تأتينا نبرات صوته الأجش الوقور الشجى النقى التقى الورع الطاهر فضيلة الإمام الشيخ محمد متولى الشعراوى من بعد كل أذان يصدح للصلاة «اللـهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته إنك لا تخلف الميعاد.. وصلِّ اللـهم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين».. نصلى عليه قبل الصلاة وبعد الصلاة وفى كل حين فهو القائل صلى اللـه عليه وسلم: «صلوا علىّ فإن صلاتكم علىّ زكاة لكم واسألوا اللـه لى الوسيلة».. نصلى على سيد الخلق أجمعين فتبلغه صلاتنا كما فى قوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علىّ فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم».. و«ما من أحد يصلى علىّ إلا رد اللـه علىّ روحى حتى أرد عليه».. و«من صلى علىّ صلّت عليه الملائكة، ومن صلّت عليه الملائكة صلى اللـه عليه.. ومن صلى اللـه عليه لم يبق شىء فى السماوات ولا الأرض إلا صلى عليه».. و«الصلاة علىّ نور على الصراط»، و«الدعاء بعد الصلاة علىّ لا يرد».
فى ذكرى مولده العطرة نكثر من الصلاة عليه ونشهد أن لا إله إلا اللـه وأن محمدا رسول اللـه, من رفع اسمه مقرونا باسم اللـه كلما تحركت الشفاه.. سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول العالمين الذى أنزل عليه الكتاب العزيز تعظيما وتوقيرا «يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللـه بإذنه وسراجا منيرا, وبشر المؤمنين بأن لهم من اللـه فضلا كبيرا» صدق اللـه العظيم, وهو خطاب خاص لم يخاطب اللـه به أحدًا من المرسلين ولا من الأنبياء ولا رسولا بالرسالة.. إلا محمدا صلى اللـه عليه وسلم.. فإن اللـه تعالى نادى أباالبشر: «يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة».. و«يا نوح اهبط بسلام منا».. و«ياابراهيم أعرض عن هذا».. و«يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض» و«يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك».. وقال لمحمد صلى اللـه عليه وسلم «يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك».. «يا أيها النبى لا يحزنك».. «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين».. و«يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال».. «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين».. «يا أيها النبى إذا طلقتم النساء».. «يا أيها النبى لِمَ تحرِّمٍ».. «يا أيها النبى اتق اللـه»..«ياأيها النبى حسبك اللـه».
محمد حبيب اللـه من قال له تعالى «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا».. نبى الحب الذى قال عند فتح مكة للصحابة: «انصبوا لى خيمة عند قبر خديجة ثم جلس إلى جوار القبر وترقرق الدمع من عينيه» وقال: «ها قد عدت يا خديجة.. ها قد عدت».. الحب.. هو أبوبكر عندما قال: «كنا فى الهجرة فجئت باللبن وأعطيته لرسول اللـه وقلت له اشرب يا رسول اللـه.. يقول أبوبكر «شرب حتى ارتويت» الحب.. هو بلال بن رباح حين اعتزل الأذان بعد رحيل الرسول.. فلما أذن بطلب من عمر عند فتح بيت المقدس لم يُر يوما أكثر بكاء منه عندما قال: أشهد أن محمدا رسول اللـه.. الحب.. هو ربيعة بن كعب حين سأله الرسول ما حاجتك؟ قال: «أسألك مرافقتك فى الجنة».. الحب.. هو ثوبان حين سأله الرسول: «ما غير لونك؟ فقال: ما بى من مرض ولا وجع إلا أنى لم أرك إذ أنى أستوحشك وحشة شديدة حتى ألقاك.. الحبيب المصطفى من كان يقول لأم المؤمنين عائشة «حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى لا تنحل عروته ولا تنفك عقدته» لتسأله بين حين وآخر: «كيف حال العقدة؟ فيرد عليها: «هى على حالها».. رسول الله الذى كان يرى أن الحب رزق من اللـه استنادا لقوله: «إنى رزقت حبها» فى إشارة للسيدة عائشة رضى اللـه عنها ويقول لابنته فاطمة: «أى بنية ألست تحبين ما أحب؟» فتجيبه: «بلى».. فيقول: «فأحبى هذه» مشيرا إلى عائشة.. وفى غزوة خيبر كانت رايته صلى اللـه عليه وسلم من برد لعائشة يدعى «العقاب».. وتقول عائشة: كان رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم يقسم فيعدل.. ويقول: «اللـهم هذا قسمى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك».. يعنى قلبه.. ويأتيه ملك الموت ليخيره بين البقاء فى الدنيا أو اللحاق بالرفيق الأعلى, فيهتف «بالرفيق الأعلى».. وتروى حبيبة حبيب اللـه: «ويقبض رسول اللـه بين سحرى ونَحرى.. ومن سفهى وحداثة سنى أن وضعت رأسه على وسادة وقمت أصرخ مع النساء».
وإذا ما كان كل رسول من عند اللـه قد جاء بمعجزة تثبت صدقه فى رسالته.. وفى بلاغه من اللـه.. وأن تكون المعجزة مما لا يستطيع أحد أن يأتى بها.. وأن تكون أيضا مما نبغ فيه قومه.. فقد كانت جميعها معجزات كونية من رآها فقد آمن بها، ومن لم يرها صارت عنده خبرا إن شاء صدقه، وإن شاء لم يصدقه، ولو لم ترد فى القرآن لكان من الممكن أن يقال إنها لم تحدث.. لكن معجزة محمد كانت معجزة عقلية باقية خالدة وهى القرآن الكريم.. ولقد كانت جميع الكتب السماوية السابقة للقرآن داخلة فى نطاق التكليف حيث يكلف عباده بالمحافظة على الكتاب فنسوا بعضه.. وكتموا بعضه.. والذى لم يكتموه يحرفونه عن موضعه، فكان هناك أكثر من المسخ والنسيان والتحريف.. ثم جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا إنها من عند اللـه ليشتروا بها ثمنا قليلا.. أما القرآن فقد قال سبحانه: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».. وكم فى القرآن من ذِكر للمعجزات ومنها معجزة الرسول صلى اللـه عليه وسلم الإسراء والمعراج الحدث الجلل الذى جاء فيه قوله تعالى فى الإسراء: «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير» صدق اللـه العظيم.. وعن ثبوت المعراج فيدل عليه قوله تعالى فى سورة النجم: «ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى».. الرحلة الشاهدة على أفضلية الرسول على سائر الخلق.. وفيها فرضت الصلوات الخمس من فوق سبع سماوات.. حيث يقول سبحانه «واسجد واقترب» وهى الصلة بين العبد وربه حيث يقول المصطفى: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».. الرحلة المقدسة التى كان فيها سيد الخلق إماما للأنبياء يصلى بهم فى المسجد الأقصى: إبراهيم الخليل.. وموسى الكليم.. وعيسى المسيح ونفر من الأنبياء اجتمعوا بأمر من اللـه له.. لخاتم الأنبياء.. وعندما حدث الرسول قريشا بأنه أسرى به ذهبوا لأبى بكر يقولون له: صاحبك يزعم أنه أُسرى به إلى بيت المقدس ثم رجع فى ليلة واحدة.. قال أبوبكر: أو قال ذلك؟ قالوا نعم.. قال: فاشهد إن كان قال ذلك لقد صدق.. قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام فى ليلة واحدة؟ قال: إنى أصدقه بأبعد من ذلك.. أصدقه بخبر السماء.. ومن هنا أطلق عليه لقب «الصديق» وجاء على لسان النبى صلى اللـه عليه وسلم: «لما كذبتنى قريش قمت فمثل اللـه لى بيت المقدس فطفت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».. بيت المقدس الذى يتطاولون عليه الآن.. اليهود.. أشد الناس عداوة وبغضا للإسلام والمسلمين.. كما قال سبحانه فى سورة المائدة: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود» ... فى الأسبوع الماضى جدد وزير الأمن القومى الإسرائيلى المتطرف «إيتمار بن غفير» دعوته للسماح لليهود بالصلاة فى المسجد الأقصى.. معلنا أنه يريد بناء «كنيس» هناك.. وجاء هذا التصريح بعد أسبوعين من قيامه باقتحام الأقصى كان قد قام بمثله عدة مرات من قبل.. متحديا العالم الإسلامى كله.. ليعقب رئيس المعارضة «يائير لابيد» بالقول: «إن المنطقة كلها ترى ضعف نيتانياهو مقابل بن غفير.. وهو ليس قادرا على السيطرة فى الحكومة حتى عندما تكون هذه محاولة واضحة لتقويض أمننا القومى.. لا توجد سياسة ولا استراتييجة ولا توجد حكومة فى الواقع».. يا حبيبى يا رسول اللـه يا من قلت فى حديثك الشريف إن الزمان سيأتى بزمان يصبح المسلم اللائذ بدينه فيه كمن يقبض بيده على جمرة من نار.. هل هذا زماننا يا نبى اللـه الذى ينادى فيه البعض بوحدة الأديان أو ما يسمى بالبيت الإبراهيمى؟!!! بالدعوة إلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد فى محيط واحد!! وطباعة القرآن الكريم والتوراة والانجيل فى غلاف واحد!!! هل هذا زماننا يا خاتم الأنبياء الذى ندافع فيه ضد ردة صريحة عن دين الإسلام لأنها تصطدم مع أصول العقيدة فتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان.. زمان من يجترئ على الأرض والعرض.. على المرأة والطفل.. على الرزق والزرع والنهر والحيوان والطير.. على الماء والهواء والدواء وخيمة الإيواء. على المدارس والجوامع والكنائس وصوت الابتهال ومقاومة الأبطال.. على المقدسات.. على المسجد الأقصى ثالث الحرمين.
تنتهى زيارة الضيف فتصحبه مودعا للباب بقولك على سبيل المجاملة: زارنا النبى وحصلت لنا البركة.. مجاملة لواحد من البشر.. فما بالك بالبركة الحقيقية الحاصلة دوما من استنشاق عبق سيد البشر فى ذكرى مولده عند زيارتك لآثاره الشريفة فى مسجد الإمام الحسين من بعد تجديد جماله ورونقه.. قطعة من قميص رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم.. المصطفى الذى اصطفاه ربه فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.. وثلاثة قطع كبيرة من اللباس النبوى لامست بدنه فنالت الحظوة المباركة.. وقطعة من عصاته.. ومن حربته.. والمرود والمكحلة اللذان استدارا فى إطار حدقات عيون تبصرت بسدرة المنتهى.. والملقاط الذى انتزع شوكة من قدم اعتلت جبال الصخر للوصول للغار ليسمع صاحبها: اقرأ.. والمرآة التى عكست مطلع النور ووجه حبيب اللـه الذى قال له فإنك بأعيننا.. ومشطه الذى فرق الشعر ورجله وأسدله وضفره وتمشى بسنونه فوق الرأس الجليل.. وبعض شعرات مباركات من الرأس التى تم حلقها فى حجة الوداع فأخذها أبو طلحة ليقسمها بين الناس للاحتفاظ بها تبركا.. والمصحفان المنسوبان لعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب... وغيرها من آثار نبوية.. آثار من نور انتقلت من مكان إلى مكان.. وذكرها برهان الحلبى فى حاشيته «نور النبراس» على سيرة سيد الناس ليعرفنا بأنها كانت عند بنى إبراهيم بينبع التى ورثها أبا عن جد.. ثم اشتراها فى القرن السابع تاج الدين بن حنا ــ أحد وزراء مصر ــ الذى شيد لها مبنى على النيل عرف باسم رباط الآثار المعروف الآن بجامع أثر النبى وكان مبنى محكم البنيان وله طاقات مطلة على الماء.. ومكان ينزل إليه وفيه خزانة من خشب عليها عدة أستار الواحد فوق الآخر.. وداخل الخزانة علبة من شجر الجوز فيها من الآثار الشريفة الكثير.. وقد زرناه ــ برهان الحلبى ــ غير مرة وقلنا فيه شعرا منه.. يا عين إن بعد الحبيب وداره.. «ونأت مرابعه وشط مزاره» فلك الهنا فلقد ظفرت بطائل..إن لم تريه فهذه آثاره.
ويأتى ابن بطوطة فى أوائل القرن الثامن الهجرى ليكتب عن زيارته لآثار النبى تلك بقوله: بت ليلة خروجى من مصر بالرباط الذى بناه تاج الدين بن حنا وهو بناء عظيم بناه على مفاخر عظيمة وآثار كريمة اشتراها بمائة ألف درهم.. وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر.. والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة التى يقصدها الناس فى كل يوم أربعاء.. وبقى الرباط عامرا مأهولا حتى زمن إبراهيم باشا الدفتردار والى مصر فى عام1071 هـ الذى قام بتوسعته وبنى تحته رصيفا لسد مياه النيل عنه.. ورتب له مائة خادم عثماني.. وأوقف له الأراضى.. وعين به القراء والحراس بالمناوبة.. وبعد تولى السلطان الملك الأشرف قنصوة الغورى المملكة المصرية عام 906 هـ نقل الآثار إلى قبة الغورى التى أنشأها تجاه مدرسته داخل باب زويلة وباب الخرق ــ الذى صار باب الخلق ــ من القاهرة المعزية.. وبقيت الآثار محفوظة بقبة الغورى ثلاثة قرون حتى عام1275 هـ عندما توقف النيل عن الوفاء فى أثناء ولاية خير بك لمصر إلى أن جاء يوم الأحد السادس من رمضان فنزل ملك الأمراء وتوجه إلى المقياس وفرق أجزاء القرآن على الفقهاء فقرؤوها عشرين دورا.. ثم قرؤوا صحيح البخاري.. وقام بتفريق المال على اليتامي.. وأحضر من الآثار الشريفة قميص الرسول صلى اللـه عليه وسلم.. ووضعه فى فسقية المقياس وغسلوه من مائها وسط الضجيج والابتهال والتضرع إلى اللـه بعودة الفيضان.. ثم نقلت الآثار النبوية من القبة إلى المسجد الزينبى.. وبعدها فى موكب حافل إلى خزانة الأمتعة بالقلعة.. وبعدها فى عام 1304 إلى ديوان الأوقاف.. وفى عام1305 تم نقلها إلى قصر عابدين مقر الخديو توفيق.. ومن القصر فى نفس العام إلى آلمسجد الحسينى تبعا لأوامر الخديو بحفظها قبل نقلها فى نسيج من الديباج الأخضر المطرز بسلوك الذهب والفضة قامت زوجته الأميرة أمينة ابنة الأمير إلهامى باشا ابن والى مصر عباس باشا الكبير بتطريزه بيدها.. وأقيمت بعدها شعائر الاحتفال بالرحلة المباركة من القصر إلى المسجد يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الثانى عام1305 هـ.. حيث تبدى موكب فخم لم تشهد مصر له مثيلا.. مشى فيه نحو ثلاثين ألفا من أبناء مصر على أقدامهم.. واحتشد لرؤيته على جانبى الطريق نحو مائتى ألف.. وكان الخديو قد دعا جميع العلماء والأعيان إلى القصر للاشتراك فى المسيرة الكبرى المشرفة.. وأمر موظفى الدواوين بالمشاركة.. وكانت الآثار الشريفة ملفوفة فى خمس أكسية من الديباج مرفوعة على أسرة فى بهو الاستقبال الكبير وحولها مجامر البخور.. فلما توافد المدعوون استدعى الخديو إلى مجلسه قاضى القضاة وشيخ الأزهر محمد الإنبابى والشيخ محمد البنا مفتى الديار.. ومن كبار العلماء الشيخ محمد المهدى العباسى.. ومن السادة الأشراف نقيبهم السيد عبدالباقى البكرى.. والسيد عبدالخالق السادات... حمل الخديو فوق ذراعيه إحدى الودائع الخمس الكريمة.. وعهد إلى كل من أخيه الأمير حسين كامل باشا.. والغازى أحمد مختار باشا المندوب السلطانى العالى.. ومحمد ثابت باشا رئيس الديوان الخديوى.. ومحمد رؤوف باشا ناظر الأوقاف.. ليحملوا الأربعة الباقية ليخرجوا بها إلى ميدان عابدين ليتقدم السيد البكرى ويتسلم الوديعة التى يحملها الخديو وينتظم مع الحاملين لبقية الآثار.. وكان خروج الموكب المحاط بمجامر البخور وقماقم العطر من القصر فى ضحى ذلك اليوم ليصل إلى المسجد الحسينى بالسير المتمهل بين صفوف فرسان الشرطة بأعلامهم فى ثلاث ساعات.. فكان سيره من عابدين إلى ميدان العتبة فشارع محمد على إلى ميدان باب الخلق فشارع تحت الربع إلى باب زويلة فشارع السكرية.. فالعقادين فالغورية فالسكة الجديدة إلى أن وصل إلى المسجد الحسينى.. وعند الوصول أودعت الآثار فى خزانة المسجد ومعها المصحف العثمانى.. وتسلم المفاتيح ناظر الأوقاف.. وعندما تولى الخديو عباس حلمى باشا عام1309 هـ أصبح للآثار النبوية حجرة خاصة جُعِلَ لها بابان.. واحد إلى المسجد.. والآخر إلى القبة.. حيث خزانة الآثار بحائطها الجنوبى باقية إلى اليوم محتضنة آثار النبى صلى اللـه عليه وسلم الذى أنقذ مسرى البشرية من ليل الجاهلية إلى نور الإيمان.
وتعرف الآثار النبوية عند الأتراك بالأمانات المباركة ويتبرك بها الزائر فى جولته بقصر توبكابى باسطنبول.. ويعدها الأتراك من مفاخر دولتهم.. ويرجع المؤرخون وجودها عندهم بأنها كانت عند أشراف مكة وأمرائها.. فلما استولى السلطان سليم على مصر عام923 هـ بادر بطلبها من الشريف بركات أمير مكة وقتها فبعث بها إليه ليضعها بداية فى الحرملك بقصر توبكابى حتى هيأ لها حجرة خاصة نقلها إليها ليحتفل بزيارتها مع عظماء دولته فى منتصف رمضان.. ولما تولى السلطان مراد بن أحمد نقل الآثار إلى حجرة أخرى فى القصر ليظل الاحتفال بها قائما فى رمضان بحضور السلطان وعظماء دولته لزيارة تلك الآثار الشريفة التى تضم قطعة من ثوب يزعمون أنها البردة التى وهبها صلى اللـه عليه وسلم لكعب بن زهير رضى اللـه عنه ــ ويقال إن البردة كانت على الرسول فجاء الحسن والحسين فأدخلهما فيها معه.. ثم جاءت فاطمة فأدخلها معهما.. ثم جاء على فأدخله معهم.. ليتلو بعدها قوله تعالى «إنما يريد اللـه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» ــ ومن آثار توبكابى النبوية التى نسردها على علاتها كما جاء فى كتالوج توبكابى سن من أسنان الرسول صلى اللـه عليه وسلم.. ونعلان نبويان.. والبردة.. وحجر عليه أثر القدم الشريفة.. والسجادة النبوية.. وقبضة سيف من السيوف النبوية.. والقوس النبوي.. واللواء النبوي.. وماء من الغسل النبوي.. وقدر منسوبة لنوح عليه السلام.. ومرجل كان لخليل اللـه إبراهيم عليه السلام.. وسيف داود عليه السلام.. وعصا شعيب عليه السلام.. وقميص يوسف عليه السلام.. وميزاب من الذهب كان بالكعبة المشرفة ــ لعله مفتاح قديم للكعبة.. حيث كان يعمل للمفاتيح بمصر كيس من الديباج الأخضر المطرز يرسل به إلى مكة مع الكسوة ويجدد كل عام ــ وغطاء باب التوبة ــ الذى يفضى إلى سلم يصعد عليه إلى سطحها.. وحلية من الفضة كانت على مقام إبراهيم عليه السلام بالحرم المكى.. وشعرات من رأس الرسول.. وسجادة الصديق رضى اللـه عنه.. وعمائم الخلفاء الأربعة رضى اللـه عنهم وسيوفهم وراياتهم وسبحاتهم.. وقبضات ستة سيوف من سيوف العشرة المبشرين بالجنة.. ورايتا الحسن والحسين.. وسيف جعفر الطيار.. وسيف خالد بن الوليد.. وسيف شرحبيل بن حسنة أحد الصحابة.. وسيف معاذ بن جبل.. وتاج أويس القرني.. ومصحف عثمان ومصحف على بن أبى طالب بخط يده.. ويذكر تاريخ الأتراك أنه فى يوم تولى السلطان مراد بن أحمد الملك ــ المعروف بمراد الرابع ــ أنهم فى اليوم التالى لمبايعته قلدوه سيفين أحدهما سيف نبوى والآخر سيف السلطان سليم.. وأنه ارتدى يومها على رأسه عمامة يوسف عليه السلام المجلوبة من خزانة السلطان الغورى فى مصر... ويعترض العالم المؤرخ أحمد تيمور باشا على الآثار التى تنسب للأنبياء نوح والخليل وداود وشعيب ويوسف لبعد العهد وتقادم الزمن.. وكذلك على السبح المنسوبة للخلفاء الأربعة.. فإن السبح بشكلها الحالى لم تكن قد صنعت فى ذلك العصر.. وإنما كانوا يعدون التسبيح بالأنامل والنوى والحصا وعقد العقد فى الخيوط مثل الخيط الذى كان لأبى هريرة.. وأما مفاتيح مكة التى حملها المملوك لطيف أغا للقسطنطينية فقد كوفئ عليها عند وصوله، كما ذكر الجبرتى بقوله: وعند دخول لطيف أغا بالكنز النبوى عملوا له موكبا عظيما مشى فيه أعيان الدولة وأكابرها ووضعت المفاتيح على صفائح الذهب والفضة وأمامها البخور فى المجامر المطعمة وخلفها الطبول.. وأنعم عليه السلطان بطوخين ــ خصلتين من ذنب الفرس تعلقان على الرأس وكان للوزير ثلاثة.. وللصدر الأعظم خمسة.. وللسلطان سبعة ــ ومنحه لقب باشا ليغدو لطيف باشا.. وكانت نهاية الباشا إثر عودته لمصر عندما قبض عليه وقتله محمد بك لاظوغلى كتخدا مصر أى وزيرها.. وقد كافأ إسماعيل باشا الوزير القاتل بعمل تمثال له لحفظه مصر أمانة تحت لوائه فى غيابهم.. ولهذا جعلوا تمثال لاظوغلى مادا ذراعه مشيرا بإصبعه إلى الأرض كناية عن تثبيته ملكهم بأرض مصر.. وعندما لم يجدوا صورة له لصياغة التمثال على نسقها أرشدهم أحد معاصرى لاظوغلى إلى تاجر تركى بخان الخليلى يشبهه فصاغوا التمثال على مثاله ليسمى ميدانه باسمه بشارع الدواوين.
وإذا ما كانت هدية شريف مكة إلى قصر توبكابى باسطنبول ثلاثا وأربعين شعرة مباركة للرسول.. فإن السلطان محمد الخامس قد أهدى منها بالتالى أربعا وعشرين إلى بعض المدن بالمملكة العثمانية.. وتبعا لخريطة الشعرات المسجلة اليوم فإن منها شعرتين بالمسجد الحسينى اللتين كانتا بقبة الغورى وهما فى زجاجة محفوظة فى صندوق صغير من الفضة أضيفت إليهما شعرة ثالثة أهداها أحمد طلعت باشا.. وهناك شعرة تكية النقشبندية بدرب الجماميز التى أهدتها والدة عباس باشا الكبير الوالى وشعرة المشهد الحسينى بدمشق الملاصق للجدار الشرقى لصحن المسجد الأموي.. وشعرة مقام التوحيد بدمشق التى تزار فى المولد النبوى وليلة المعراج وليلة27 رمضان.. وشعرة بيت المقدس.. وشعرتان بعكا وحيفا الأولى بمسجد أحمد باشا الجزار بعكا والثانية بالجامع الكبير بحيفا.. وشعرتان بطرابلس إحداهما بجامع طورغود باشا والثانية ببنى غازى فى جامع راشد باشا المشهور بجامع عثمان.. وشعرة فى بهوبال بالهند أهداها السلطان محمد رشاد لملكة بهوبال سلطان جهان بيكم التى وضعتها عند عودتها فى صندوق ثمين حمله والدها بهوبال على رأسه فتكأكأ عليه الناس للتبرك بلمس الصندوق فكاد يفرم تحت الأقدام قبل بلوغه المسجد بالشعرة المباركة..
وعندما اختار الرسول صلى اللـه عليه وسلم الرفيق الأعلى وبايع أبا بكر بالخلافة ذهبت السيدة فاطمة الزهراء إلى الخليفة تطالبه أن يرد عليها ما ترك أبوها من أرض بفدك وخيبر فأجابها بقول أبيها «نحن معشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة»، ولاشك فى أنه عليه السلام خلف من بعده منقولات قليلة مما كان يلبسه أو يستعمله فى حياته اليومية من ثياب وأدوات.. وما كان يستعمله كذلك فى شئون الدولة منذ تولاها.. بعد أن استقر له الأمر فى المدينة.. كخاتمه الذى نقش عليه لا إله إلا اللـه محمد رسول اللـه.. وكالعلم الذى كان المسلمون يتخذونه فى حروبهم وغزواتهم فى حياة نبيهم.. ويجمع المؤرخون على أن الخاتم قد توارثه الخلفاء، إلى أن وصل إلى عثمان بن عفان أيام خلافته.. ليسقط منه فى بئر أريسى بالمدينة، فأمر بنزح البئر فلم يهتد إليه أحد.. من هنا نقش عثمان لنفسه خاتما جديدا عليه الكلمات عينها لا إله إلا اللـه محمد رسول اللـه.. أما من تصدق عليهم أبوبكر أو أمهات المؤمنين من متعلقات الرسول الكريم فلم تذكره كتب السيرة التى انشغلت بحياة الرسول الحافلة ورسالته العظيمة، وغزواته، ورسله إلى الملوك، ولم يذكر المؤرخون الأوائل إلى من ذهبت الآثار النبوية وإلى من آلت إليه، ومن هنا اختلفت الآراء والمصادر وانفرد كل مؤرخ بذكر أثر واحد أو اثنين من الآثار مثلما انفرد كثير بذكر المكحلة والمشط، وانفرد الجبرتى بذكر قطعة عصا، وانفرد ابن أياس بذكر قطعة من القميص.
آثاره التى ذهبنا نحصيها على طول البلاد وعرضها فوجدناها فى القضيب والبردة اللذين أصبحا من شعار الخلافة، فقد كانوا فى يوم العيد يطرحون البردة النبوية على أكتاف الخليفة آخذا القضيب المنسوب للرسول فى إحدى يديه فيخرج للجماهير محاطا بالجلال والوقار، مما يصدع القلوب ويبهر الأبصار، وهناك المنبر والسرير والخاتم والعمامة، والسيف الذى كان يسمى «ذو الفقار» وكان صاحبه العاصى بن منبه السهمى الذى قتل كافرا يوم بدر فغنمه النبى صلى اللـه عليه وسلم وكان لا يفارقه فى حرب من حروبه.. وروت عائشة أنها وجدت فى قائم السيف تلك الكلمات إن أشد الناس عتوا رجل ضرب غير ضاربه.. ورجل قتل غير قاتله.. ورجل تولى غير أهل نعمته.. فمن فعل ذلك فقد كفر باللـه ورسوله.. لا يقبل اللـه منه صرفا ولا عدلا.. وقد سُمى السيف «ذو الفقار» لحزوز مثل فقرات الظهر فى وسطه وقد انتهى تنقل السيف بين أيدى المحاربين والخلفاء ليمتشقه المهدى ثم الهادى ثم الرشيد ثم المهتدى.
فى مولده ليس هناك أروع من وصف طه حسين للإطار النورانى.. هنالك دعت آمنة إليها من حضرها من نساء بنى هاشم.. فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالى أنكرن فيها كل شىء وأعجبن فيها بكل شىء.. أنكرن حتى أنفسهن.. فقد رأين مالم ير أحد.. وسمعن ما لم يسمع أحد.. ولم تكن آمنة أقلهن انكارا وإكبارا وإعجابا.. فقد كانت ترى وهى يقظة غير نائمة أن نورا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها ويزيل الحجب عن عينها.. وكانت تنظر فترى قصور «بصرى» فى أطراف الشام.. وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى فى أقصى الصحراء.. وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول.. وأن يظن بها الظنون.. وكانت هذه من صاحباتها لا تمد بصرها إلى شىء حتى تراه نورًا كله.. لا ظلمة فيه وإنما هو مشرق مضىء.. أو هو الإشراق الخالص.. وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر.. فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساهرة.. وإنها لتغدو منها وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتحتويها.
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضاء
بك بشر اللـه السماء فزينت وتضوعت مسكًا
بك الغبراء والعرش يزهو والحظيرة تزدهى
والمنتهى والسدرة العصماء
لمزيد من مقالات سـناء البيـسى رابط دائم: