رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

كلام ثابت
الأب الباشمهندس

فى الساعة الثالثة فجرًا، قبل أربعٍ وعشرين عامًا، كنت اراجع صفحات جريدة «الأهرام المسائي» مع سكرتير التحرير قبل إرسالها إلى المطبعة، كان الجو مشحونًا بالتوتر، فالمطبعة لا تنتظر ولا تعرف الأعذار، والزمن لا يتوقف. فجأة، جاءنى اتصال من أخى أبو العزائم، قال لى بصوت حزين: «البقاء لله فى والدنا»، شعرت بأن الأرض قد اهتزت تحت قدمي، لكن لم يكن لى الخيار فى ترك عملي، وبينما كنت أبذل قصارى جهدى فى تجنب أى خطأ، كانت دموعى تسقط على الصفحات كأمطار رقيقة على ورق هش، وقلبى يئن من ثقل الفاجعة، وذكريات أبى تتزاحم فى رأسي، تشدنى إلى الماضى الذى بدا وكأنه يبتعد عنى بسرعة.

ما أن انتهيت من إعداد الجريدة للطباعة، حتى أسرعت نحو المطار، لألحق بأول طائرة إلى الأقصر، كنت أريد أن أصل قبل مراسم الدفن والعزاء، غارقًا فى بحر من ذكريات ذلك الرجل الذى كنت أجد فيه الأمان، رغم انشغاله الدائم كمهندس فى السكك الحديدية، تنقلت معه من مدينة إلى أخرى، حتى استقر بنا الحال فى أرمنت، ومنها إلى الأقصر، كان أبى فى أرمنت، المسئول عن الخط الذى يخدم مصنع السكر، لكنه لم يكن مجرد مدير، كان يقضى جل وقته بين العمال، يعيش بينهم كواحد منهم، وكانوا يعاملونه بمحبة واحترام، فلا يترك شكوى إلا ويسعى لحلها، أو مناسبة لعامل إلا ويشارك فيها.

وكان الجيران وزملائى فى المدرسة ينادوننى بـ«ابن المهندس»، ذلك اللقب كان كافيًا ليمنحنى شعورًا بالتميز والفخر، لم يكن فى البلدة سوى مهندس واحد، وكان له هيبته ومكانته الرفيعة، أن تكون ابن المهندس يعنى أنك تحمل شيئًا من تلك المكانة، شيئًا من تلك الهالة التى تحيط به، ورغم أننى كنت واحدًا من بين عدد كبير من الإخوة، كنت أشعر دائمًا بأن لى مكانة خاصة فى قلب أبي، وأكاد أجزم أن باقى إخوتى كانوا يشعرون بنفس الشعور الذى كان يغمرنى بأنهم مميزون رغم قلة كلماته وصرامة شخصيته.

كنت أدرك جيدًا اهتمام أبى بمستواى الدراسى من استفساراته البسيطة، وعرضه الدائم أن أراجعه فى بعض المواد، وكنت أذاكر بجد، خوفًا من لحظة مراجعته لعلاماتى فى شهادة نهاية السنة، أكثر اللحظات التى لا تزال تلح على ذاكرتي، تلك التى كان يصحبنى فيها إلى محطة القطار وأنا فى طريقى إلى الجامعة فى القاهرة، كانت مشاعره المتضاربة واضحة، قلقًا على فراقي، وعلى ما ينتظرنى من غربة فى المدينة الكبيرة التى سأكون فيها وحيدًا، لكنه كان أيضًا فخورًا بطائره الصغير الذى نما ريشه وأصبح مستعدًا للتحليق خارج العش، ليشق طريقه فى الحياة.

لم أدرك عمق تلك اللحظات إلا بعد أن كبرت وأصبحت أبًا، كنت أستشعر ثقل تلك اللحظات على أبي، وهو يمطرنى بنصائحه طوال الطريق إلى محطة القطار، ومع أننى كنت مزودًا بالمصروفات الكافية، إلا أنه كان يعطينى أكبر ورقة نقدية فى جيبه، قائلاً لي: «احتفظ بهذا المبلغ، انفقه فى الضرورة القصوي»، ويحتضننى بدفءٍ وقوةٍ فى لحظة الوداع، ويفاجئنى دائمًا بزياراته فى المدينة الجامعية، حيث كان يأخذنى لنصلى معًا فى السيدة زينب أو الحسين والأزهر، ثم نجلس لنأكل أشهى الأطعمة، وأطيب أرز باللبن، ثم يوصلنى بعد ذلك إلى باب المدينة الجامعية ويودعني، تاركًا فى قلبى شعورًا بالحب والأمان.

ولا انسى عندما زرت متحف السكة الحديدية، وبينما أتجول، استوقفنى صوت رجل عجوز يناديني: «أنت ابن المهندس كمال ثابت، أليس كذلك؟»، كان فى صوته شيء من الحنين، اقترب منى وضمنى بقوة، كأنه يتلمس فى وجودى رائحة والدى الغائب، فى تلك اللحظة، شعرت بأن أبى ترك فراغًا لا يمكن لأى شيء أن يملأه، وأن رحيله لا يزال يؤلمنى بعمق، كجرح لم يلتئم.


لمزيد من مقالات عــــلاء ثــابت

رابط دائم: