كانت المرة الأولي التي أسمع بها عن الفيمتو ثانية من صاحب نوبل الدكتور أحمد زويل عندما كان يشرح في واحدة من محاضراته نظرياته العلمية عن التفاعل داخل الخلية البشرية. لا أدعي ساعتها، ولا أعتقد الآن، أنني فهمت النظرية التي كان يتحدث عنها، وإنما بات مستقرا في الوعي أنها وحدة قياس زمنية بالغة الدقة وغارقة في الصغر حتي إنه لا يمكن رؤيتها بأي وسيلة, لأن الرؤية تعني أن فوتونا من الضوء قد أطل عليها، وفي هذه الحالة فإنه سوف يكون أشبه بكرة البلياردو التي تصطدم بكرة أخري فتزيحها من مكانها، فتختفي، أو لا تصير موجودة. كان سعي العالم المصري أن يحصل على الزمن من التأثير حتي ولو كان في مرحلة من مراحل التلاشي. ما يهمنا أن ما قدمه كان انتصارا كبيرا للعلم الذي من أهم تجلياته القدرة على القياس، وسواء كان ذلك للمكان أو المسافة أو الجغرافيا ممثلة من الميلليمتر إلي الكيلومترات والأميال، أو للزمن ممثلا في التاريخ والسنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة والثانية وكسورها حتي الميكرون، والفيمتو ثانية. حضر كل ذلك إلي الذهن عندما قام سعادة اللواء عاطف مفتاح المشرف العام علي المتحف المصري الكبير والمنطقة المحيطة به، بالإشارة إليها في معرض الحديث عن كواليس عملية نقل مركب الملك خوفو. وكما قال فإن العديد من مراكز الدراسات المعنية بالمصريات حذرت بشدة من عملية نقله. وكيف لا وهو أقدم أثر عضوي على مستوي العالم منذ ٤٦٠٠ عام، ولذا فإنه عند تنفيذ العملية: (كنا نعد أنفسنا بالفيمتو ثانية). كان لاستعارة هذه الوحدة الزمنية في الحديث دلالات كبيرة لأنها تعني أولا قدرا كبيرا من العلم، وثانيا إدراكا هائلا لمدي الخطورة التي يمكن أن يتعرض لها كيان عضوي مصنوع من الخشب.
الموضوع أعاد إلى الذهن قصة جرت في عام ١٩٨٧ عندما كنت زميلا باحثا في مؤسسة بروكينجز الأمريكية، والتقيت في واشنطن أحد العاملين في الهيئة العامة للآثار وقتها، وحكي لي عن التعاون المصري الأمريكي والمتعلق بالتعامل مع أحد الاكتشافات الحديثة من مراكب الشمس. كان التصور وقتها هو أنه في داخل هذه الخبيئة هواء يوجد منذ آلاف السنين ومن ثم وجب الحصول عليه وتحليله لكي يحكي لنا واحدة من قصص الأرض الفريدة. كان الفتح سوف يعني دخول الهواء واختلاطه، ومن ثم كان لابد من وجود كاميرا خاصة تسمح بالدخول والتصوير دون التأثير سلبيا على الأثر من هواء أو ضوء وتنقل لنا الواقع دون مساس به، وكانت هذه هي المشاركة الأمريكية الرئيسية في المشروع. فيما بعد سألت عما حدث بعد عودتي إلى القاهرة، حيث ثبت أن الأثر لم يكن معزولا لا عن الهواء ولا حتي عن الكثير من الحشرات التي تلازم هذا النوع من الآثار. وبعد أكثر من ثلاثة عقود فإن مراكب الشمس هذه ذاتها كان لابد من نقلها إلى المتحف الكبير لكي تجعل مشاهدة الأهرامات كاملة دون عوائق بصرية؛ ومن ناحية أخري التأكد من أنها سوف تتعرض للأجواء المثالية من حيث الضوء والحرارة والرطوبة داخل المتحف المصري الكبير.
لم يكن ما وصفه اللواء عاطف مفتاح بأن الإعداد كان دقيقا إلى درجة الفيمتو ثانية مبالغا فيه؛ لأن نجاح عملية النقل كان مستحيلا إذا كان هناك لأي سبب أقل من ذلك دقة وتقديرا لجميع الأمور المتعلقة بالانتقال، حتي إنه كان ضروريا تصنيع ما هو لازم لكي تكون رحلة الأثر في ظروف مثالية من حيث الاحتواء للمادة العضوية الهشة، وحمايتها من الهزات التي تحتمها عملية الانتقال. لقد تم الأمر بنجاح ومنه نعرف أننا لدينا لكل مشكلة عملية حل أو حلول، ومنه أيضا نعلم أن هناك في العالم من يقومون علميا وتكنولوجيا من يستطيعون التعامل مع هذه القضايا بالغة الدقة، وأكثر من ذلك أننا نكتشف بيننا هنا في مصر من يعرف كل ذلك ويعرف كيف يمكن الوصول إليه. وهذه لم تكن التجربة الأولي، ولو عادت بنا الذاكرة قليلا لاستعدنا ما حدث من نقل المومياوات الملكية في موكب ذهبي، وكان النقل ساعتها إلى متحف آخر، متحف الحضارات المصرية بالفسطاط. كلا التجربتين توحي بتراكم وجود مدرسة مصرية في التفكير والتخطيط والعمل، بل وأيضا اتخاذ القرار الذي يبدأ من العاملين بالآثار، والمتاحف، والمتواصلين مع العالم، والوزير المختص، حتى نصل إلي رئيس الجمهورية.
درسان نخرج بهما مما تم من عمل لنقل مركب الشمس بنجاح وما أضيف به إلى ما سبق من علم ومعرفة وتنظيم. أولهما أننا إزاء بداية ليس فقط في علم المصريات، وإنما في العلوم الأثرية بوجه عام، هو وجه فريد للتقدم في مصر استفاد من العالم كثيرا، وهو الآن من الممكن أن يضيف إليه. وثانيهما أن التقدم يشع من هذه العمليات الأثرية والتي سوف تزداد غني مع افتتاح المتحف الكبير؛ ففي الأول والآخر فإن البحث الدقيق، الفيمتو ثانية، في عالم الآثار والمومياوات والتركيبات العضوية البالغة القدم، هو في حقيقته درس كبير لجميع العاملين في مصر. لقد اعتدنا كثيرا أن يكون التقدم في شكل إضافة، سواء في الإنتاج، أو التصدير، أو حتى في التأليف ما بين التطورات الكبرى في الخارج، والواقع في مصر. الآن فإننا نضيف أمرا آخر وهو القدرة على التنظيم والاختبار والمحاكاة والتنفيذ خطوة بعد أخري حتى يتم تحقيق الهدف. إذا لم يكن ذلك هو التقدم فماذا يكون، وإذا حدث هذا في مواكب الفراعنة الأقدمين، فلماذا لا نتوقعه وبحماس في موكب الفراعنة المحدثين؟!
لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد رابط دائم: