رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التضحيات متواصلة

عندما قرأت عن المعركة الملحمية بين قوات شرطة الإسماعيلية وقوات الاحتلال البريطانى فى 25 يناير 1952 وجدت أن أهم ما يميزها كان التلاحم بين الشرطة والشعب، فقد أصرت قوات الاحتلال على إخلاء قوات الشرطة مبنى محافظة الإسماعيلية بعد أن تيقنوا أن قوات الشرطة تدعم نشاط الفدائيين لطرد قوات الاحتلال من معسكراتها حول قناة السويس، وأن رجال الشرطة كانوا يمدون الفدائيين بالمعلومات والسلاح، ولهذا تحركت قوات الاحتلال لإخلاء منطقة القناة من قوات الشرطة المصرية، وفرضت الحصار بالمدرعات والمدفعية و7 آلاف جندى وضابط بريطاني، بينما كانت قوات شرطة الإسماعيلية تتألف من 850 جنديا وضابطا فقط، بتسليح بسيط، وذخيرة قليلة، ومع ذلك كان الإصرار والعزيمة على القتال حتى آخر طلقة، ومع سقوط 50 شهيدا وعشرات الجرحى، انطلقت المظاهرات من أهالى الإسماعيلية، ليصل صداها إلى القاهرة، التى خرجت لتهتف لرجال الشرطة البواسل وسقوط الاحتلال.

وتدافع آلاف الشبان للتطوع فى العمل الفدائي، لتلتهب منطقة القناة بعمليات المقاومة، وكان لهذه المعركة أثرها الكبير فى إشعال جذوة النضال الوطنى فى كل مكان فى مصر، وهيأت لقيام الثورة المصرية على أيدى الضباط الأحرار، لتتحرر مصر من الاحتلال، فكانت ملحمة معركة الشرطة حلقة رئيسية ضمن حلقات النضال الوطني، التى تتشابك وتتكامل بين الشعب والجيش والشرطة، وكان لهذا التلاحم العضوى نتائجه وثماره السريعة، التى انتهت بطرد الاحتلال.

ولا يمكن الفصل بين العمل الفدائى الشعبي، وبطولة الشرطة وحركة الضباط الأحرار، فجميعها كانت تتجه نحو هدف واحد وهو حرية واستقلال مصر، وأى محاولة لفصل هذه الحلقات الرئيسية عن بعضها، فإنما يقوض جسد الأمة وبنيانها، وكل أسرة مصرية كان لها نصيب ودور، إما عبر أبنائها فى الجيش والشرطة أو فى أى دور وطنى آخر، فالجميع صهروا فى بوتقة الوطنية، ومثلما أخرجوا قوات الاحتلال، دافعوا ضد العدوان الثلاثى علم 1956، بعد تأميم قناة السويس، بنفس روح الفداء والانتماء، والتى أجبرت جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب رغم ضخامة قواتها وأسلحتها الأكثر تطورا فى العالم، لكنها اصطدمت بإرادة قوية وموحدة للشعب المصرى وجيشه وشرطته.

كان أول تعرفى على حياة رجال الشرطة عندما كنت فى الصف السادس الابتدائي، وتقدم شقيقى إلى كلية الشرطة، وكنا نظن أنه لن يتم قبوله، لأنه تقدم دون وساطة، لكننا فوجئنا بأنه مقبول لتميزه، وكانت سعادتنا لا توصف، فهو الشقيق التالى لشقيقى الأكبر، وبعد قبوله وانخراطه فى الدراسة والتدريبات لمست تغيرا كبيرا فى حياته، بل فى أسرتنا كلها، وكنت أغبطه فى البداية على أناقته بزىّ طلبة الشرطة، وأطير فرحا عند نزوله فى إجازة قصيرة، وأجده يسير بخطوات رياضية منضبطة، ويصحو مبكرا قبلنا جميعا، يؤدى التمارين الرياضية الخفيفة، ويساعد فى تحضير الإفطار قبل أن نصحو، لكنى لاحظت أنه لم يعد يجلس فى المقاهي، ولا يشاركنا اللهو، وأدركت أنه يحافظ على هيبة زى الشرطة وسمعتها.


وهذه كانت الضريبة الأولى، تلاها ما هو أكبر وأهم، فبعد تخرجه كان يشارك فى عمليات خطيرة على حياته، وكانت أمى شديدة القلق عليه، وتغدق عليه بكثير من الدعوات، ورغم أنه كان يتكتم على مهامه، إلا أن بعضها كان يصل إلى مسامعنا، فعرفنا الجانب الآخر لحياة رجل الشرطة، فهو يعمل فى معظم الإجازات، وأحيانا يقطع إجازته فجأة عندما تصله الأوامر بالحضور للمشاركة فى مهمة طارئة، وعندما أقدم على الزواج كان يتحدث عن الضريبة التى ستدفعها زوجة الضابط، فتحولت مشاعرى إلى مزيج من الفخر والقلق والحب والتقدير، الذى امتد إلى كل من يعملون فى الشرطة، والذين لا ينامون فى أيام كثيرة، لننعم بالهدوء والسكينة والاستقرار، الذى لا نعرف قيمته، ولا الجهد المبذول من جانب جنود وضباط مجهولين حتى تكون بلدنا آمنة، سواء من المجرمين، أو من الحوادث المفاجئة التى نجد الشرطة أول من يُهرع إليها.

لقد كان العام الماضى من أكثر الأعوام استقرارا وهدوءا وأمنا، وتراجعت فيه العمليات الإرهابية، التى كانت تنطلق من الشرق والغرب والجنوب، وتضرب فى كل مكان، وكانت سيناء وحدودنا الغربية مع ليبيا الأكثر خطورة، وقد لا يدرك كثيرون حجم الجهد والمشقة التى بذلها رجال الشرطة مع الجيش لكى يتحقق لنا هذا الأمان، ولايعرفون حجم العمليات الاستباقية، وعمليات الرصد والدوريات، وقد أدت تلك الجهود المضنية فى البحث والتحرى والتأمين إلى خفض كبير فى عدد الجرائم خلال العام الماضي.

والأمر لا يقتصر على الإرهاب فقط، بل كانت مكافحة جرائم تهريب المخدرات بأنواعها المختلفة قد حمت شبابنا من عمليات إغراق بهذه الآفة المرعبة، والتى كانت تصل إلى حد تعاطى صبية وأطفال مخدرات يوزعها تجار السموم فى كل مكان، وأمام المدارس والجامعات، ويسابق رجال الشرطة الجرائم المستجدة، والأدوات الجديدة، ولهذا نجد رجال الشرطة يواصلون التعليم والتدريب طوال حياتهم المهنية، لأن الجرائم تتطور بسرعة، وتستفيد من التكنولوجيا، وعلى رجال الشرطة متابعة كل جديد، لهذا اعتنت الوزارة بتطوير التقنيات فى كل مجالات البحث والأرشيف الرقمى والمعلوماتية والإدارة والربط بين الأفرع المختلفة، وأصبحت الشرطة إحدى روافع التحديث التقنى والإداري، ولها دورها المهم فى التنمية الشاملة وتحديث الدولة، كما أن الجهود الضخمة فى تنمية وتطوير أجهزة الدولة، والقضاء على العشوائيات قد أسهمت فى تسهيل المهام الأمنية، وإشاعة أجواء من الاستقرار، حيث كانت العشوائيات بمثابة حاضنة للمجرمين، يسهل فيها الاختفاء وتصعب فيها المطاردة والمراقبة، وهكذا تتكامل مشروعات التنمية الشاملة وتتشابك لتوفر لنا حياة هادئة ومستقرة، ومعدلات نمو تزداد يوما بعد يوم، بفضل الترابط بين كل فئات الشعب، وهذا الترابط مازلنا بحاجة إليه، فالتحديات مازالت تحيط بنا، ومناطق كثيرة فى العالم تعانى من الحروب والإرهاب والجريمة، وأصبح العالم مثل القرية الصغيرة التى يسهل التنقل والتواصل بينها.

ولهذا فما ننعم به من أمن واستقرار وتنمية علينا أن نحافظ عليه ونقوى الروابط بين فئات المجتمع المصري، حتى نمنع تسلل صناع الفتن والإرهاب والجريمة، وأن نقدر ما يفعله من أجلنا رجال الشرطة، وما يبذلونه من تضحيات، والتى لا يكفيها تكريم فى عيد أو مناسبة، وإنما يستحقون كل تقدير فى كل الأوقات.


لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت

رابط دائم: