لم يختلف أحد على مبادئ السياسة الخارجية المصرية وثوابتها، التى أقرها دستور 2014، ولا مدى أبعادها الإقليمية والدولية، التى تسير دون خطوط فاصلة، وتجعل الدور المصري، ليس مؤثرا وفاعلا فقط، وإنما ضروريا ومهما، ما بين انتماء عربي، وارتباط إفريقي، إضافة إلى امتداد آسيوي، وحضارة إنسانية تضرب بجذورها فى التاريخ القديم.
وتلتزم مصر سياسة خارجية متفردة، لها دور نشيط، خاصة أننا فى قلب إقليم مضطرب، تتغير فيه الأحداث ما بين عشية وضحاها، وتشتعل النيران فى أى بقعة منه دون سابق إنذار، ولعل هذا هو سر تميزها بالتوازن، وعدم الانضمام إلى أحلاف إقليمية أو دولية تحت أى مسمى، وبُعدها عن حالات الاستقطاب، وهو ما خلص إليه السفير بدر عبد العاطى، وزير الخارجية، خلال لقائه منذ أيام مع القيادات الإعلامية والصحفية، بمقر وزارة الخارجية بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وتقوم ثوابت السياسة المصرية على الاحترام المتبادل بين الدول، والتمسك بمبادئ القانون الدولي، والعلاقات المتزنة التى ترتبط بالأهداف والمصالح الإستراتيجية فى إطار استقلال القرار المصري. ومن قدر مصر الذى تواجهه بكل ثقة وثبات، اشتعال الأزمات على حدودها، ما بين السودان جنوبا، وليبيا غربا، وقطاع غزة شرقا، إضافة إلى ما يدور من اضطرابات فى القرن الإفريقي، وما خلفته القرارات الأحادية من الجانب الإثيوبى فيما يتعلق بسد النهضة، وما أحدثته فى حوض النيل، وكأن مصر مستهدفة بهذه التقلبات غير المسبوقة.
ورغم الاستدارة شرقا مع الصين وروسيا والهند، وتوطيد العلاقات مع دول القارتين الأوروبية والأمريكية، وتعزيز الدور فى الجانبين العربى والإفريقي، والتواجد فى شرق المتوسط،، فإن ما شهده الإقليم من اضطرابات لا تزال دائرة؛ يجعل الصبر ضرورة فى ظل ما وصل إليه المشهد من سوء، بما يعنى أن الحلول الكاملة فى القريب العاجل غير واردة ولا منظورة، والمشهد لن يستقر لفترة ليست بالقصيرة.
إن تبنى مصر مبدأ التوازن الاستراتيجى، وتصفير القضايا التى تختلف فيها الرؤى ووجهات النظر، يأتى حرصا على المصالح العليا للدولة المصرية، إضافة إلى إدراك مصر لمكانتها ودورها على المستويين الإقليمى والدولى، وفوق كل هذا فلسفة ورؤية وحكمة الرئيس عبد الفتاح السيسى، وفكره الداعم على طول الخط للاستقرار والتنمية، وحرصه على توازن التحرك المصرى فى المجال الاستراتيجى، رغم امتلاك البلاد للعديد من الخيارات الخشنة والأدوات المؤثرة التى كان يمكن تفعيلها، والقدرة اللا محدودة على حل الأزمات، ومواجهة التحديات التى تعترض مصالح الوطن، ولكن يبقى احترام القوانين الدولية، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للآخرين، وعدم الإضرار بهم منهاج عمل مصرى أصيل.
ولعل هذا ما جسدته الزيارة التاريخية للرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تركيا، حيث قال فى كلمته: «ناقشت مع الرئيس أردوغان، سبل التنسيق والعمل معا، للمساهمة فى التصدى للأزمات الإقليمية، وعلى رأسها معالجة المأساة الإنسانية، التى يتعرض لها إخواننا الفلسطينيون فى غزة فى كارثة غير مسبوقة قاربت على العام، حيث يهمنى إبراز وحدة موقفى مصر وتركيا، حيال المطالبة بالوقف الفورى لإطلاق النار، ورفض التصعيد الإسرائيلى الحالى فى الضفة الغربية، كما تبادلنا وجهات النظر حول الأزمة الليبية، واتفقنا على التشاور بين مؤسساتنا، لتحقيق الاستقرار الأمنى والسياسى فى ليبيا، وناقشنا الأوضاع فى سوريا، وأكدنا تطلعنا إلى التوصل لحل لتلك الأزمة، كما استعرضنا الأزمة فى السودان، والجهود التى تبذلها مصر بالتعاون مع مختلف الأطراف لوقف إطلاق النار. وأؤكد تطلعنا إلى استمرار التهدئة الحالية فى منطقة شرق المتوسط، والبناء عليها، وصولا إلى تسوية الخلافات القائمة بين الدول المتشاطئة بالمنطقة».
نجحت مصر فى عهد الرئيس السيسى فى استرداد دورها الإقليمى المحوري، والعمل على حفظ توازن المنطقة، والحيلولة دون انجرافها إلى هوة الفوضى؛ من خلال علاقات مرنة مع كل القوى والأطراف المعنية فى إقليم مشتعل يمر بتطورات متلاحقة، ولعل هذا ما حدده الرئيس السيسى فى خطاب التنصيب فى يونيو 2014، عندما قال إن مصر بما لديها من مقومات يجب أن تكون منفتحة فى علاقاتها الدولية، وسياستها الخارجية ستتحدد طبقا لمدى استعداد الأصدقاء للتعاون وتحقيق مصالح الشعب المصرى.
ففى الشرق، ونتيجة لدورها الواضح فى القضية الفلسطينية، رفضت مصر الزج باسم الدولة المصرية فى عرقلة التوصل لصفقة لوقف إطلاق النار، وتبادل الرهائن والمحتجزين، وإيقاف جهود الوساطة، لتشتيت انتباه الرأى العام فى إسرائيل، وحملت الحكومة الإسرائيلية عواقب إطلاق مثل تلك التصريحات التى تزيد من «تأزيم الموقف»، وأكدت وزارة الخارجية أن مصر لن تتخلى عن دورها التاريخي، فى قيادة عملية السلام فى المنطقة.
وفى الجنوب، ورغم المحاولات المستمرة لوقف حمامات الدماء، فإن المسافات تتسع بين كل الأطراف، وتحتاج عملية «لم الشمل» فى السودان إلى مزيد من الوقت؛ لاستيعاب الخلافات. وفى الغرب هناك مساعٍ لدعم عملية سياسية فى ليبيا؛ بهدف الحفاظ على سيادة البلاد وسلامتها الإقليمية، ووحدتها السياسية، وفى سوريا توجد محاولات للوصول إلى حل دائم وشامل، ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله وصوره.
وجددت مصر موقفها الداعم لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه، والرافض لأى تدخل فى شئونه الداخلية، إضافة إلى التوافق على تكثيف التشاور والتنسيق خلال الفترة المقبلة، لمواصلة العمل على إرساء الأمن والاستقرار فى منطقة القرن الإفريقى.
وفيما يخص سد النهضة، أعلنت مصر، فى خطاب إلى مجلس الأمن، رفضها القاطع للسياسات الأحادية الإثيوبية المخالفة لقواعد ومبادئ القانون الدولى، والتى تشكل خرقا صريحا لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا فى عام 2015، والبيان الرئاسى لمجلس الأمن الصادر فى 15 سبتمبر 2021، مشددة على أن مصر لطالما كانت فى طليعة الدول الداعمة للتنمية بدول حوض النيل، وأن التنمية تتحقق للجميع فى حالة الالتزام بالممارسات التعاونية المنعكسة فى القانون الدولي، وعدم الإضرار بالغير، وتعزيز الترابط الإقليمي.
وأخلص إلى القول بأن السياسة الخارجية المصرية تطير بجناحيها لتغطى كامل مساحة الإقليم الذى يعيش مرحلة شديدة التعقيد، ويغلى بأزمات تستعصى على الحل القريب، ولكن الاعتدال، والتوازن، ومساحة التحرك، والأرضية المشتركة مع دول العالم تجعل منها قوة مؤثرة تفتح الأبواب المغلقة دون إسالة المزيد من الدماء.
***
نجحت مصر فى عهد الرئيس السيسى فى استرداد دورها الإقليمى المحورى، وحفظ توازن المنطقة، والحيلولة دون انجرافها إلى هوة الفوضى؛ من خلال علاقات مرنة مع كل القوى والأطراف المعنية
[email protected]لمزيد من مقالات مـاجــــد منير يكتب رابط دائم: