كلما أتيحت لى الفرصة للقيام بجولة فى أحد المزارات لواحد من الديانات الإبراهيمية الثلاث شعرت بروعة الفنون والنقوش والكتابات فى المساجد والكنائس والمعابد، وأستمع دائمًاإلى ترتيل سماوى للقرآن الكريم بصوت قيثارة الزمان الشيخ محمد رفعت أو ترانيم الكنائس مع الكورال ورنين صاجات الشمامسة مع صوت المرتل الأرثوذكسى المصرى إبراهيم عياد، وعندما زرت مسجد آيا صوفيا الذى انقلب تاريخيًا من كنيسة إلى مسجد وظل تحفة معمارية لا نظير لها إلى جانب ما أتاحته لى انطباعاتى المختلفة من زياراتى للمساجد الإسلامية أتذكر منها قدس الأقداس فى الحرمين الشريفين, خصوصًا وأن ظروف عملى الأسبق قد أتاحت لى ذات يوم أن أرافق الرئيس الراحل مبارك فى دخول الكعبة المشرفة عندما جرى فتحها للوفد المصرى مجاملة من العرش السعودى لرئيس مصر بعد عودة العلاقات العربية مع الكنانة من جديد عقب الملابسات التى ارتبطت باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وأدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر ومعظم الدول العربية لعقد كامل، كما أننى زرت الكاتدرائيات الكبرى فى أوروبا وأديت صلاة الجمعة فى مسجد موسكو الكبير الذى أقامه الزعيم الروسى بوتين ليكون تحفة معمارية رائعة تشييدًا وتنظيمًا، وأتاحت لى فرصة عملى فى الهند أن أزور المعابد الهندوسية وأن أرى أيضًا المعابد البوذية كما تطلعت ذات يوم فى بغداد للكاظمية والأعظمية متجاورين فى شموخ الإسلام الحنيف، وعندما كنت أستمع إلى صوت اللبنانى الراحل وديع الصافى بحنجرته الجبلية ونغماته الرائعة كنت أعلم أنه بدأ بالإنشاد الكنسى ودرس الفن بنغمات التراتيل المسيحية ومزج بينها وبين ألحان العصر وموسيقاه فتكونت لى عقيدة من كل تلك المشاهد أن الدين لله وأن الوطن للجميع، وأمنت بأن العلاقة بين الدين والفن علاقة مفتوحة لأن كليهما يحلق فى سماوات روحانية تسمو بصاحبها ليكتشف رسالة الفن ـ والموسيقى فى مقدمة أدواته ـ إنما هى نغمات إنسانية ونداءات روحية يشترك فيها البشر من كل جنس ولون وعقيدة، ولقد شاءت الظروف أن أرى الدلاى لاما واستمع إلى إيقاع الطبول التى تحيط بمجلسه وكيف أن الامتزاج الدائم والتآلف المستمر بين الدين والفن قد أوجد دائمًا بوتقة من الحب الخالص والإيمان العميق والصفاء النفسى الذى يرتفع فوق الخلافات والأحقاد، ولعلى أطرح أمام القارئ بعض الملاحظات فى ذات السياق:
أولًا: إن الفنون سمعية أو بصرية أو تشكيلية هى نغمات باقية فى أعماق النفس تشير دائمًا إلى حالات الصفاء والسمو والرقى داخل الإنسان، إن الفن هو أرقى درجات الطهارة الذاتية التى ترتفع بصاحبها إلى مدارج الخلاص الروحى الذى يطهر الأفئدة ويوقظ الوجدان ويحيى موات القلوب، إن بعض القراء مثل القارئ الفنان الفذ الشيخ مصطفى إسماعيل يحلق بى فى أجواء تفصلنى عن كل ما حولى وترتفع بى إلى أجواء السماحة تجاه الجميع، ولقد كان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يستلهم بعض جمله الموسيقية من قراءات الشيخ مصطفى إسماعيل رحمهما الله، وهل ننسى جولات الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الذى التف حوله البشر من مختلف الدول فى حالة وجد عاطفى وسمو روحى لأنهم يستمعون إلى صوت قادم من كنانة الله فى الأرض يتلو القرآن فتخشع القلوب أمام كلمات الله جل علاه حتى أطلق عليه الكثيرون فى بداية ظهوره اسم (عبدالباسط براندو) تشبيهًا له بفنان عالمى وتأكيدًا للعلاقة الوثيقة بين الدين والفن، إن الذى يستمع إلى صوت أم كلثوم فى رباعيات الخيام يشعر بحالة التجلى التى بلغتها كوكب الشرق وهى تشدو بأبيات صوفية لشاعر فارسى ترجمها شاعر الشباب الراحل أحمد رامي.
ثانيًا: إننى شخصيًا أميز بين أصوات مقرئى القرآن الكريم لكل الأجيال السابقة وبكل ألوان القراءة المتداولة وأفرق بين الشيوخ الطبلاوى، وأبو العينين شعيشع، وعبدالعظيم زاهر، ومنصور الشامى الدمنهورى، ومحمود على البنا، وغيرهم من رموز مملكة التلاوة كما كان يسميها الكاتب الراحل محمود السعدنى وهو الذى أطلق وصف قيثارة السماء على الصوت الملائكى الفريد للشيخ محمد رفعت، ولا شك أن فى ذاكرتى لكل صاحب ديانة صوتا يشد أتباعه فى كل وطن مهما بعدت المسافات وتباعدت الأصوات بحيث يمثل عروة وثقى فى لحظات الطرح الروحى والنقاء الصوفي.
ثالثًا: لا يتوهم أحد بأن هناك تعارضًا بين الدين والفن بل إن الفنون تكون أحيانًا أحد مصادر تثبيت الإيمان وزرع اليقين، وليتذكر المسلمون أن نبينا الكريم قد أختبر الأصوات حتى وصل إلى بلال بن رباح ليكون مؤذن الإسلام الأول وفى ذلك تأكيد للعلاقة الطيبة بين الدين والفن، وعلى أولئك المتشددين ممن يخاصمون الفنون أن يدركوا بأن الحقيقة غير ذلك وأن الإيمان ينبع من القلب ويستقر فى الأعماق مستعينًا أحيانًا ببعض الأنغام أو الألحان أو التراتيل التى تترسب فى وجدان أصحابها، إن الفن أحد أدوات التثبيت الروحى خصوصًا وأن الفنون كلها تجمع ولا تفرق توحد ولا تقسم تجمع البشر على صراط مستقيم، ويكفى أن نتذكر هنا أن الموسيقى هى اللغة العالمية الأولى والوحيدة التى يتذوقها الجميع رغم اختلاف اللغات والديانات والمعتقدات. تحية للفنون المعاصرة فى خدمة الأديان والإنسان فى كل زمان ومكان!.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: