رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الحوار الوطنى والمسكوت عنه

تجدد الأمم شبابها وتعيد الأنظمة مراجعة طريقها وتستلهم من الماضى والحاضر شحنة قوية تنطلق بها، هذا هو تفسيرى للدعوة التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسى للأسرة المصرية فى رمضان 2022، وهى دعوة كثر حولها الحديث وتعددت الآراء وتداخلت الرؤى وفى ظنى أن ذلك كله حراك وطنى كنّا بحاجة ماسة إليه، ولكنى فى الوقت ذاته أريد لهذا الحوار أن يكون مختلفًا عن حوارات سبقت فى ظل النظم التى رحلت من قبل، أريد لهذا الحوار أن يكون بناءً وغير تقليدى، أريد له ألا يكرر المشاهد الماضية بمؤتمرات تنتهى بإعلان حالة الرضا والحديث المسهب عن اكتشاف حلولٍ لكل المشكلات ولنعلن أيضًا أننا قد تخلصنا من كل نقاط الضعف لدينا، وأصبحنا دولة منيعة غير قابلة لغزو الفيروسات الفكرية أو الميكروبات السياسية، بينما تظل هى باقية فى عظامنا تنخر فى أجسادنا عامًا بعد عام ونحن على سرر التخدير ننام كما قال الشاعر الفيلسوف أحمد فؤاد نجم، وفى رأيى أن وجود الرئيس السيسى على قمة السلطة بإيقاعه السريع وقدرته على اقتحام المشكلات ومواجهة المعضلات هى فرصة لنا لكى نخرج من الأغلب الأعم لأمراضٍ توطنت لدينا وتمركزت فى مفاصل الدولة المصرية متراكمة عبر السنين، إننى لا أريد للحوار أن يبدأ من التفاصيل ليصل إلى الكليات، بل أريد له أن يبدأ من الكليات لينتهى بالتفاصيل، إذ إن الإمساك بتلابيب أية إشكالية إنما ينجح من خلال الوعى بتفاصيلها وتقليب جوانبها وتفسير التداخلات فيها لذلك فإننى أطرح اليوم بعض القضايا التى لا نعطيها حقها من الدراسة والاهتمام رغم أنها حاكمة فى حياتنا حاضرة فى الحالة المصرية على نحوٍ ملموس، دعنى أطرح فى إيجاز بعض النماذج التى تشير إلى ما نقول:

أولاً: إن العلاقة بين الحكم والشعب، بين السلطة والجماهير، قاصرة حاليًا على أحاديث الرئيس وحواراته وهى ظاهرة صحية لم نشهد لها مثل هذا الزخم من قبل، ولكننا نرى أن هذه ليست مسئولية الرئيس وحده بل هو دائمًا آخر المتحدثين لأنه صاحب القرار النهائى بحكم مسئوليته الدستورية، أما من يجب أن يتحملوا العبء الأكبر من مسئولية الحوار فهم من يحتلون المواقع التنفيذية ويرتبطون بمصالح الناس خصوصًا فى المحليات التى كانت ولا تزال مصدر صداعٍ دائم وتجسد عبئًا لا يقدر على تحمله الكثيرون، حتى إن الهروب من وظيفة المحافظ أصبح أمرًا مألوفًا فى أدبيات الحكم المحلى!

ثانيًا: إننى ممن يعترفون بفضل القوات المسلحة على الوطن فى أحقاب التاريخ المتتالية لا على المستوى العسكرى وحده ولكن أيضًا من الزاويتين الاقتصادية والاجتماعية، فقد ارتبط نهوض القرية المصرية فى مصر الحديثة بالتجنيد الإجبارى أو ما نسميه خدمة العلم، والريف المصرى خصوصًا فى المحافظات المكتظة بالسكان يرتبط بالقوات المسلحة ارتباطًا وثيقًا حتى ردد شباب محافظة المنوفية (شريط على كمى ولا فدان عند أمي)، ويجب أن نعترف أيضًا أن حركة التنوير فى مصر الحديثة كلها قد انطلقت من بناء الجيش المصرى الذى كان محور النهضة وأحد أسباب التماسك الاجتماعى والشموخ الوطنى، لذلك فإننى أظن أن الحوار يجب أن يتطرق لتلك العلاقة العضوية الوثيقة بين الشعب المصرى وجيشه الباسل، حتى لا يتوهم البعض أن دور القوات المسلحة فى الحياة المصرية أمر جديد أو ظاهرة طارئة فهى أعمق وأقدم من ذلك بكثير.

ثالثًا: إن مدنية الدولة المصرية غاية سامية يتعين المحافظة عليها والتمسك بها، وتعبير مدنية هنا يحمل معنى مزدوجًا فهى ليست مدنية بالمعنى النقيض للدولة البوليسية ولكنها مدنية بالمعنى الذى يفك الاشتباك تمامًا بين الدين والسياسة ويجعلها خالصةً لمقتضيات الحال وحاجات الناس وسيادة القانون الذى يضع الحدود بين ما يجب أن تكون عليه الأمور وما لايجب أن تؤول إليه الأحوال إن مصر دولة مدنية حتى عندما كانت تحت سطوة الحاكم الإله قبل أن تشرق على أرضها الطيبة شمس التوحيد فى ظل إخناتون العظيم، لقد توافدت عليها الرسالات السماوية بعد ذلك وتعاقبت فوق أرضها الفلسفات الروحية والنزعات ذات الطابع الإنسانى المستقر فى ضمير الشعب المصرى، إنها مصر الحضارة والثقافة والنهضة والبناء.

رابعًا: إننى لا أجد حرجًا فى أن أقول إن رئيس الدولة حاليًا قد امتلك الشجاعة فى كثير من المناسبات ليكشف الحقائق ويشير بنزاهة عن المسكوت عنه، ولكنه لا يستطيع وحده أن يترصد كل الخطايا ويتعقب كل المخالفات، فالشعب المصرى لديه ميراث تاريخى من العناد تجاه السلطة الحاكمة، ولكننى أزعم أنه فى العقد الأخير قد استجاب لمقتضيات التغيير وقبل بتضحياتٍ لم يكن على استعداد أن يقبلها من قبل، لأنه أدرك أن ذلك هو الطريق الأوحد للخروج من عنق الزجاجة كما يقولون، حتى تصبح مصر دولة عصرية بالمعنى الصحيح الذى يربط بين الديمقراطية والتنمية ويعلى من قدر الإنسان المصرى بعد عصور الهوان والجفاف الإنسانى التى عرفها هذا الشعب العظيم.

.. إننى أريد لهذا الحوار الوطنى الذى يؤسس للجمهورية الجديدة أن يكون حوارًا كاشفًا ومنشئًا فى نفس الوقت بحيث يسمح لنا بعبورٍ إنسانى حقيقى نحو مستقبلٍ تطلع إليه المصريون طويلاً، وآن الوقت لحسم ذلك الانتظار بالعمل والأمل حتى تصبح مصر بحق كنانة الله فى الأرض.


لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى

رابط دائم: