لا.. والخالق القدير المهيمن الرزاق الفتاح العليم ليس فيما لم يُستعن به من قديم فى تجديد وترميم مسجد السيدة نفيسة رضى اللـه عنها ما يستحق تلك الحملة الزاعقة الناقدة المولولة وكأنها المكلومة فى عزيز، التى تنطلق دومًا من عقالها كلما أشرق على البلاد قبس من نور.. و..رغم التوثيق الكامل للمسجد قبل التجديد وبعده حيث لم يتم مس الضريح، بل بالعكس أضيفت إليه لمسة جمالية تليق بهيبة صاحبة المكان، فقد رحت أبحث عن القديم الذى تقاعس عن الظهور، واختفى من قائمة الحضور فوجدته عبارة عن لوحتين أولهما باسم الخديوى عباس حلمى الثانى مُجدد المسجد عام ١٨٩٢ وكانت معلقة على مدخل السيدات، والثانية باسم الرئيس الأسبق أنور السادات مُجدد الساحة والرخام عام ١٩٧٢، وعامود من الرخام الأحمر، والباب الفضى الذي يفتح على القبة!!.. هذا وقد خرج من يُفتى رافضًا التجديد الذى حدث بأن لعتاقة المكان قدسيتها، وللإضاءة الخضراء المفتقدة منزلتها الروحية، وللرخام الأبيض ونصوعه مع التطوير على الواجهة بهرجة لا تليق بالإطار، وقد يمحى البياض أصل اللون الحجرى المصرى الأقدم وكان يجب الاكتفاء به ــ كما يتندرون ـ فى العاصمة الجديدة والعلمين، وفى الصفائح الذهبية والفضية ما يليق بصالات الأفراح، كما وأن التجديد قد أحدث افتقادا لخفوت الصوت وصداه المناسبين للمكان، بعدما زادت حداتهما بسبب الرخام والدهانات والمواد العاكسة للأصوات بدرجة أكبر من الامتصاص!!! وكما لا يوجد ما يعيب الورد فيرمونه بأنه أحمر الخدين يقول شيخ المعارضين بأن هناك احتمالا فى أن تكون الكتابات الخطية الجديدة مستنسخة بالحاسب الآلى ليُفتقد العمل اليدوى لأصحابها الأصليين من عظماء الخطاطين المصريين والأتراك والسوريين، وتزداد شراسة الرفض فى قوله بأن الأرضيات المصقولة قد جذبت انتباهه لحد انشغاله بحداثتها عما هو محيط بها مما جعل زيارته الحالية لا تترك فى نفسه الأثر الروحانى الذى اعتاده فى سنوات شبابه!!! ومن هنا تبعًا لرأيه كان من المحتم علينا ترك مسجد نفيسة العلم على حاله لأصابع الزمان تفعل به ما تشاء ليزداد تاريخا وقيمة أثرية!!
على عينى وراسى مسألة العراقة تلك وانعكاس الضوء الأخضر على قرنية العين، لكنى أشهد أمام اللـه أننى فى آخر زيارة لى لضريح من أوصى الرسول صلى اللـه عليه وسلم بدفنها فى مصر وعدت لأكتب مشاعرى تجاهها منذ سنوات، أنه قد ساءنى يومها فى مسجدها كل ما رأيت وقابلت ولمست وانزعجت بعدما زاحمت واشتبكت وانكفأت على طرف دكة خشبية ذليلة أمام ضريح حبيبة المصريين حفيدة رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم ألملم ثيابى وأحاذر على موطئ قدمى المغموسة فى أرضية ليس لها فى البؤس من نظير، وما مسح عنى من غضب سوى تذكرى لقول الورعة الطاهرة فى الصبر بأنه يلازم المؤمن بقدر ما فى قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن اللـه معه، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التى تعترضه، فإنها سبيل لرفع درجته عند اللـه الذى جعل الأجر على قدر المشقة، واللـه يُضاعف لمن يشاء واللـه واسع عليم.. فى حضرتها الشريفة ينتفى الإعراض ويتفجر القبول.. سيدتى العالمة المعلمة هدية رسول اللـه لمصر، من طرحوا قناعتها على صفحة النيل عندما غاض فزاد وفاض.. خلف مقصورتها أمامى ترقد الدرّة النفيسة في تلك المساحة المكرمة التى حفرتها بأصابعها لتنام فيها ليلها وترقد بين جنباتها بعد رحيلها، وكانت حين استشعرت بدنو أجلها تقول:
اصرفوا عنى طبيبى ودعونى وحبيبى
لا أبالى بفوات حيث قد صار نصيبى
جسدى راض بسقمى وجفونى بنحيبى

ضريح مسجد السيدة نفيسة الدرّة النفيسة من بعد رونق التطوير
رحلتْ فى مثل رحيل المصطفى صلى اللـه عليه وسلم فى الثالثة والستين، وكان مولدها متزامنًا مع تاريخ ميلاده صلى اللـه عليه وسلم فى الحادى عشر من شهر ربيع الأول، أما وفاتها فكانت فى أول جمعة من شهر رمضان عام ٢٠٨هـ ــ ٨٢٤م ــ بعدما قرأت سورة الأنعام فلما وصلت إلى قوله تعالى «لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون» صعدت روحها لبارئها بعدما عاشت بين المصريين ١٥ عاما بالقاهرة، لنأتيها من كل فج عميق ننشد جوارها وندعو اللـه فى محرابها، ونتساءل الآن لماذا بعدما استرد مسجدها رونقه نبدأ فى الشكاية والنقد، وهل كان الأمر كذلك فى مصرنا الميمونة عندما قام عبداللـه بن الحكم فى زمن الدولة الأموية ببناء أول ضريح لها، ليعاد بناؤه من جديد أيام الدولة الفاطمية فى عهد المستنصر باللـه عندما أقيمت القبة من فوقه، ولقد ظل هذا المسجد على مدى تاريخه يحفل باهتمام العلماء والأمراء والحكام الذين تعاقبوا على مصر، فمنهم من جدّد المقام، ومن وسّع المسجد حتى وصلت مساحته إلى ما يزيد على ألفى متر بعد أن كان مجرد حجرة داخل الدار، ولم يكن كافور الأخشيدى إلا زائرا مستديما لمقامها يهرع لقبرها يسأل اللـه قضاء حوائجه، ويفى بالنذر، وينثر الطيب، ويحن على الفقير، ومعروف عن خديو مصر عباس حلمى الثانى أنه كان من مريدى السيدة نفيسة وهو الذى قام بتجديد مسجدها بعدما هاجمه الحريق، وأقام فى هذه المناسبة احتفالا كبيرا حضره الأمراء والعلماء والأعيان، وفى عهد هذا الخديوى تم ترميم عدد كبير من المساجد التاريخية واكتمال بناء مسجد الرفاعى، وفى عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات تمت إضافة الرخام وتوسيع الساحة.. والآن فى مسار خطة الدولة لعمارة بيوت اللـه مبنى ومعنى ــ خاصة مساجد آل البيت ــ تم تطوير وافتتاح مسجد مصر ومسجد الإمام الحسين رضى اللـه عنه ــ الذى افتتح فى ابريل ٢٠٢٢، حيث شمل التطوير ترميم الجدران، وتغيير شبكة الكهرباء، وتزويد المسجد بتكييف مركزى، وتنفيذ عزل حرارى للأسطح، وتغيير الإضاءة وأنظمة الصوت، وتوسيع مصلى السيدات، وإضافة مساحة خارجية للمسجد مع بناء سور له ست بوابات للأفراد وأربع للسيارات، ومسجد عمرو بن العاص، ومسجد الظاهر بيبرس، والحاكم بأمر اللـه، والسيدة فاطمة النبوية وكان لطائفة البُهرة جهد وبذل ومساهمة فعالة في أعمال تجديد مقامات آل البيت، حيث قام سلطان الطائفة بالهند مفضل سيف الدين بشكر الرئيس عبدالفتاح السيسى لقيامه بمنحه وشاح النيل بما يبرز تعزيز ومتانة العلاقات بين بلاده ومصر على مدى أعوام..
التساؤل الذى يدور الآن حول الأبهة الفائقة والإطار الذهبى الفضى الجديد المنعكس على سطوح الرخام مع تطوير مساجد آل البيت أعاد لذاكرتى عندما ذهبت عام ٢٠٠٠ إلى شيخ العمارة الإسلامية فى مصر مهندس توسيع الحرمين الشريفين فى أواخر الثمانينيات الدكتور كمال إسماعيل من قضى وقتا ثمينا داخل الكعبة المشرفة بعدما قام بفتح بابها له بمفتاح من ذهب طوله نصف متر مندوبا عن أسرة آل الشيبى التى يعود نسبها إلى عثمان بن طلحة والتى توارثت المفتاح، ومثل ذلك الوقت الذى لا يقدر بالعمر كله قضاه المهندس المصري داخل مقصورة رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم تحت القبة الخضراء ليقوم بتصميم حاجز ذهبى يمنع شطط انجذاب الأيدى من خارج المقصورة.. سألت مصمم أبهة توسعة الحرمين الشريفين: ألا تشغل الفخامة البالغة فى المسجد المصلى عن صلاته؟ أجابنى: لو شغلته لما كان قد صلى، هناك تقدير الحاج والمعتمر للمكان الذى لابد وأن يكون لا ككل مكان، ونحن فى البدء نضع فى حسابنا راحة المصلى الذى كان يؤدى الفريضة صيفا فى درجة حرارة تصل إلى ٦٥ درجة.. الآن يصلى فى التكييف.. الإسلام لا يعذب أحدًا.. ليست المسألة فى أن أقوم بواجبى الدينى أن أتعذب.. الإسلام دين سمح لا يبغى للناس العذاب، وإذا لم نمجد كعبة الإسلام ونبينا العظيم خاتم النبيين فمن نمجد؟! ولا ننسى أن الإسلام لم يمنع الزينة والتزين عند الذهاب للمسجد، بل لقد حثّ عليها.. «خذوا زينتكم عند كل مسجد».. التوسع الحضارى فى العمل العظيم قد شجع المسلمين من جميع بلاد الكون لأداء فريضة الحج والقيام بالعمرة.. التوسع والترميم والإضافات الجمالية والرونق البهى فتحت بيوتا للعمالة لا حد لها وأوصلت رزقا.. التوسع لم يخدم مكة المكرمة والمدينة المنورة فقط لكنه خدم المسلمين فى كل بقاع الأرض.. التوسع والجمال قوة للإسلام وأحد أهدافه.. وأنصت يومها وبمتعة بالغة فالحديث عن الكعبة لمهندس الحرمين الشريفين عندما روى لى بالتفصيل عن نوعية خشب سقف الكعبة المشرفة الذى كان ولابد أن تتوافر فيه مواصفات نادرة أهمها مقاوم الأحمال لأطول عمر افتراضى ممكن، وانخفاض درجة الانكماش لمعدل قريب من الانعدام، ومقاومة التغيير فى الأجواء شديدة الحرارة، ومقاومة الفطريات والرطوبة، وأن تطول الجذوع بما يزيد على عشرة أمتار، وبنفس درجة مقاومة الأحمال، مع قُطر لا يقل عن متر واحد بعد التهذيب والإعداد للاستخدام، وكانت تلك المواصفات لا يمكن الحصول عليها إلا بعد الاستعانة بالأبحاث الخشبية العالمية.. وبالاتصال الفعلى بمراكز فى أوروبا واستراليا ونيوزيلاندا، انتهى الاجتماع العلمي الدقيق على اختيار خشب «التيك» من بين جميع الأنواع التى تمت دراسة مواصفاتها، حيث إن خشب التيك المأخوذ من موطنه الطبيعى ـ وغير المزروع فى موطن آخر ـ معروف بمتانته وطول عمره، ويمكن الحصول على جذوع من أشجار ما يبلغ طولها عشرة أمتار، وهو طارد للحشرات ويمكن تجفيفه بسرعة وبأقل قدر من التفسخ، وعند دهانه بالزيت يُعطى لمعة وقورة للغاية، هذا وتقع الغابات التى ينبت فيها شجر التيك فى الهند وبورما، وقد تمت زيارة غابات «نيلمبور» بالهند و«رانجون» ببورما لفحص الأشجار الموجودة فيها، فوجدنا أن المتطلبات لسقف الكعبة المشرفة يمكن الحصول عليها بسهولة من غابات بورما وعليه فقد تم تعيين مندوبين للتنسيق مع شركات الأخشاب البورمية من خلال وزارة الغابات فى بورما، وذلك لاختيار الأشجار المناسبة من الغابات وشحنها للسعودية، وقد بلغ عدد الأشجار التى تم اختيارها ١٣٧ شجرة تم قطعها ونقلها، ثم انتقى منها ٤٩ قطعة لسقف الكعبة المشرفة والأعمدة.. وإذا ما كانت أخشاب سقف بيت اللـه من غابات بورما، فقد كان الرخام الذى أتى به المهندس كمال إسماعيل لأرضية الحرمين واسمه «التاسوس» من جبل صغير فى جزيرة تاتوس باليونان، ويتفرد عن غيره فى العالم أجمع بقدرته العالية فى التحمل والصمود وبامتصاصه للحرارة لتبقى برودته مستمرة حتى ولو بلغت الحرارة ٥٠ درجة مئوية لتخفيف المشاق على ضيوف الرحمن.

مسجدا السيدة فاطمة بعد التجديد
سيدتى الطاهرة.. السيدة نفيسة.. نفيسة الدارين.. بنت حسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسن بن الإمام على بن أبى طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، من جاءت من نسل قوم عظّمت السماء شأنهم، وأعلت الشريعة قدرهم، وخلّد القرآن ذكرهم، ونزل الوحى فى بيوتهم، وزارت الملائكة رحابهم، وجرت دماء النبى فى عروقهم، وقال عنهم الرسول الكريم لسيدنا على: «ادن منى يا على خُلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها أدخله اللـه الجنة»، ومن واحد من تلك الأغصان، غصن القرن الأول للـهجرة جاءت نفيسة إحدى أغصان رياحين القرن الثانى الهجرى.. السيدة التى جمعت إلى طهارة القلب شرف النسب، وإلى كثرة العلم نُبل الصفات، وإلى حفظ القرآن الفقه فى الدين والإلمام بأحكامه وتعاليمه والإحاطة بأسراره ومعانيه.. وجدتها.. عندما قدمت إلى مصر يوم السبت الموافق ٢٦ رمضان عام ١٩٣هـ كان بيتها ندوة قائمة يحج إليها فحول العلماء وأئمة الفقهاء وشيوخ الزهاد وصفوة العارفين أمثال الإمام عبداللـه بن الحكم صاحب الإمام مالك الذى نال رئاسة المالكية من بعده، والإمام عثمان بن سعيد المصرى، والشيخ أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصرى، وحدث ان انقطع بشر بن الحارث عن زيارتها وهو الحريص على مجلس علمها فلما سألت عنه وعلمت بمرضه ذهبت لتعوده فى داره، وهناك التقت بالإمام أحمد بن حنبل الذى سأل صاحب الدار عن شخصية السيدة، فلما علم بها أحسن تحيتها وطلب من بشر مستبشرًا أن يسألها الدعاء لهما فلم تُخيّب رجاءهما لتدعو قائلة: «اللـهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين».. وكانت الحريصة على أن تكون فى مجلس الإمام الشافعى تسمع رأيه فى الفقه واجتهاده فى فهم نصوص الدين، ولشدة ثقتها به طلبت منه أن يكون إمامًا لها يصلى بها الفرائض فأجابها، وكانت دارها بمثابة الجزيرة الآمنة له وسط بحر صاخب متلاطم الأمواج حتى كان من عادته أن يزورها فى طريقه إلى حلقات درسه فى مسجد الفسطاط وفى طريقه إلى داره، وعندما ثارت الضغينة ضده استجاب لها الحاكم فأنذر الشافعى بالخروج من البلاد فى ظرف ثلاثة أيام، ووقفت السيدة نفيسة إلى جانبه، وهنا تدخلت الأقدار حيث لم تمض هذه الثلاثة حتى مات الحاكم وبقى الشافعى إمامًا للبلاد، فهل كانت هذه إحدى كرامات السيدة أم كانت كرامة للإمام؟! وجاء ذِكر الشافعى بعد وفاته فى ٢٠٤هـ مجلس السيدة نفيسة لتمتدحه وتترحم عليه بقولها: رحم اللـه الشافعى فقد كان رجلا يُحسن الوضوء، وكان قد أوصى قبل وفاته بأن تصلى عليه، ومروا بجنازته على بيتها فصلت عليه مأمومة وإمامها أبويعقوب البويطى أحد أصحاب الإمام.
وجدتها.. فى الخامسة يحملها أبوها حسن الأنور حفيد الإمام على بن أبى طالب إلى الروضة الشريفة قائلا: يا رسول اللـه هذه ابنتى وأنا أحبها وراض عنها، فلتشملها منك النفحات، ويرى الأب النبي الكريم فى منامه يقول له: «إنى راض عن ابنتك برضائى عنها، والحق سبحانه راض عنها برضائى عنها، ويرى الأب الرسول صلى اللـه عليه وسلم مرة أخرى فى المنام بخصوصها يقول له: زوج نفيسة يا حسن من اسحاق المؤتمن»، وهو خيرة شباب الأسرة العلوية وكان أشبه الناس برسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم وهو بن محمد الباقر بن على بن زين العابدين بن الحسن بن على بن أبى طالب، وكان الأب يرفض جميع من تقدموا إليها من خُطّاب..
وجدتها.. تقدم إلى مصر برفقة زوجها وأبيها أثناء ولاية الحسن بن البحباح والى مصر من قِبل الرشيد الخليفة العباسى، وكانت شهرتها قد سبقتها ليخرج إليها الناس لاستقبالها على أبواب مصر عند العريش بأعداد لا تحصى لتحط الرحال عند كبير التجار جمال الدين عبداللـه الجصاص، ويطلب الزوج من الزوجة العودة للمدينة التى أصبح واليًا عليها فتستأذنه بالبقاء لرعاية أبيها المريض فيودعها شعرًا بقوله:
عدى السنين لغيبتى وتصبرى ودى الشهور فإنهن قصار
فتجيبه وقد خانها الصبر:
لا تنس حاجتنا إليك وضعفنا واذكر بناتك إنهن صغار
وفى غربة الأب تمرض الابنة أُم كلثوم وتموت، ومن بعدها شقيقها الصغير قاسم لتنعيه الأم الثكلى:
ألا تلك المسرة لا تدوم ولا يبقى على الدهر النعيم
وجدتها.. يستغيث بها المصريون من ظلم ابن طولون - كما ذكر القرمانى فى تاريخه، وصاحب الغرر، وصاحب المستطرف ـ فسألتهم عن موعد موكبه فقالوا فى الغد، فكتبت إليه رقعة ووقفت تعترض فى الغد طريقه، فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه وأخذ منها الرقعة التى جاء فيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هنا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لا سيما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا باللـه مستجيرون، واظلموا فإنا إلى اللـه متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون» وكما ذكر الإبشيهى صاحب «المستطرف» أن ابن طولون ما إن قرأ عريضة السيدة نفيسة حتى عدل لوقته عن ظلمه.... وينمو إلى علم أمير مصر السرى بن الحكم رغبتها فى الرحيل إلى المدينة فيركب إليها يسألها البقاء فتقول: لقد شغلني الناس عن عبادتى كما ضاق المكان بالجموع، فيهبها السرى دارا واسعة على أن تخصص يومى السبت والأربعاء للجموع وتتفرغ بقية الأيام للعبادة، وتقبل السيدة نفيسة التى حبب لها البقاء فى مصر بعدما رأت رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم يقول لها فى المنام: «لا ترحلى عن مصر فإن اللـه متوفيك فيها»، ويحضر الزوج إلى مصر مصرًا على دفنها فى البقيع فيرى الرسول صلى اللـه عليه وسلم فى المنام يبلغه بترك نفيسة للمصريين لتمكث بيننا على العين والرأس والتبجيل والإطار الجليل مقصدًا للدعاء وفك الكرب وقضاء الحاجة..
و..نصلى ونسلّم على آل البيت ونحب رسول اللـه لحب اللـه له، ونحب أهل بيته لحبه لهم: أحبوا اللـه ما يغذوكم به من نعمة وأحبونى بحب اللـه وأحبوا أهل بيتى».. وننشد مع الإمام الشافعى:
يـا آل رســول الـلـــه حـبكــمـو فرض من اللـه فى القرآن أنزله
يكفيكمو من عظيم الفخر أنكمو من لم يصل عليكم لا صلاة له
وينزل قوله تعالى: «إن اللـه وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما»، فيسأله صحابته: علمنا يا رسول اللـه كيف نسلّم عليك؟ وكيف نُصلى عليك؟ قال: قولوا: اللـهم صل على محمد وعلى آل محمد.. و..فى ختام المصحف الشريف سورة الشورى التى تدعو إلى إكرام النبى فى أهل بيته: «ذلك الذى يبشر اللـه عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فى القربى»، ويسألون: يا رسول اللـه من أقاربك الذين أُمِرْنا بمودتهم؟ فقال: هم علىّ وفاطمة وأبناؤهما الحسن والحسين، وثالث لم يقدر له أن يعيش وكان الرسول صلى اللـه عليه وسلم قد أسماه محسن وهو لم يزل جنينا فى بطن أمه، وأم كلثوم و.. زينب بنت على..

مسجد السيدة زينب بعد التجديد
السيدة التى ما أن يُقال لقبها «الست» حتى ينصرف الذهن لها وحدها.. السيدة زينب.. مدد يا أم هاشم.. نظرة يا أم العواجز.. شقيقة القمر بنت الإمام شمس الضحى وكريمة الدارين رئيسة الديوان راية النصر علم الإسلام أخت الشريفين بنت الأكرمين الأم الرءوم العقيلة صاحبة الشورى.. مدد يا بنت بنت النبى.. مدد يا ستنا زينب بنت سيدنا على بن أبى طالب وأخت سيدنا الحسن وسيدنا الحسين صاحبة أول ضريح لآل البيت فى مصر والتى كان من صيغ مناجاتها لربها: يا سميع الرجاء.. أنت الذى سجد له سواد الليل وضوء النهار وشعاع الشمس وحفيف الشجر ودوى الماء يا اللـه الذى لم يكن قبله قبل، ولا بعده بعد، ولا نهاية له ولا حد ولا كفء ولا نِد.. وعلى لسانها كان ينساب الشعر أبياتا حفظها الدهر:
وكـم للـه مــن لطـفى خـفـى يدق
خفاه عن فهم الذكى
وكم يسر أتى من بعد عُسر
ففرج كربه القلب الشجى
وكم أمـر تسـاء به صـباحـا
وتأتيـك المسـرة بالعـشى
إذا ضاقت بك الأحوال يومًا
فثق بالواحد الفرد العلى
توسـل بالنـبى فـكـل خـطـب
يهون إذا تُوسِّل بالنبى
ولا تجزع إذا ما ناب خطب
فكم للـه من لطفى خفى
عندما بلغت سن الزواج وقع اختيار والدها على عبداللـه بن جعفر أول مولود للمهاجرين فى الحبشة الذى أردفه الرسول صلى اللـه عليه وسلم خلفه على دابته ودعا له بخير قائلا: «اللـهم بارك له فى صفقة يمينه» فكان رمزًا للكرم حتي سُمىّ قطب السخاء، وقد أثمر الزواج عن أربعة أبناء «على ومحمد وعون وعباس»، ومن البنات «أم كلثوم وأم عبداللـه» الذين لم يكن لأحد منهم نسل إلا من على وأم كلثوم فأنجبوا الكثير ليعتبروا جميعا من الأشراف، وقد لقيت أم كلثوم ربها فى دمشق ليغدو قبرها هناك مزارا.
من ألقاب السيدة زينب صاحبة المقام بالقاهرة بنت الشهيد وأم الشهيد وأخت الشهيد، فبعد وفاة أمها فاطمة الزهراء استقبلت أباها الحبيب محمولا على الأعناق مصابا بطعنة مسمومة من سيف أحد الخوارج عبدالرحمن بن ملجم، لتثكل بعدها في شقيقها الحسن، وتحضر معركة كربلاء التى يستشهد فيها ولداها عون ومحمد، وبعدها يستشهد الحسين، ويساق موكب الأسرى والسبايا وفيهم على زين العابدين الذى أنقذته عمته زينب فكان كل من بقي من سلالة الشهيد الحسين الذين طافوا برأسه محمولا ومن خلفه رءوس السبعين من آله وصحبه.. ويخشى يزيد من وجود زينب بالمدينة أن تلهب الأجواء ضد بنى أمية فيأمر بتفريق آل البيت فى الأقطار والأمصار، وتختار زينب مصر لإقامتها لما علمته من صلاح أهلها وحبهم لرسول اللـه وآل بيته الكرام، وتدوم مدة إقامة السيدة زينب فى مصر عاما أو بعض عام لتنتقل سليلة النور والطهر إلى جوار ربها ليهرع الكل إلى مقام بنت بنت النبى لالتماس البركة.
ونظرًا لانتشار بعض الأسماء عند العرب مع ظهور الإسلام وإطلاقها على بنات وحفيدات الفروع تيمنًا بأسماء الجدات من أمهات المؤمنين، فقد يلتبس الأمر مع زيارة آل البيت فى مصر الذين أحصاهم العالم الجليل ومنارة الحديث الشيخ على جمعة مفتى الجمهورية السابق بأربعين فردًا وفى العالم ما بين ٢٥ إلى ٣٠ مليونا من الحسن والحسين أساسهم السيدة فاطمة الزهراء وسيدنا علىّ كرم اللـه وجهه - وحق قول الشيخ على جمعة فقد زرت فى قبرص ضريح إحدى سيدات آل البيت المحاط بقدر كبير من التبجيل والاهتمام - وعلي سبيل المثال فإن مسجد السيدة فاطمة النبوية بالدرب الأحمر لحفيدة السيدة فاطمة الزهراء آخر عنقود أكرم الخلق وخديجة خير نساء العالمين أم الحسن والحسين التى كان الرسول صلى اللـه عليه وسلم يقف على بابها هى وزوجها على بن أبى طالب كرم اللـه وجهه كل يوم عند صلاة الصبح حتى يأخذ بضلفتى الباب قائلا: «السلام عليكم أهل البيت، ثم ينبه ثلاثا بالصلاة مرددًا: إنما يُريد اللـه ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا».. وتفزع فاطمة هارعة باكية لأبيها من أن عليا زوجها يهم بالزواج من بنت هشام بن المغيرة، شاكية من بين زفرات دموعها: «يزعمون أنك لا تغضب لبناتك»، فتكون للدموع وقعها فيصعد نبي اللـه المنبر غاضبًا قائلا على الملأ: «ألا إن بنى هاشم بن المغيرة استأذنونى فى أن يزوجوا ابنتهم عليا، وإنى لا آذن.. ثم لا آذن.. ثم لا آذن.. إنما فاطمة منى يريبنى مارابها»، هذا إلى قوله عنها: «أحب أهلى إلىّ فاطمة» و«سيدة نساء الجنة فاطمة»، «فاطمة إن اللـه يغضب لغضبك»، «أنزلت آية التطهير فى خمسة: فىّ، وفى علىّ وحسن والحسين وفاطمة» و«أنت أول أهل بيتى لحوقًا بى» وكان صلى اللـه عليه وسلم القائل لها «فداك أبوك»، وما أسرع اللحاق بالأب النبى الكريم بعده بثلاثة أشهر فقط بعدما اغتسلت ثم لبست ثيابا جددا كانت قد جنبتها لحين قدوم ساعتها، ودعت أم رافع إليها قائلة: «اجعلى فراشى وسط البيت تجاه القبلة ولا تدخلن علىّ أحدًا ولا يكشفن لى أحد كفنا»، ثم أغمضت عينيها وذهبت للقاء ربها لتدفن فى البقيع.. تلك هى الجدة..
أما الحفيدة التى عشقها المصريون وأطلقواعليها لقب «أم اليتامى والمساكين» ومسجدها بالدرب الأحمر فهى فاطمة بنت الحسين بن على حفيد رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم وزوجة ابن حفيده الحسن وأم الحسن الثالث، ومولدها فى العقد الثالث من الهجرة، وقال عنها والدها الحسين إنها أشبه نساء آل البيت بجدتها السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول، وقيل إنها عاشت حتى بلغت الخامسة والتسعين، وكانت قد جاءت إلى مصر بين من جاء من آل البيت، وكانت الأقرب لعمتها السيدة زينب شقيقة الحسن والحسين بعدما ساقهم جنود يزيد بن معاوية إلى الشام عقب معركة كربلاء، وكانت فاطمة النبوية من رواة الحديث عن الرسول صلى اللـه عليه وسلم، وعن جدتها السيدة فاطمة، وفى مصر ظل منزلها مفتوحا لليتامى والفقراء، ويروى عن رعايتها الكاملة لسبع يتيمات دُفن فى ضريحها معها وكان لا يتعدى ٨٠ مترًا ليقوم الأمير كتخدا فى عصر المماليك ببناء مسجد لها، وفى عام ١٩١٤ قام الخديوى عباس حلمى بتطوير المسجد بعد تصدعه الشديد لتصبح مساحته ٢٢٠٠ متر ويتوالى التطوير في عام ٢٠٠٣ ثم يتم افتتاحه هذا الشهر ليغدو قبلة الميدان.
ومثل الاسم «عائشة» مع تشابه الأسماء فى آل البيت فالأولى والرائدة هى أم المؤمنين زوجة وحبيبة حبيب اللـه التى قال عنها: «حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى لا تنحل عروته، ولا تنفك عقدته» و«ما بين منبرى وبيت عائشة روضة من رياض الجنة» وهى التى روت عن الرسول صلى اللـه عليه وسلم ٢٢١٠ أحاديث نبوية أسهمت فى بناء صرح السُنَّة النبوية، وهى التى قال عنها النبى الكريم: «خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء».. و..عندما اشتدت الآلام على سيد الخلق فى بيت عائشة وأتاه ملك الموت ليُخيّره بين البقاء فى الدنيا أو اللحاق بالرفيق الأعلى هتف بل الرفيق الأعلى، لتقول أم المؤمنين عائشة رضى اللـه عنها: «ويُقبض رسول اللـه بين سحرى ونحرى، ومن سفهى وحداثة سنى أن وضعت رأسه على وسادة وقمت أصرخ مع النساء».. وترحل عائشة وقد تجاوزت السبعين فى رمضان من السنة الثامنة والخمسين للـهجرة ليُصلى عليها أبوهريرة فى البقيع..
أما مسجد السيدة عائشة فى مصر فيشير إلى عائشة بنت جعفر الصادق بن الإمام الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب وشقيقة الإمام موسى الكاظم ويعد مسجدها قبلة أحباب آل البيت فى مصر، ويقع فى حى الخليفة قرب ميدان القلعة وكانت صاحبته قد تربت فى الكوفة وعندما رفض والدها الخلافة بعد سقوط الدولة الأموية انتقلت للعيش فى مصر حتى توفيت فيها عام ١٤٥هـ، وعمرها ٢٢ عاما فقط لتسمى عروس آل البيت، وكان ضريحها حتى القرن السادس الهجرى مجرد حجرة صغيرة مربعة تعلوها قبة إلى حين أمر القائد صلاح الدين الأيوبى ببناء مدرسة ومسجد بجوار الضريح، ليقوم بعدها بتجديد البناء الأمير كتخدا عام ١١٧٦هـ ليُعاد بناء المسجد بعد انهياره فى عام ١٩٧١ عند إنشاء كوبرى السيدة عائشة، وفى مارس ٢٠٢٢ دخل ضمن خطة التطوير الحضارية ليغدو واجهة مشرقة لآل البيت.
ويمضى قطار التطوير والتجديد لمساجد آل البيت فى مصر مثل مساجد كل من السيدة رقية والسيدة سكينة والسيدة عاتكة اللاتى تحملنا صلاتنا عليهم لمركب النجاة مصداقًا لقول المصطفى صلى اللـه عليه وسلم: مثل أهل البيت مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».. وليس من هدية أبقى ولا أفضل من دعاء «فك الكرب» الذي تركته لنا نفيسة المصريين التى كانت تقرأ فيه الفاتحة، ثم سورة الإخلاص (١١ مرة) ثم القول بـسبحان اللـه (١١مرة) وبعدها تردّد قولها: كم حاربتنى شدة بجيشها فضاق صدرى من لُقاها وانزعج حتى إذا أيست زوالها جاءتني الألطاف تسعي بالفرج»..
لمزيد من مقالات سناء البيسى رابط دائم: