هنا يتعانق التراث مع المعاصرة، وألق إرث أجدادنا مع أحلامنا، وجذورنا العميقة مع براعم وزهور مستقبلنا، إننا فى المتحف المصرى الكبير، هذه التحفة المعمارية التى تحتضن أهم كنوزنا الأثرية، وتطل على أهراماتنا، المعجزة الوحيدة المتبقية من عجائب الدنيا السبع، ولهذا تستحق منا ومن العالم كله أن نتطلع إليها بكل تقدير وإعجاب، وأن نفخر بأننا أحفاد من أقاموا تلك المعجزة المعمارية والهندسية، والتى مازال يكتنفها الكثير من الأسرار، وتخبئ الكثير من العجائب، فمازالت أهراماتنا تثير شغف العالم بتاريخنا، لهذا أقامت الجامعات الكبرى فى العالم قسما خاصا للمصريات، يتناول تلك الحقبة المهمة فى تاريخ حضارات العالم، التى لا تزال تبوح ببعض أسرارها بين وقت وآخر، ولا تكاد تتوقف الحفريات وأعمال التنقيب لكشف المزيد من المعلومات عن حياة وعلوم وحضارة أجدادنا، التى مازال الكثير من آثارها مدفونا فى الرمال، وتأتى بعثات كبريات جامعات العالم لتنقب عن تلك الأسرار والمعارف، وتطبع الكتب التى تزدحم بها مكتبات جامعات العالم، وإن كنا لا نعرف عنها إلا القليل، بل تركنا آثارنا لفترات طويلة تعانى الإهمال وعدم التقدير، بينما يستقبلها العالم كله بالحفاوة التى تليق بتراثنا، لكن هذا الإهمال أصبح من الماضى، ونشهد الآن مرحلة من الاهتمام والتقدير بما يليق بهذا الإرث الإنسانى، فالمتاحف تقام فى أكثر من محافظة، والمناطق الأثرية تلقى اهتماما غير مسبوق، ومنها هذا المكان الفخم الضخم، الذى يليق بما يحتويه من كنوز آثارنا.

كان يعتصرنى الألم وأنا أرى منطقة الأهرامات وقد زحفت عليها العشوائيات بكل أنواعها، عشوائيات المبانى بواجهات من كل نوع، والكثير منها بلا طلاء، ولا تنتمى أبدا لهذا التراث الراقى المبدع، والأخطر عشوائية السلوك والتلوث، فكل شيء كان لا يوحى بأننا نملك هذا الكنز العملاق، فالباعة فى كل مكان، والقمامة تتراكم هنا وهناك، ومعاملة السياح لا تليق، وكنت أتمنى أن تحظى تلك المنطقة الأكثر غنى وقداسة لدى العالم كله بما تستحقه، وجاء المتحف الكبير ومعه عمليات واسعة للتخطيط والتجميل والتنظيم، من طرق واسعة، ووسائل نقل عصرية، وعمليات إعادة تخطيط شاملة، وحدائق تظهر، ومطاعم وفنادق.
لا يمكن وصف كل ما بداخل المتحف الكبير، الذى يتأهب لافتتاح يليق به، يحضره رؤساء وملوك وشخصيات فنية وثقافية عالمية، لترى الوجه الجديد لمتحفنا، الذى تبلغ مساحته حوالى 500 ألف متر مربع، وفى مقدمته المسلة المعلقة، الفريدة من نوعها، والتى تعد أشهر رموز الحضارة المصرية العريقة، ويرى فيها العالم رمزا للحضارة الإنسانية، وجعل منها رمزا عالميا، تفخر العديد من عواصم العالم بأن لديها مسلة فرعونية تزين أجمل ميادينها. لكن المتحف الكبير يتميز بأنه يحتوى على أضخم كنوز الأرض من آثارنا المصرية القديمة فى مكان واحد، يطل على الأهرامات المتفردة بأنها الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا، واعتمد تصميمه على أن تمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها كتلة مخروطية هى المتحف المصرى الكبير، وعدد كبير من القاعات، تزيد مساحة الواحدة منها على مساحة متحف كامل، ويحتضن من التحف ما يزيد على 100 ألف قطعة أثرية، لا مثيل لها فى العالم، بعضها يعرض لأول مرة، ومن بينها 6 آلاف قطعة للملك توت عنخ آمون، تجتمع فى مكان واحد لأول مرة، ومجموعة الملكة حتب حرس أم الملك خوفو، وكذلك متحف مراكب الملك خوفو، ومقتنياته، وآلاف القطع الأثرية التى تجسد الحضارة المصرية القديمة، منذ عصر ما قبل الأسرات إلى العصرين اليونانى والرومانى، ويعرض المتحف المقتنيات الأثرية وفق أحدث أساليب وتقنيات العرض المتحفى، واستخدام التسجيل والتوثيق الرقمى، بما يضمن تأمينها وتوفير البيانات والمعلومات للزوار والدارسين، وتسهيل أعمال الصيانة والترميم.
ولهذا لا يقتصر المتحف على عرض تلك الكنوز، بل سيكون معلما ثقافيا وترفيهيا وفنيا، يضم متحفا للأطفال، ومركزا تعليميا، وسينما، وقاعة مؤتمرات، وكافتيريات ومطاعم ومحال تجارية، وحدائق ومتنزهات، وورشة للصيانة، ومركزا لإحياء الحرف اليدوية والفنون التراثية، أما الجزء الخارجى من المتحف فيطل على مجموعة من الحدائق المتميزة الطراز، منها حديقة للمنحوتات وحديقة النخيل والحديقة المدرجة. وسيكون المتحف الكبير هو الوحيد الذى يضم معامل ترميم حية، تعمل وفق أحدث التقنيات العلمية، أى أنه سيصبح جامعة ثقافية وعلمية وترفيهية ستكون مشعلا جديدا للثقافة والفنون والعلوم والتراث، ليصبح حلقة وصل بين جذورنا وحضارتنا القديمة، ومستجدات الفنون والعلوم والحياة العصرية، ولهذا يستحق المتحف الكبير لقب «الهرم الرابع».
ويمتد التطوير والرعاية إلى منطقة الأهرامات ومحيطها، وخلق رؤية عصرية لمعالم المنطقة تتسق مع طابع المنطقة الأثرى، لتحقق الانسجام العمرانى والجمالى، من خلال تصاميم ذكية تتسق مع الحضارة المصرية القديمة، وتشمل أعمال التطوير طريقى مصر - الإسكندرية الصحراوى ومصر ــ الفيوم، من خلال إزالة المخلفات، ودهان الأسوار، وتنسيق شكل الإعلانات، وتحسين المساحات المزروعة، وتشجير جوانب الطرق، وإزالة الأسوار المعدنية، وتطوير الإضاءة، وعرضا لأعمال فنية على الواجهات، كما يجرى تنفيذ الخط الرابع لمترو الأنفاق، ليصل بين مدينة 6 أكتوبر حتى محطة الجيزة، مرورا بالمتحف الكبير وشارع الهرم، ثم يمتد مع الخط الأول لمترو الأنفاق بمحطة الملك الصالح وحتى الفسطاط، كما يشمل التطوير توسعة الطريق الدائرى ومشروع الأتوبيس الترددى السريع لربط خطوط المترو مع المونوريل والقطار الكهربائى الخفيف، وإحداث طفرة نوعية لجودة الحياة، وفقا للمعايير البيئية والنقل الحضرى المتميز.
إن مردود وفوائد المتحف الكبير متنوعة وعديدة، ولا تقتصر على الزيادة الكبيرة المتوقعة فى أعداد السائحين، وما ستوفره من فرص عمل وخدمات ذات عائد كبير، بل سيكون المردود الثقافى والاجتماعى والجمالى والعلمى وغيره من العوائد غير المباشرة أكبر بكثير وأكثر غنى، فالأعمال الإنشائية والعمرانية ونشر ثقافة رعاية وتقدير الآثار، والإلمام بتاريخنا ومحطاته المضيئة، تبعث على شحذ قدرات أجيالنا الجديدة، وربطهم بتراثهم العريق، ليكون دافعا نحو تحقيق المزيد من التقدم والرقى، وأن تواصل مصرنا دورها الحضارى والإنسانى الذى نهلت منه البشرية، وأن نثق فى قدراتنا، لنكون جديرين بأن نحقق التقدم والرقى المنشود فى جمهوريتنا الجديدة.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: