الحديث عن الصعيد حديث ذو شجون وذكريات، فهو حديث عن الوجوه السمراء «الشقيانة»، والأيدى الخشنة التى يحبها الله، لشدة إتقانها عملها، كما قال عنها النبى، صلى الله عليه وسلم: «هذه يد لا تمسها النار أبدا»، مثلهم فى ذلك مثل أبناء مصر الطيبين فى ريف الدلتا.
على الجانب الآخر، فهو حديث يمتد إلى الفنون الشعبية الأصيلة مثل «التحطيب».. تلك اللعبة الفرعونية التى وجدت على جدران معابد المصريين القدماء منذ آلاف الأعوام، وتوارثها الأحفاد جيلا بعد جيل، ومازال أبناء الصعيد يحتفظون بأسرارها، ويتفوقون فيها، ويمارسونها فى حفلاتهم وأفراحهم على أنغام المزمار البلدى الشجية والجميلة.
إلى جوار فن «التحطيب» يشتهر الصعيد بفن «المواويل».. ذلك الفن الأصيل الذى يرى البعض أنه فن فرعونى يعود إلى عصر الملكة «إيزيس»، ومن هنا جاء الارتباط بين سوهاج و«المواويل»، لتشتهر بعد ذلك بأنها «بلد المواويل». فى حين يرى البعض الآخر أن «المواويل» فن عربى انتشر فى عهد الخليفة هارون الرشيد، وتوطن فى الصعيد، وبرع فيه أبناء سوهاج على وجه الخصوص، ليرتبط بعد ذلك بهم.
قصص وذكريات وحكايات دارت كلها بذهنى فى أثناء ركوبى الطائرة من مطار القاهرة، حتى هبطت بنا فى مطار سوهاج.
من مطار سوهاج، وعلى مدى ما يقرب من ساعة إلا الربع تقريبا، سار بنا الأتوبيس من المطار حتى موقع الاحتفال فى جامعة سوهاج، التى تقع فى مدينة سوهاج الجديدة.
المشهد كان مختلفا من الأتوبيس، لأنه يضيف فصلا جديدا إلى محافظة سوهاج بشكل خاص، والصعيد بشكل عام.
على اليسار شاهدت مدينة جديدة مقامة على أحدث الطرز المعمارية، ولا تقل فى جمالها وروعتها عن أى مدينة حديثة أخرى فى أسوان الجديدة أو المنصورة الجديدة أو غيرهما من المدن.
المدينة مقامة فى الظهير الصحراوى، وامتد إليها الإعمار، بقوة وتحولت من صحراء جرداء إلى مدينة متكاملة، وزحف إليها السكان منذ فترة قليلة حينما بدأوا التوافد عليها بعد استكمال الخدمات والمرافق والتشغيل، ومعظمهم من الأجيال الجديدة من الأطباء والمهندسين والمعلمين والمهنيين والعمال، وغيرهم من مختلف الفئات الذين يبحثون عن الغد الأفضل لهم ولأولادهم وذويهم.
على اليمين كانت هناك مناطق استصلاح زراعى منتشرة تنبت بالخضراوات والفاكهة، وكل المحاصيل الزراعية، إلى جانب مناطق صناعية مثل مجمع الصناعات المقام على مساحة 60 فدانا.
حينما وصلنا إلى مقر الاحتفال فى جامعة سوهاج رأيت المشهد مختلفا، ويوضح حجم الفارق بين ما كانت عليه محافظة سوهاج من قبل، وما أصبحت فيه الآن.
نحن داخل جامعة حديثة بكل ما تحمله الكلمة من معان، سواء من حيث المبانى، أو التجهيزات، أو المستوى التعليمى الذى يضاهى أحدث الجامعات فى مصر.
هكذا يعود «قلب» الصعيد «ينبض» من جديد بعد عقود طويلة من التجاهل والإهمال والنسيان، مما أسهم فى زيادة معاناة سكان الصعيد، وجعل محافظاته، محافظات «طاردة» للسكان من أجل البحث عن مصدر عمل، أو من أجل تلقى العلاج، أو لغيرها من الأسباب.
الصعيد فى الزمن القديم كان هو مصدر الحضارة الفرعونية التى سبقت الإنسانية بأكثر من 7 آلاف عام، وللأسف الشديد تعرض الصعيد لفترات طويلة من «النسيان»، مثله فى ذلك مثل ريف مصر والمحافظات البعيدة عن القاهرة الكبرى والإسكندرية.
خلال سنوات «النسيان» أنهارت الخدمات إلى أدنى معدلاتها، من صرف صحى ومياه شرب وكهرباء وطرق وتعليم وجامعات، وزادت معدلات الفقر، وأصبحت محافظات الصعيد هى المحافظات الأعلى فى نسب الفقر على مستوى الجمهورية.
الآن تغيرت الأوضاع، وبات «الصعيد» فى القلب من اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسى والحكومة، ليصبح الرئيس عبدالفتاح السيسى هو الأعلى فى معدلات زيارات محافظات الصعيد بين رؤساء مصر السابقين.
استهل الرئيس عبدالفتاح السيسى العام الجديد بأول زيارة ميدانية يقوم بها لمحافظة «سوهاج»، القابعة فى قلب الصعيد، لتصبح الزيارة الـ19 التى يقوم بها لمحافظات الصعيد، والتى قام خلالها بافتتاح وتفقد مشروعات قومية عملاقة هناك فى جولاته التى شملت البحر الأحمر، والوادى الجديد، وأسوان، والفيوم، والمنيا، وبنى سويف، وقنا، والأقصر، وأسيوط، وسوهاج.
هذه الزيارات والجولات الميدانية المتتالية تؤكد مفهوم الرئيس عبدالفتاح السيسى فى «العدالة الاجتماعية»، وضرورة تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، والاهتمام بالمناطق المحرومة والمهمشة، وإعادة تأهيلها ضمن خطة إستراتيجية متكاملة على مستوى الجمهورية.
أيضا هناك علاقة وثيقة بين التنمية وحقوق الإنسان، ومن هنا تأتى أهمية توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين فى كل محافظات الجمهورية بشكل عام، والمناطق الأكثر فقرا بشكل خاص، والتى يدخل فى إطارها توفير السكن الملائم، والمستوى الاقتصادى اللائق، وضمان حق التعليم والعلاج، وتوفير الحدود اللائقة من وسائل المعيشة الحياتية.
زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى سوهاج، الخميس الماضى، جاءت فى هذا الإطار، فالكل «سواء» فى الجمهورية الجديدة.. لا فرق بين مواطن يسكن فى أقاصى الصعيد أو الدلتا، وبين آخر يسكن فى قلب القاهرة أو أطرافها.
حرص الرئيس على زيارة قرية «أم دومة»، وهى إحدى القرى التى استفادت من مبادرة «حياة كريمة»، وتقع ضمن دائرة مركز طما، وأصر على تفقد حجم الأعمال فى المستشفى، ومركز الشباب، وكذلك تناول الإفطار مع أهالى القرية، ليؤكد الارتباط الوثيق بين المواطنين والقيادة فى شكل «أبوى» و«إنسانى».
أكثر ما لفت انتباهى فى زيارة سوهاج هو حرص الدولة على الارتقاء بالخدمات الصحية لسكان المحافظة من خلال إنشاء أحدث مستشفى تعليمى جامعى متطور يضم أحدث الأجهزة والمعدات الطبية، إلى جانب إنشاء مستشفى للأطفال، وصلت نسبة الإنجاز فيه إلى أكثر من ٩٠٪، ليكون على غرار مستشفى أبوالريش الجامعى من أجل توفير الخدمة الصحية المتميزة لأطفال الصعيد، بعيدا عن السفر والترحال، و«بهدلة» المواصلات، ونوم ذويهم ومرافقيهم فى اللوكاندات أو أمام المستشفيات.
سوف تنتهى إلى الأبد رحلة عذاب علاج الأطفال بعد افتتاح مستشفى الأطفال الجامعى الجديد خلال الفترة القليلة المقبلة.
بنظرة بسيطة، وبلغة الأرقام، نجد أنه خلال السنوات الثمانى الماضية بلغ نصيب الصعيد فى مشروعات التنمية المختلفة ما يقرب من ١٫٥ تريليون جنيه من إجمالى ما تم إنفاقه على مستوى مصر، الذى بلغ ما يقرب من ٧ تريليونات جنيه.
وبحسبة بسيطة يتضح أن نصيب محافظات الصعيد بلغ ٢٥٪ من إجمالى حجم الاستثمارات الكلية، بما يؤكد تحقيق مبدأ إنصاف محافظات الصعيد، ورغبة الدولة الجادة فى تعويض ما فاتها من تجاهل ونسيان خلال العقود الأخيرة، التى ربما تمتد إلى قرن كامل من الزمان أو يزيد.
نصيب محافظة سوهاج وحدها بلغ ١٠٢ مليار جنيه، شملت كل نواحى الحياة، من تعليم وصحة وبنية تحتية وحماية اجتماعية. كما بلغ عدد المستفيدين من برنامج «تكافل وكرامة» نحو ٣٢٤٫٤ ألف مستفيد، بما يوازى ٢٥٪ من إجمالى عدد سكان محافظة سوهاج، وبمبالغ وصلت إلى ١١٫٤ مليار جنيه.
خلال الاحتفال، الذى أقيم فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة سوهاج، حرص الرئيس على التفاعل مع أصحاب المشروعات المقامة فى المجمع الصناعى الجديد، ومناقشتهم فى كل التفاصيل الخاصة بالعمالة، والتوسعات المقترحة، وتذليل العقبات من أجل دعم هذه النماذج الناجحة، وتوسيع قاعدة الاستثمار والمستثمرين هناك، لتوفير فرص العمل للأجيال الجديدة، وفى الوقت نفسه توفير المنتجات محليا، والتصدير للخارج.
أيضا تفاعل الرئيس مع طلاب جامعة سوهاج من كلياتها المختلفة، الذين عرضوا مشروعات بحثية قابلة للتطبيق، ووعدهم بتحويل هذه المشروعات البحثية إلى مشروعات حقيقية بدعم من صندوق «تحيا مصر»، لتتحول أحلام الطلبة إلى حقائق ومشروعات تنتج الخير لمحافظة سوهاج، وشعب مصر فى كل المحافظات.
[email protected]لمزيد من مقالات بقلم ــ عبدالمحسن سلامة رابط دائم: