تعانى الدول الحديثة على امتداد العالم كله أمراضا متجذرة تنخر فى عظامها كالسوس الذى يلتهم كل مظاهر التقدم بل يمتص أيضًا عوائد التنمية، وعندما ننقب فى جذور المظاهر المرتبطة بتلك الأمراض الشائعة نجد أنفسنا أمام ثلاثة أمراض رئيسية تمثل الهم الأكبر للدولة الحديثة، الأول هو الفساد السياسى والاقتصادى والذى يتبعه بالضرورة انهيار ثقافى وتدهور أخلاقى، أما الثانى فهو الإهمال النابع من غياب التدريب السليم وضعف الرقابة واختفاء الإحكام المطلوب عند إنجاز المهام المختلفة، ويتبع ذلك بالضرورة تبديد كبير للثروات وإضاعة للفرص وإهدار للإمكانات، ثم يأتى المرض الثالث وهو الأكثر شيوعًا وأعنى به سوء الإدارة، فالإدارة فى النهاية هى هندسة الطريق لتحقيق الأهداف، ولقد لاحظنا كثيرًا اقترانها بالعالمين الأول والثانى أى الفساد والإهمال، ولعله أصبح معلومًا أن الحصول على درجة علمية أو مكانة وظيفية لا يتطلب فقط شهادة دراسية، ولكنه يحتاج معها إلى خبرة واسعة فى علوم الإدارة وفروع المعرفة حتى أصبحت الشركات الدولية والمؤسسات العالمية اليوم تشترط حصول من يقود مسيرتها على درجة عليا فى علم الإدارة مع تدريبٍ عملى يثبت سابق الأعمال قبل أى شىءٍ سواه، وجدير بالذكر أن الإدارى قد يقفز بمؤسسته أو الشركات التى يديرها قفزة هائلة، كما أنه يمكن أن يكون سببًا فى انهيارها وسقوط اسمها، فالمدير الناجح هو الذى يدرك تمامًا مسئولياته، ويملك من الخيال الواسع ما يجعله قادرًا على المضى بالمؤسسة التى يقودها إلى آفاقٍ أعلى ومواضع أرحب، ولقد كتبت مرارًا عن الصدام المحتمل أو الصراع المكتوم بين الأفراد والمؤسسات، على اعتبار أن هناك حالاتٍ شهدنا فيها ابتلاع المؤسسة للفرد ذى الشخصية الباهتة والقدرات المحدودة، كما عرفنا أيضًا طغيان دور الفرد البارز على قمة المؤسسة التى يديرها ولا يستطيع المضى بها إلا من خلال احتوائه شخصيًا للكيان القائم واعتباره جزءًا منه وليس كما هو مطلوب أن يكون هو جزءًا منها، وما أكثر المؤسسات العالمية والشركات عابرة القارات التى حققت قفزاتٍ هائلة عندما جرى ضخ دماءٍ جديدة فيها، والدفع بقيادات مؤهلة علمًا وتدريبًا لكل ما هو موكل إليها ومطلوب منها، وهنا لابد أن نقرر بوضوح أن الإرادة السياسية هى فى البداية والنهاية عمود الخيمة، وهى الفيصل فى نوعية الانطلاق وموعده وأساليبه وهى التى تسمح للرؤية المتكاملة بأن تسود وأن تقود، وعندما تتوافر تلك الإرادة فإن الانطلاق يبدو محتملاً ويسيرًا، وقد عرفت بلادنا عبر تاريخها الطويل صحواتٍ استطاعت بها أن تتقدم إلى الأمام، وأن تغير مسارات التقدم لصالح جماهير شعبها، وأحسب أن ذلك ممكن دائمًا رغم اعترافنا بأننا دولة مستهدفة تجرى محاولات لتطويق حركتها وتعويق مسيرتها عبر حدودها مرة وعبر أدواتها الناعمة مرات أخرى، ولكنها تبدو دائمًا صامدة عصية على السقوط ترفض التراجع وتتحرك بثوابت قومية وأخلاقية لاتخرج منها ولا تحيد عنها، ففى الحروب كانت شريفة وفى السلم كانت نظيفة وهى تواجه أكبر المخاطر وأعظم المصاعب، ولكنها ظلت على عهدها وفية لتاريخها مدركة للحقائق الجيوسياسية بموقعها الفريد على الزاوية الشمالية الشرقية من القارة الإفريقية بحيث تنظر بكل اتجاه لترى نفسها واسطة العقد، ولقد لاحظت شخصيًا فى السنوات الأخيرة أن هناك بعض الحساسيات من دور الكنانة، فلقد شب الجميع عن الطوق وأصبحت هى المنار الذى لا يزال مضيئًا والقلعة الشامخة التى لا تنهار، ولكن دعنا فى النهاية نعترف بأن الفساد بأنواعه والإهمال بدرجاته، وسوء الإدارة بمستوياتها التى تبدو متوطنة فى كثيرٍ من الدول النامية، أقول إن هذه الأمور فى مجملها هى الداء العضال أمام حركة المجتمعات للتقدم إلى الأمام، والغريب أن الدول الموغلة فى القدم والتى لامس تاريخها حضارات متعددة هى أكثر الدول معاناة من هذه الأمراض لا أقول بحكم الترهل الإدارى والشيخوخة السياسية ولكن أيضًا بمنطق استيطان الروتين الشرير والإهمال المتأصل إلى جانب قدر كبير من التسيب والاتكالية واعتماد كلمةٍ لا نظير لها فى اللغات الأجنبية وهى كلمة (الفهلوة) وقانا الله ووقى الوطن المصرى العظيم شرها المستطير!
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: