لا أدرى أين أضع الأستاذ محمد حسنين هيكل بين مدارس الإبداع أمام التنوع الشديد فى حياته وكتاباته ومواقفه .. لا توجد مساحة محددة فى تجربة هيكل، صحفيا وكاتبا وسياسيا ومبدعا كان هيكل كل هؤلاء .. وقد تجسدت أزمتى مع هيكل فى عدة جوانب أدركها جيدا..
> إننى بدأت مشوارى فى مؤسسة الأهرام وكان هيكل رئيسها وصاحب القرار فيها ولم أغير موقعى وانتمائى للأهرام حتى بعد أن رحل عنه، زادت علاقتنا ارتباطا وامتدت أكثر من خمسين عاما، حملت كل جوانب التقدير والحب والمودة .. كانت علاقتى بالأستاذ احد الثوابت فى رحلتى مع صاحبة الجلالة واعترف بعد هذا العمر أن هيكل الكاتب والمفكر كان مصدر انبهارى منذ التقينا لأول مرة فى صيف عام 1968 وظلت علاقتنا حتى رحيله .. وقع جيلنا فى حالة إعجاب وانبهار أحيانا بهيكل البريق واللغة والتميز وإن كان البعض قد أفلت من هذا التأثير إلا أن أقلاما كثيرة لكتاب موهوبين دارت فى فلك الكاتب الكبير..
> إن هناك مجموعة عناصر تشكلت منها تجربة هيكل إنه كان طموحا إلى ابعد الحدود وتعب كثيرا فى بناء نفسه وشخصيته وعلاقاته وكان يرى أنه الأجدر والأحق أن يكون كاتب العربية الأوحد وقد اهتم كثيرا بثقافته وكان مختلفا عن الكثيرين من كُتاب سبقوه .. كانت ثقافة هيكل: أهم عناصر تكوينه الإنسانى والفكرى والمهنى ومن الخطأ أن يتصور البعض أن البناء الفكرى ضربة حظ لأن الحظ لا يعرف الكسالى والأدعياء .. إن هيكل وقد امتدت به سنوات العمر ظل قارئاً باحثاً متابعاً كأنه شاب يشق طريقه فى بلاط صاحبة الجلالة..
> إن هيكل كان يرى نفسه كبيراً، البعض كان يتصور إنه التعالى والغرور ولكن هيكل اختار الصدارة ولم يرجع عنها حتى لقى ربه، ولا يمكن أن نلوم هيكل على ترفعه لأنه أدرك من البداية حجم موهبته وقدراته وأنه غير الآخرين .. ظهر هيكل فى قلب منظومة من نجوم صاحبة الجلالة ،التابعى وكامل الشناوى ومصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور ولكنه تفرد عنهم بأنه كان صحفيا من طراز رفيع ولم يترك مجالا فى الصحافة لم يعمل فيه ابتداء بالحوادث وانتهاء بالسياسة..
> كان هيكل صاحب جملة فريدة، لم يقلد أحدا ولم يشبهه أحد، كان يذكرنى بأم كلثوم، إنها نسخة واحدة لا تقبل التكرار.. واستطاع أن يمزج الخبر بالتحليل وأن يقدم شكلا جديدا للمقال لم يسبقه أحد إليه، كانت رشاقة الكلمة من أهم الجوانب التى يحرص عليها .. وكثيرا ما اقترب من حدائق الشعر وأخذ منها بعض الثمار، كان عاشقا للشعر وإن كتبه فى شبابه وكان يحفظ عشرات القصائد من شعر شوقي، قلت له يوما كان من الممكن أن تكون روائيا كبيرا وأذكر أن الناقد الكبير رجاء النقاش كان يؤيد هذا الرأى وكتبه فى احد مقالاته..
> أعود إلى أهم واخطر الجوانب التى أثرت فى تجربة هيكل وهى علاقته التاريخية بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر، البعض يرى أن كليهما استفاد من الآخر وأن كليهما يخسر الكثير بدون الآخر، وللإنصاف فإن هيكل كان صحفيا مرموقا وكانت له سلسلة من العلاقات مع رموز مصر من رؤساء الوزارات وكان يتمتع بعلاقات مميزة مع قادة الأحزاب .. على الجانب الأخر فإن جمال عبدالناصر كان فى حاجة إلى فكر يتسم بالحكمة فى بداية الثورة بما فى ذلك الصراعات بين رجالها وكان هيكل طرفا فى هذه الصراعات، ومازلنا نذكر معركته مع على صبرى وصلاح نصر وحتى محمد نجيب رغم صداقة قديمة جمعت بينهما .. إن الشيء المؤكد أن هيكل استفاد من المرحلة وليس الشخص أو الزعيم وأن هيكل كان يستطيع أن يحقق نفس المكانة مع أى قوى سياسية أخرى حتى رموز ما قبل الثورة .. إن الشيء المؤكد أن هيكل حقق بعض نجوميته من خلال أضواء المرحلة وما شهدته من أحداث كبرى كان هيكل أول المتحمسين لها والمدافعين عنها حتى لو كان عبدالناصر صاحب القرار فيها، كان من الصعب أن يفلت بريق اللحظة من كاتب فى موهبة هيكل وطموحه، وكان من الممكن أن يلعب هيكل نفس الدور لأنه يرضى طموحه ومواهبه.. كان هيكل فى هذا الظرف التاريخى يصنع أسطورته التى عاش عليها ونحن اليوم نحتفل بمرور مائة عام على ميلاده .. إن هيكل لم يكن مجرد مساعد فى بناء مملكة عبدالناصر ولكنه بنى مملكته وكانت اللحظة التاريخية تفتح كل الأبواب ليس أمام عبدالناصر ولكن أمام هيكل أيضا .. لم يكن غريبا أن يصر هيكل على تأكيد علاقته بعبدالناصر بعد رحيله وكان يمكن أن يتخلص من هذا العبء التاريخى ولكنه تمسك به حرصا على نفسه ودوره وتاريخه، وهذا يؤكد أن هيكل لم يحب أحدا كما أحب نفسه..
> كان دور هيكل فى الكشف عن إنجازات عبدالناصر أمام العالم وتوضيح الكثير من الحقائق وكان صاحب القرار فى ترتيب اللقاءات مع الصحفيين الأجانب، خاصة أن ظهور عبدالناصر إعلاميا كان نادرا وهيكل كتب خطب عبدالناصر وكتب الميثاق وبيان ٣٠ مارس.. ولا شك فى أن هيكل كان صاحب قدرات خاصة حتى إنه جمع بين الأهرام ووزارة الإعلام، لم يكن فى مصر فى هذا الوقت من يستطيع أن يقوم بهذه المسئوليات غير هيكل..
> إن هيكل فى مشواره قد استعان بكل ما يمنحه البريق والسطوة بما فى ذلك السلطة وإن اختار منها ما يزيده بريقاً، لأن مشروع هيكل الحقيقى أن يبقى محمد حسنين هيكل، وقد قدرت كثيرا ذكاء الرجل، لأنه حدد هدفه وطموحه واستخدم كل تجارب عمره حتى وصل إليه .. ومن هنا فليس صحيحا أن جمال عبدالناصر صنع هيكل، لأن هيكل من البداية يعرف هدفه وأقام مملكته كما أحب..
> إن هيكل الغائب الحاضر فد ترك فراغا فى أكثر من مجال، إننا نفتقد الآن حكمة هيكل فى قضايا كثيرة فى العلاقات، الدولية وصراع القوى وما يعانيه العالم العربى من مظاهر الفوضى والتفكك وأحوال مصر وهموم شعبها والصراعات الوهمية فى الفكر والسلوك كان وجود هيكل بيننا يمثل حصنا أمام عواصف كثيرة وكان صوتا من أصوات الحكمة كلما اختلت موازين الأشياء..
> أعود إلى هيكل الأستاذ والكاتب والصديق، رغم الفارق فى سنوات العمر بيننا إلا أننا التقينا فى أشياء كثيرة، كنت دائما اخشى أن اسقط مثل غيرى فى إبهار هيكل وأسلوبه الآسر ولكن الشعر حررنى وكنت اخشى أن أحب السلطة كما أحبها ولكننى عملت بنصيحة أبي: ثلاثة لا أمان لهم، أولها «السلطان ولو قرب منك».. وكان أجمل ما بيننا صداقة تجردت من كل الأشياء فلم يعد هيكل صاحب سلطان وعاش فى مؤسسته التى أنشأها فى بيته بعد أن ترك الأهرام، ولم يعد محاطا بصخب المنصب وضجيج الحواريين، وأصبح هيكل إنسانا عاديا نقرأ الشعر ونتبادل الآراء ونختلف أحيانا .. وكثيرا ما كنا نلتقى فى بيته الريفى فى برقاش أو نلتقى على شواطئ الساحل الشمالى وحين دخلت المستشفى بسبب مقال كان أول من زارنى وفوجئت به يوما يزورنى فى الساحل الشمالى مع الصديق الراحل عبدالسلام المحجوب ويومها تحدثنا فى أشياء كثيرة ربما يأتى وقتها، أفتقد الأستاذ هيكل آخر أصدقاء الزمن الجميل..
..ويبقى الشعر
تغيبينَ عنـى..
وأمضى مع العُمر مثلَ الســـحابِ
وأرحلُ فى الأفقِ بينَ التمنِّــي
وأهربُ منكِ السنينَ الطوالَ
ويوماً أضيعُ.. ويومَاً أغنِّــى..
أسافرُ وحدى غريباً غريبا
أتوه بحلمى وأشقى بفنِّــي
ويولَـدُ فينا زمانٌ طريدٌ
يخلِّفُ فينا الأسى.. والتجنيّ..
ولو دمَرتنا رياحُ الزمانِ
فما زال فى اللـحنِ نبضُ المُـغنّي
تغيبينَ عنى..
وأعلمُ أنَّ الذى غابَ قلبــــي
وأنى إليكِ .. لأنـكِ منِّـي
<<<
تغيبينَ عنى..
وأسألُ نفسى تُـرى ما الغيابْ ؟
بعادُ المَكانِ .. وطولُ الســفرْ!
فماذا أقول وقد صرتِ بعضي
أراكِ بقلـبـــى.. جميعَ البشـَــــرْ
وألقاكِ.. كالنور مأوَى الحيارىَ
وألحانَ عمرٍ شجىِّ الوترْ
وإنْ طالَ فينا خريفُ الحياة
فما زال فيكِ ربيعُ الزهرْ
<<<
تغيبين عنى..
فأشتاقُ نفسي
وأهفو لقلبـــى على راحتيكِ
نتوهُ .. ونشتاقُ نغدو حَيارى
ومازال بيتــَى.. فى مقلتيـكِ ..
ويمضى بيَ العـمـر فى كـل دربٍ
فأنسى همومى على شاطئيكِ ..
وإن مزقتنا دروبُ الحياة
فمازلتُ أشـــعر أنى إليكِ ..
أســـافرُ عمرى وألقاكِ يوما
فإنى خُلقتُ وقلبى لديكِ ..
<<<
بعيدان نحنُ ومهما افترقنا
فمازال فى راحتيكِ الأمانْ
تغيبين عنى وكم من قريبٍ ..
يغيبُ وإن كان ملءَ المكانْ
فلا البعـدُ يعنى غيابَ الوجوه
ولا الشَّـــوقُ يعرفُ .. قيدَ الزمانْ
قصيدة «لأنك منى» سنة 1983
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: