم... إلخ). كل هذا سيأتى بالتأكيد على حساب المواجهة مع إسرائيل. أضف إلى كل ذلك، فإن إحدى الدلالات الأساسية لنجاح إسرائيل فى تنفيذ سلسلة الاغتيالات السابقة لقيادات الحزب، تشير إما إلى حدوث اختراقات إسرائيلية نوعية للحزب أو وقوع الحزب فى خطأ جوهرى قاد إلى انكشافه أمنيا.
كل هذه الحقائق والدلالات لا يمكن إنكارها، لكن ما لا يمكن التسليم به هو الفرضية الإسرائيلية التى سارع نيتانياهو بطرحها عقب عملية اغتيال نصر الله مباشرة، عندما قال إن «اغتيال نصر الله خطوة ضرورية لتغيير موازين القوى فى الشرق الأوسط»؛ حيث أعاد التأكيد مرة أخرى على المفهوم نفسه عقب الإعلان عن وفاة نصر الله. فمع أهمية هذا التطور، على نحو ما سبق توضيحه، لكن مسألة تغيير موازين القوى هى مسألة أخرى.
من ناحية أولى، فإن تحديد موازين القوة هو عملية معقدة تأخذ فى اعتبارها عناصر القوة الرئيسية، وفى القلب منها القوة العسكرية. صحيح أن التغير فى مفهوم القوة، والتغير فى أدوات القوة العسكرية استتبعه تغير مماثل فى الأوزان النسبية داخل مفهوم القوة الشاملة، والأوزان النسبية لمكونات القوة العسكرية، لكن تظل الأخيرة بكل عناصرها مكونا رئيسا فى مفهوم القوة، وبالتالى توازن القوى. هذه العناصر لا تتغير على المدى القصير، وتتسم بالطابع النظامي. ومن ثم، فإن اغتيال قيادة سياسية أو عسكرية لفاعل من دون الدولة لا يؤسس لتغيرات جوهرية فى موازين القوى.
من ناحية ثانية، فإن مفهوم «موازين القوة» balance of power هو مفهوم لا يمكن فهمه إلا فى سياق تحديد واضح لأطراف هذا التوازن، ولا يمكن فهمه على إطلاقه دونما هذا التحديد؛ فهناك توازن قوى على مستوى القوى الكبرى داخل النظام العالمي، وهناك بالمثل توازن قوى على المستوى الإقليمى بين القوى الرئيسية داخل الإقليم. من ثم، عندما يتحدث نيتانياهو عن حدوث تغير فى موازين القوى عقب اغتيال حسن نصر الله لابد من تحديد أطراف هذا التوازن بدقة. التغير المقبول هنا فى موازين القوى ينصرف إلى أحد احتمالين؛ الأول هو حدوث تغير فى ميزان القوة بين إسرائيل من ناحية، وحركات المقاومة أو الفاعلين من دون الدولة فى المنطقة (حزب الله وحماس)، من ناحية أخرى. وقد يكون هذا مقبولا فى المدى المنظور. الاحتمال الثانى، هو حدوث تغير فى ميزان القوة بين إسرائيل من ناحية، وما اُصطِلحَ عليه «محور المقاومة» فى الإقليم، من ناحية أخرى، بما يشمله ذلك من إيران ووكلائها أو «أصدقائها» فى المنطقة من الفاعلين من دون الدولة. لكن حتى مع ذلك لا يمكن القطع بحدوث هذا التغير فى موازين القوى بالمعنى السابق، لسببين رئيسيين، أولهما يتعلق بما سبق قوله بأن توازن القوى لابد أن يأخذ فى اعتباره القوة الصلبة، أو القوة الشاملة بما تتضمنه من قوة عسكرية واقتصادية...إلخ، بين هذين الطرفين. ثانيهما، أن الأمر يتعلق بطبيعة اللحظة المحددة الراهنة بما تتضمنه من حسابات تحكم استخدام القوة من جانب مختلف الأطراف.
من ناحية ثالثة، فإنه رغم ارتباط مفهوم موازين القوى بالقدرات العسكرية أو القوة الشاملة، فإن هذا لا يعنى استبعاد الأوضاع الداخلية وتأثيرها على حالة القوة الشاملة للدولة. هذه الحقيقة تفتح المجال أمام حجم تأثير الوضع الداخلى فى إسرائيل على حالة ميزان القوة فى علاقة الأخيرة بباقى الأطراف، بما فى ذلك الفاعلون من دون الدولة. ومن ثم، فإن حالة الهشاشة السياسية داخل إسرائيل تؤثر بلا شك على موازين القوى التى يتحدث عنها نيتانياهو. الأمر الذى يفتح المجال أمام ضرورة فهم هذه الافتراضات التى يتحدث عنها نيتانياهو فى سياق سياسى يتعلق بالوضع الداخلى والصراعات السياسية بين نيتانياهو ومنافسيه السياسيين.
هكذا، فإن محاولة نيتانياهو الترويج لفرضية تغير موازين القوى الإقليمية استنادا إلى اغتيال حسن نصر الله أو غيره، أو حتى القضاء على فاعل من دون الدولة فى الإقليم، هى فرضية مبالغ فيها بشكل كبير، ولا تجد لها سندا حقيقيا انطلاقا من مفهوم أو نظرية توازن القوى، الأمر الذى يعطى هذه الفرضية معنى سياسيا، أو محاولة لتصدير «رسالة سياسية» مغلوطة للإقليم، ويجب التعامل معها بحذر شديد فى سياق فهم تداعيات غياب حسن نصر الله. ويجب أن نعود هنا إلى أدبيات نظرية توازن القوى، وهى إحدى النظريات المهمة فى حقل العلاقات الدولية، حتى يمكن الوقوف على دقة مثل هذه الفرضيات تجنبا للتماهى مع مثل هذه الرسائل السياسية المغلوطة. موازين القوى مسألة تحكمها اعتبارات أخرى عديدة يدركها نيتانياهو جيدا.
***
ما لا يمكن التسليم به هو الفرضية الإسرائيلية التى سارع نيتانياهو بطرحها عقب عملية اغتيال نصر الله مباشرة، عندما قال إن «اغتيال نصر الله خطوة ضرورية لتغيير موازين القوى فى الشرق الأوسط».
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: