لماذا ازدهرت الحضارةُ الإسلامية فى الوقت الذى بلغ تقهقر الحضارة الغربية مبلغًا بعيدًا، ثم حدث العكسُ بعد عدة قرونٍ فصار السؤال عن أسباب تأخرنا وتقدم الغرب مطروحًا منذ آخر القرن 19، وإن فى صيغات متعددة مثل (بِمَ تقدم الأوروبيون وتأخرنا؟) كما عنون عبدالله النديم مقاله فى مجلة الأستاذ عام 1892, و(لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) وهو عنوان كتاب شكيب أرسلان عام 1930.
هذان مجرد مثالين لسؤالٍ متكررٍ قال عنه النديم (لهجت به ألسنة الشرقيين واشتغل به العقلاء فى الممالك الشرقية). وكان أولئك العقلاء شجعانًا وأمناء أيضًا، إذ بحثوا عن جوهر المشكلة، وليس عن شماعة يُعلَّقون التأخر عليها.
وعندما نتأملُ ظروف من تقدموا ثم تأخروا، ومن كانوا متأخرين ثم تقدموا، نجد أن المُحّدِد الأساسى فى الحالتين هو الانفتاح الفكرى. ارتبط التقدم بهذا الانفتاح، فيما كانت الصلةُ واضحةً بين التأخر والانغلاق. تقدم المسلمون فى زمنٍ أُتيح فيه قدر معقول من الانفتاح. لم يكن مستمرًا طول قرون الازدهار فى كل أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. لكن لا مركزيتها أتاحت انفتاحًا متفاوتًا فى أحد أجزائها على الأقل معظم الوقت.
لم يكن غيرُ قليلٍ من الملوك والسلاطين مرعوبين من طرح أفكار غير مألوفة، أو حدوث شطط فى بعض النقاشات، ولم يجعلوا المحافظة على الهوية أو النظام ذريعةً لمصادرة ما لم يرق لهم، بل شجعوا التفاعلات الفكرية، وترجمة كتبٍ مختلفة، واستضاف بعضهم علماء وفلاسفة وشعراء، ولم يمنعوا المختلفين معهم من شرح ما لديهم فى منتدياتٍ مفتوحة، وليس فى قصورٍ مغلقة فقط.
كان إعلاء شأن التصور الإسلامى, كما فهمه هذا أو ذاك منهم, مرغوبًا لديهم، ولكن ليس عن طريق القهر والإرغام والمصادرة. وقد عوّض الانفتاح فى فترات حكمهم الانغلاق فى فتراتٍ أخرى ولهذا حدث التقدم فى زمنٍ فرض رجالُ دينٍ متعصبون هيمنتهم على الحياة والفكر والثقافة فى أوروبا، التى لم تجد طريقها إلى التقدم إلا حين وُضع حد لذلك الانغلاق، وفُتحت النوافذ تدريجيًا منذ القرن 15.
وهكذا كان الانفتاح الفكرى نعمة أينما وُجد.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: