الحياة من بعدك مستحيلة.. الأماكن برحيلك خواء.. اللوحة فى مرسمك أدارت وجهها.. الوجود بلا وجود.. الألوان جميعها سوداء.. وجهك الذى كان.. غاب. أصابعك الموهوبة نزلت إلى القبر.. عيناك التى كانت ترافقنى أغمضت الأجفان.. بدونك غدوت بلا معنى بلا جدوى بلا إشعاع بلا أقدام تمشى على الأرض أو يدين تبتهل للسماء.. أُغلقت جميع الأبواب.. كيف أحيا وصوتك قد مات.. من قمة هذا اليأس ارتقت چين هيبتون حافة نافذة مرسم موديليانى وألقت بنفسها لتلحق به.. رحل الحبيب مساء السبت فانتحرت الزوجة الحبيبة الملتاعة إلى حد الجنون صباح الأحد..
فنان غرق إلى أذنيه فى عالم الفاتنات وأقدم على رسم الملامح الأنثوية بالعشق كله والتدله والوله والرِقة والعذوبة والرشاقة والانسيابية.. وعندما كانت اللوحة المسطحة تصده عن التوغل فى جنباتها وتحسس أبعادها والاستدارة حول منحنياتها كان يحقق ذاته فى عالم النحت، لتتشكل البنت بين أصابعه كتلة وحجمًا ولقاءً واحتواءً وملمسًا وإبداعًا.. يرفع أنفها فى شموخ، ويمدِّد قسماتها فى تناسق، ويُطيل رقبتها فى ترفُع، وينعم بشرتهم بهمَّة الصقل، ويزجج حاجبيها كاستدارات الأهلّة، ويضم شفتيها فى بسمة الحجر، ويمشِّط شعرها يثنيه يعقصه يرجّله كأبدع تكوين يكاد الجماد فيه أن ينطق.. لكنه لم يستمر طويلا فى عالم الحجر والإزميل وعاد للوحة والفرشاة رغم تفوقه المذهل الذى جعله ينجز ما بين عامى ١٩١١ و١٩١٢ فى العمل ٢٧ منحوتة بسرعة قياسية رغم تفاقم أوضاعه الصحية من جراء الغبار الناجم عن عملية النحت..
أميديو موديليانى فنان من العشرة الكبار.. وكمسلك دائم للتاريخ المجحف تجاه العباقرة لم ينل فى حياته مقابلا ولا جزاء.. عاش المعاناة وشرخت صدره الآلام، ونزف الدماء فى زمن الطفولة وشرخ الشباب، ومات مغتربًا وقضى شابًا، وترك من بعده ثروة فنية لم يهنأ بعائدها، فقد عاش حياته فى عوز حتى أنه كان يُبادل رسومه مقابل وجبات الطعام، وجدير بالذكر أن منحوتته (Tête - رأس) قد بيعت بـ٥٣ مليون دولار فى مزاد بباريس عام ٢٠١٠ وهو أغلى ثمن تحصل عليه قطعة نحت فى العالم، وبيعت لوحته «المستلقية» أخيرًا فى مزاد بنيويورك بـ١٧٢.٢ مليون دولار لرجل الأعمال الصينى «لى ييكيان»... أميديو الذى وقع فى هوّة الفاقة واستسلم لقدره، الذى لو توغلنا معه تحت السطح لاكتشفنا رائدا حقيقيا للفن الحديث سكب فنه فى بوتقة المأساة السائدة فى المناخ الثقافى فى عصره، حيث المزايدات يقودها غلاظ القلوب تتخذ شكل الدعاية أو التجاهل، فترفع قدر البعض أمثال بيكاسو وتتجاهل رائدًا مثل موديليانى لرفضه مبدأ الاستغلال السافر، ويُدمى التجاهل مشاعر الحساسية ليدفن الفنان إحباطاته فى الخمر، ويسلك مهاوى الإدمان، ويموت فى الخامسة والثلاثين ليمشى فى جنازته تجار الفن قساة القلوب المدركون لقدراته الخارقة، لكنهم يتركونه يعيش حياة الظل حتى الرحيل، وفى أثناء تقدم جسده المسجى أمامهم فى مسيرته الأخيرة يأخذون فى المزايدة حول شراء أعماله بأعلى سعر.
كان اسمه لدى الأغلبية «مودى» أما المقربون والعائلة، فقد كانوا يدعونه «ديدو» والأصل أميديو موديليانى الذى وُلد فى مدينة «ليفورنو» الإيطالية ــ فى الثانى عشر من يوليو ١٨٨٤، وكان أصغر أربعة أطفال أنجبهم فلامينو موديليانى وزوجته أوجينيا جارسان.. صرخ الوليد تحت سقف أسرة مفلسة تمامًا، وكـل من الوالدين ينحدر من ثقافة مختلفة.. الأم من أصل اسبانى استقر فى مرسيليا منذ أربعة أجيال سليلة أسرة متحررة دينيًا، والأب إيطالى صميم ينحدر من قلب مدينة روما يسعى للرزق بلا ملل رغم خسائره المتوالية، وبحكم خروجه المتكرّر وراء لقمة العيش أصبح غيابه وحضوره غير ذى موضوع، حتى إنه لم يلحظ أحد عدم عودته فى إحدى المرات، وظل غائبًا إلى ما لا نهاية لا يتذكره أحد نظرًا لخضم البشر المتلاطّم تحت السطح العائلى المكدس، الذى يشمل إلى جانب الأربعة أطفال شقيقتى الأم ووالدتها وجدتها لأمها.. وقع على أوجينيا فى غيبة الزوج الذى لا يعود عاتق مسئولية البيت وتدبير الموارد، لتحظى الأفواه المفتوحة بما يسد الرمق، ورغم مكانة أميديو كآخر سلالة العنقود الموديليانى فقد كان محط ملاحظة الجميع للظهور اللافت لبوادر الجنوح والفساد والمرض المورَّث معتقًا فى رئات جذور العائلة.. جده الذى لاصق سنوات طفولته كان على التوالى يشكو صدره متذمِّرًا من كل ما حوله، وجدته لأمه ريجينا ماتت بداء السُل بعد سنوات سعال هزَّ جدران البيت ناشرًا سحابات من اليأس، كما انتحرت جابرييلا الخالة عام ١٩١٥ وتدلت رقبتها داخل أنشوطة فى سقف المطبخ، أما الخال الذى كان ينفق قدر استطاعته على رحلاته فمات عام ١٩٠٥ بعد حياة تقلَّب فيها مزاجه فى دورات فجائية ما بين الساخن والبارد لتعانى الأسرة تبعًا للتغيُّرات كل ما تأتى به الفجأة.. وعندما توضع أوجينيا تحت مجهر التقييم النفسى تنعكس شخصية امرأة خاصمها الحظ وزرعت المسئوليات المرهقة فى طريقها أشواكًا أصابتها بالدمار الداخلى للنهاية.
حين بدت على أميديو مظاهر الضعف الجسمانى أحاطته الأم برعايتها الفائقة وضمته بفيض من الحب حتى سن العاشرة.. وكما كانت تدللـه بلقب «مودى» كتبت عنه فى مذكراتها تقول: «الفاسد الصغير صاحب النزوات لكنه حبيب قلبى»، ورغم رباعية الأبناء وتداخل الوجوه كانت نظراته الحلوة، التى ظلت مضرب الأمثال إلى نهاية حياته، يؤكد وقعها على قلبها تسيده وقيادته ومكانته.. لقد أثار فزعها لحد الجنون حين داهمته آلام الزائدة الدودية لتنفجر عام ١٨٩٥، ويبقى الصغير تحت عين الرعاية المتكاملة للأم التى تحسب خطاه وأنفاس صدره وشطحات خياله لتكتب عنه فى عام ١٨٩٧ «إنه يتخيل نفسه رسامًا عندما يكبر»، وأصبحت رغبة مودى الصغير الفنية دافعًا ومحرِّكًا ليمزق جدران شرنقة اللامبالاة التى أحكمت انغلاقها حول العائلة.. هناك بُرعم يتفتح وموهبة تظهر فى الأفق ووعدًا بضوء فى نهاية النفق.. لكن مسيرة الهموم كانت لم تزل فى أولى خطاها عندما وقع موديليانى صريعًا لحمى التيفود فى صيف ١٨٩٨ وهو لم يزل فى الرابعة عشرة، وانعكست مضاعفات المرض على حياة الصغير الذى ينقطع تمامًا عن الدراسة ويلتحق باستوديو الرسام «جوجليمو» فى ليجهورن، وكان آخر طائفة الرسامين المنحدرين فى مدرسة «مايكل أنجلو» التى تحرص على الرسم فى الهواء الطلق.. ولم يلبث المرض أن يعاود أميديو فى شهر سبتمبر ١٩٠٠ ليكشف السُل الستار عن وجهه القبيح فيسكن الرئتين ليسرع بصاحبه حتمًا إلى النهاية.. فى البدء استرد عافيته بفضل أمه التى اتخذت معه نظامًا علاجيًا صارمًا، وما كاد يتماثل للشفاء الظاهرى حتى صحبته فى جولة إلى جنوب إيطاليا، ثم اتجها شمالا إلى فلورنسا والبندقية، وما كادا يعودان للوطن حتى عاود الترحال وحده، وفى السابع من مايو ١٩٠٢ أدرج اسمه بأكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا، ومن بعدها انتسب لأكاديمية البندقية، ويبدو أنه فى كـلا الأكاديميتين لم يكن الطالب الملتزم المثالى، فهو لا يحضر إلا نادرًا وسجلاته فيهما مفقودة بفعل فاعل، فهو أزال أميديو عمدًا درجاته فيهما التى تعكس ضآلة إنتاجه الفنى، حيث قرر وقتها أن يغدو نحاتًا؟! وإذا ما كان فى حياته قد رسم لوحات كثيرة حتى بلغ ما يرسمه فى اليوم الواحد ١٠٠٠ اسكتش، وذلك أكثر من تماثيله التى نحتها، فإن ذلك يعود إلى جانب علته، حاجته إلى مساحة واسعة وخامات ثقيلة.
يتحقق حلم باريس عندما يصل موديليانى إليها فى يناير ١٩٠٠ لينزل بفندق مريح لعدة أسابيع، لكن سرعان ما ينجذب إلى أحياء الفنانين فى مونبارناس ومونمارتر التى تفتح للبوهيمى الجديد ذراعيها، فيندمج بسرعة فى الوسط، ويعقد صداقات قوية مع الفنانين والشعراء والكُتَّاب، لكنها صداقة لا تشبع من جوع، ولا تسد إيجار مسكن، فكان عليه أن يغيِّر عنوانه كل شهر بعد أن يقذف المالك بأمتعته إلى أرض الطريق لأنه لم يسدِّد الإيجار، وحتى فى الحالات النادرة التى كان يدفع فيها مديونيته كان المالك يضيق ذرعًا بتصرفاته الجنونية، فيطالبه بالإخلاء الفورى بعد أن يثور مع الجيران لترديد موديليانى أبيات الشعر بصوت جهورى يشق سكون الليل، ولأن إمكاناته المادية كانت على الدوام فى أضيق نطاق كذلك كان حجم الاستوديو الذى يستأجره ليرسم وينحت ويلتقى بموديلاته.. لقد كان موديليانى فى بداية استقراره فى باريس أنيقًا جميلا بلا مباهاة أو تكلُّف بملابسه القطنية النظيفة وشاله القرمزى وقبعته السوداء الكبيرة، يشرب باعتدال وذا مكانة مقبولة اجتماعيًا، وبعد عام لا غير تغيَّر سلوكه وسمعته ليتحول إلى أمير للمشردين.
إلى جوار المدفأة وعلى ضوء مصباح الكيروسين الخافت يجلس لساعات يحملق فى كتلة الحجر لينفذ إلى أعماقها، وينتفض فجأة يمسك بالإزميل ليهوى على الحجر الأصم ليكشف عن طراز جديد من التماثيل كان يرى فيه بعثًا للقيم النحتية، التى قتلها النحات «رودان» وأتباعه.
كان يعتقد أن فن النحت فقد صلابته وأصيب بالميوعة، والسبب يكمن فى الصلصال الذى أصبح يعجنه المثالون بأصابعهم.. الصلصال مادة رخوة، لا يمكن أن توحى بالصلابة والقوة، ومن يريد الاحتفاظ بمعانى الصلابة فى النحت فليعد إلى النحت المباشر فى الحجر، كما كان يفعل القدماء.. وفى باريس تعرَّف أميديو على الفنان الرومانى «قسطنطين برانكوزى» الذى أصبح فيما بعد من أعلام النحت الحديث، وسافرا معًا إلى «كرارا» أشهر محاجر الرخام فى إيطاليا، وهناك استأجرا ورشة صغيرة بجوار إحدى القنوات التى تخترق المدينة، ليقضيا فيها ثمانية أشهر لم تترك قبضته خلالها المطرقة والإزميل.. وعندما قرر العودة إلى باريس مرة أخرى فكر طويلا فى مصير تماثيله الحجرية، التى نحتها فى تلك الفترة.. هل يأخذها معه إلى باريس؟! إن نقلها يتكلف نفقات باهظة لا قِبل له بها.. هل يتركها مكانها.. ولكن لمن؟!.. أرّقته التماثيل التى أراد أن يجرب بها لغة أخرى غير لغة الخطوط والألوان.. ولكى يبدّد حيرته سأل زملاءه الفنانين، الذين يجتمعون فى مقهى «بارى» عما يفعله بتماثيله الثقيلة فأتته الإجابة اللامبالية «إلقها فى القناة».. ورغم الجواب التهكمى فإنه وجد فيه الحل الوحيد للتخلص من العبء الثقيل، فما كان منه إلا أن حملها على عربة يد وتوجه إلى أقرب كوبرى وألقى بها من أعلى، ليبتلعها الماء فى دوائر متسعة ــ نفس الفكرة المدمرة للأعمال النحتية قام بتنفيذها فى مصر المثَّال جمال السجينى عندما ألقى بجانب من أعماله فى النيل ــ وقد ظلت فكرة وجود هذه الثروة النادرة فى قاع البحر تقلق مديرة متحف «فيلاماريا» فى ليجهورن، فأرادت أن تقطع الشك باليقين فى عام ٢٠٠٠ فقررت البحث عن التماثيل الغارقة بالقرب من ورشة موديليانى، التى كان يعمل فيها.. وكانت أولى النتائج العثور على تمثالين من الحجر خرجا فى يوليو وأغسطس من نفس العام، واستطاعت مديرة المتحف الحصول على منحة مالية ضخمة لمواصلة البحث ــ المستمر حتى الآن ــ عن بقية تماثيل موديليانى التى تتشابه مع الوجوه التى صورها فى لوحاته، فجميعها فى وضعية أمامية، مفلطحة فى غالبيتها مستديرة كقرص القمر، أو باستطالة بيضاوية طفيفة، تتجمع فى منتصفها الأسفل أعضاء الوجه حول الأنف المستقيم، وقد كانت صلابة الحجر وما تفرضه من تدرج فى مراحل التنفيذ ما قاده إلى أسلوبه الذى تميَّز به، المشبع بتأثيرات بدائية، وملامح من الفن المصرى القديم، واليونانى المبكر، والتى أخذ منها جمعاء التماثل والنسق الهندسى، ولكن بتوازن شديد وحس شاعرى مرهف.
تخور قوى الفنان الشاب وهو يصارع المادة الصلبة، فتمتد يده إلى زجاجة الشراب يفرغها فى جوفه، وإلى لفائف السموم يملأ صدره المعتل بدخانها المخدر، ثم ينفثها سحابًا خانقًا يغمر جوانب الغرفة المكدسة باللوحات والمشروعات لتماثيل لم تكتمل عيونها أو رقابها.. عالم المخدرات لم تكن باريس من عرّفته عليه، فقد أتاها موديليانى بعدما أصبحت تسرى فى دمائه، ويعود لرفاق الدراسة فى إيطاليا أكبر الأثر خاصة «أوسكار جيجليا» الذى كان يكبر موديليانى بثمانى سنوات وفرض سيطرته عليه، ولقد أشارت شقيقة أميديو فيما بعد إلى أن تأثير «أوسكار» كان سيئا للغاية على أخيها، وكان أول من استدرجه إلى المخدرات، ومع ذلك فليست أهمية أوسكار فى حياة موديليانى تعود إلى المخدرات فقط، وإنما إلى تلك الخطابات الحميمية التى تبادلها «أميديو» معه والتى عُثر على خمسة منها بخط موديليانى فيها يكشف النقاب عن حالته الوجدانية، ففى بعض الجُمل يعترف بوجود «اضطراب وغليان تجاه الصور الجميلة يدفعنى لكى أنقض عليها وأنقلها إلى إبداعى الخاص وبعدها لا يتوقف ذلك الغليان»، وبأنه يشعر «بقوى تولد فجأة بداخلى وتتمدد لتخرج من حيزى ثم تتقهقر لتزوى وتفنى» و«فى جسدى بركان وأشعر بأن فى كل أصبع من أصابع يداى إنسان يختلف عن الآخر فى رؤيته وأفكاره واختيار ألوانه».. و..هنا اللوحة انعكاس سيكولوچى لروح الفنان لأن كل ضربة فرشاة.. كل لون.. كل خط.. كل منحنى اكتسب معناه الحقيقى من الحالة النفسية لصاحبها عندما قرر أن يضع لونًا هنا وخطًا هناك.. عندما فضل الأبيض على الأسود.. عندما قرر أن يرسم منظرًا طبيعيًا بدلا من صورة إنسان.. فالحالة المزاجية للفنان خلف اختياره لأدواته.. ألوانه.. خطوطه وأسلوبه.. كلها تنتج من نسيج حالته الخاصة به، وهنا يزيل موديليانى كل ما له علاقة بفنون عصر النهضة من على جدران مرسمه مجردًا إياه من أى عنصر يدل على الفخامة، ليصبح أشبه بمذبح يضحى فيه بكل أثر للفن الأكاديمى ــ وكان موديليانى فى بداياته متأثرًا بتولوز لوتريك ليغدو بعدها مهووسًا بأعمال بول سيزان الذى مكث يفوز بمعاركه الفنية حتى بعد موته، والفنان بابلو بيكاسو الذى تميَّز بعبقرية سقطت عليه كمذنب من السماء ــ وقام بتدمير الكثير من أعماله الأكاديمية ليعلل سلوكه المتطرف بقوله: «إنها زينة صبيانية رسمتها حين كنت برجوازيا قذرًا»، وكان ذلك غالبًآ هو رد الفعل تجاه عدم الاعتراف بفنه أو الاكتراث به كما يجب»..
أمام إلحاح سعاله الخافت المتقطع، ورذاذ الدم المتطاير يشعر الفنان فى مرسمه بالاختناق.. يذوب فى مستنقع الصمت والوحدة.. كل شىء رمادى قاتم فى حجرته.. السرير.. الجدران.. الصداع الدائم وسعال لا ينتهى.. يهرب من الجدران فى منتصف الليل، ويمشى مترنحًا فى طرقات باريس وأزقتها الضيقة. يصرخ ويطلق صرخاته يحملها الهواء فى كل اتجاه.. يدور على أبواب الأصدقاء يطرقها.. يوقظهم.. ينهار على أقرب مقعد ويمضى فى ترديد أبيات شاعره المفضل «فرانسوا مييون» بصوت مرتفع، ويشفعها بأبيات من الكوميديا الإلهية باللغة الإيطالية.. يوقظ الجيران أينما ذهب فى عتمة الليل.. يحتجون.. يدقون الجدران والأسقف والأرضيات بأيديهم وأرجلهم ويصيحون: «اخرس يا مودى.. اتركنا ننام».. يعود مودى إلى الألوان يلوّن بها المساحات.. يضيق بالتماثيل.. يذيب قصائد الشعر فى خطوطه وألوانه.. يسكبه فى ثنايا لوحاته وفى أجساد موديلاته، وغالبيتها كانت أصداء لأشعار «رامبو» و«بودلير».. كان مودى يحفظ أشعارهم عن ظهر قلب.. كان يردّد «ليس بفنان من لا يتذوق الشعر».. وعلى غرار الفنان البدائى فى افريقيا كان يترك نفسه طليقة من أى قيد.. يستسلم لانفعالاته تاركًا لها إملاء الشكل الذى تتحدث من خلاله بطلاقة.. خلد فى رسومه أطفال الحى والنساء والأدباء والشعراء.. غالبية شخصياته تُعطى انطباعًا دائمًا بالوحدة والعزلة والانطواء.. أوضاعهم توحى بالانسحاب السريع إلى الداخل، وفى إشارة للخوف والاحتراس يرسم أيديهم فوق بعضها أو موضوعة على صدورهم فى موقف أقرب إلى المواقف الأمومية كما لو أنهم يشعرون بحصار من قوى عدائية.. ولم تخل رسومه من المناظر الطبيعية إلى جانب الطبيعة الصامتة، لكن بقيت البورتريهات والأجساد المادة الأساسية لمعظم أعماله التى يظهر فيها مميزًا طويل العنق كى يرجع نقاد الفن تلك السمة فى رسوماته بأن العنق لدى موديليانى يمثل العضو الذى يفصل بين الحياة الفكرية متمثلة فى الرأس، والحياة الغريزية المتمثلة فى الجسد، ومن هنا لابد وأن تكون هناك مسافة ما بين النقيضين حتى لا يختلط السمو بالتدنى.
الفنان البوهيمى الذى استشعر أن حياته قصيرة فأخذ يعمل بنهم، وكأنما أراد أن يترك للعالم أكثر ما فى وسعه أن يتركه.. الموت فى أعقابه إذن فليكن حريصا أن يعيش كل لحظة من حياته ويمدها إلى آخر ما يصله الامتداد، رافضًا الارتباط بالحركات الفنية فى عصره مثل التكعيبية والسريالية والمستقبلية كى لا يعطّل أسلوب أى منها مسيرته الثورية الخاصة.. لم يكن يهرب فقط من اللحظة التى يعيش فيها بالاسترسال فى الشراب، ولكن كان لا يثق بأن شمس الغد ستشرق عليه مرة أخرى.. كان أصدقاؤه يدهشون، لأنه لم يكن يصبر على رسم لوحة على مدى يومين، إذ كان يحرص دائما على أن ينتهى منها فى جلسة واحدة.. وكما كان ينتهى من لوحته بسرعة كذلك كانت عواطفه تجاه المرأة تنطفئ أيضًا إثر اندلاعها.. سرعة كانت متعمدة؛ لأن أميديو كان يخشى الوقوع فى الحب الحقيقى، لأنه يخاف العلاقات الجدية التى تربط الفنان بسلاسل التعود والخمود وطول الوقت الذى لم يكن متاحًا، لذا كان يمضى فى الحياة مهرولا مصطحبًا معه فى كل يوم واحدة.. عشرات الموديلات.. بياتريس وسيمون ونيتا، ويروى أصدقاؤه فيما كتبوه عن سيرة حياته بأن حُبه للنساء لم يقف عند حد، وأنه لم يكن يتورع عن رسمهن فى أوضاع تتضاءل أمامها لوحة «أوليمبا» للرسام «مانيه» ولوحة «الحمام التركى» للرسام «أنجر» بما استعمله من الألوان الحمراء الملتهبة كألسنة النيران، مما أثار مخاوف المسئولين عن معرضه الأول الذى نظِّم بقاعة «بيرت ويل» فى عام ١٩١٧ ثم أغلق فى اليوم التالى لافتتاحه، كما انصرفت متاحف الفنون عن اقتناء لوحاته لفترة بحجة أنها خارجة عن التقاليد، وقد أدى هذا الحظر إلى تهافت جامعى التحف الفنية على أعماله فيما بعد وارتفاع أثمانها إلى ما لم يحلم به فى حياته، وحديثًا فى عام ٢٠١٧ أقيم فى لندن معرض لأعمال موديليانى بمناسبة مرور ١٠٠ عام على منع الشرطة الفرنسية عرض لوحاته فى قاعة «بيرت ويل»!!
ورغم حرصه وتنقلاته ما بين الحسناوات المغرمات دونما أثر تتركه إحداهن على شغاف القلب فإن الطائر المحلق وقع فى عش الحب وكانت ساكنته هى الشاعرة البولندية الحسناء «ليوبولد زبوروفسكى» التى شاركته مغامراته الجنونية فى ملاهى باريس والقرى المجاورة، وقام فى فترة الغرام برسمها هى وأفراد أسرتها فى لوحات ورسوم لا حصر لها، ومن بعدها كانت الشاعرة الروسية «آنا آخمانوفا» التى رسم لها عشرين لوحة خالدة، وكانت من بعد الهجر تحتفظ بالكثير من ذكرياتها معه وتصفه بأنه «كان مجاملا ونبيلا ولم يتحدث مطلقا أمامى عن غرامياته السابقة، ومن عادته اصطحابى لزيارة دائمة لمتحف اللوفر خاصة القسم المصرى فيه لنتوقف طويلا أمام تمثال نفرتيتى برقبتها الطويلة وتاجها الخلاب، وقد رسم رأسى بنفس أسلوب ملكات الأسر المصرية القديمة».... ومن بعد «آنا» تأتى الكاتبة والشاعرة الانجليزية «بياتريس هاستنج» التى كان يعشق تأمل عينيها الزرقاوتين ليقول لها: «عندما أتعرف على روحك سأرسم عينيك».. وجاء الحب الحقيقى فى ركاب طالبة الفنون الجميلة «چين هيبتون» (١٨٩٨ - ١٩٢٠) التى وقفت فى وجه عائلتها البرجوازية الكاثوليكية المتدينة الرافضة لموديليانى سىء السمعة.. تركت أهلها لتعيش وتعمل معه متحملة جميع أنواع العذاب وكانت قد جاءت إلى باريس فى صحبة شقيقها الذى رغب فى تعلُّم الرسم فأتى بها معه من بلدتها «مو» فى مقاطعة «إيل دوفرانس» شمالى فرنسا، وقدمها للعديد من الرسامين لتكون موديلا فى مراسمهم إلى جانب دراستها، وكان أبرز من رسمها اليابانى «موجيتا» فى العديد من لوحاته، وأغراها الوسط الفنى لتحترف الأخرى الرسم فساعدتها صديقتها النحاتة على الالتحاق معها فى أكاديمية النحات والرسام الإيطالى «كولا روسى» وهناك تعرفت على أماديو فلفت انتباهه أنوثتها العذبة، فسرعان ما أنهى علاقته بالشاعرة بياتريس للارتباط بـ«چين» صاحبة الشعر الطويل الكثيف الذى يظهر منمقًا فى لوحات موديليانى ليصحبها معه للإقامة فى شقة بشارع لاجراند شومير القريبة من الأكاديمية.. استسلم أميديو للحب الذى استطاعت ملكته أن تعيد النظام إلى حياته، والصحة إلى شبابه الذى أذبلته التعاسة والفاقة والمرض.. جلست ووقفت واسترخت وانشغلت وتنبهت والحبيب يرسمها فى جميع حالاتها وأوضاعها المختلفة حتى غدت بطلة لغالبية لوحاته، وكانت له الأم والممرضة والحبيبة وأمًا لطفلته الوحيدة.. بدأت معه العلاقة هادئة لتتحول بتأججه تجاهها إلى عاصفة من الحب والشغف والجنون.
كان يسابق عمره القصير.. المرض يطرق بابه بعنف. تزداد حدة السعال.. يتلون فمه بالأحمر القانى.. يستشعر صديقه الحميم ووكيله «ليو بولد» مدى آلامه فيبكى جانبًا ليسمعه أميديو مدركًا قلق صديقه عليه فيهمس: «لا تقلق يا عزيزى.. أوصيك باقتناء أعمال (سوتين) من بعدى ــ سوتين فنان روسى انضم لدائرة أصدقاء موديليانى إنه عبقرية سوف يُكتب لها المجد والشهرة».. يجمع له الصديقان «سوتين» و«ليو بولد» بعض المال ويرسلانه إلى «نيس» للاستشفاء، لكنه يعود أسوأ حالا.. وفى باريس يحملونه إلى المستشفى وهو فى شبه غيبوبة.. وفى الطريق يهذى ببضع عبارات أوضحها: «إيطاليا.. إيطاليا.. يا وطنى الحبيب».. مات فى مساء السبت ٢٤ يناير ١٩٢٠ وفى الصباح التالى يحملون إلى «چين» نبأ موت الحبيب.. تهرول إلى المستشفى وفى رحمها جنينًا عمره تسعة أشهر على وشك ولادته ليغدو «مودى» أبًا لطفلين منها.. تلقى نظرة أخيرة على «أميديو» الغائب.. تغمره بالقبلات.. كانوا قد صنعوا قناعًا لوجهه بعد موته أسوة بالفنانين الآخرين.. منعوها من تحطيم القناع وانتزعوها قسرًا بعيدًا عن الجسد الهامد فوق الرخام البارد.. تهرول جين إلى دارها.. ما جدوى العيش بدون موديليانى.. حياتها ارتبطت به.. جولاتهما المرحة فى ضواحى باريس بعد منتصف الليل.. يوم حمل طفلتهما المولودة لأول مرة وفتح النافذة ليتحقق من لون عينيها.. يوم وجدته ثملا فى الممشى القريب فصحبته دونما عتاب فاحتفظ بيدها بين كفيه ليحملها إلى شفتيه الغارقتين فى دموع عينيه.. ليس لارتباطهما نهاية أو كفاية أو حدود.. حياتها مقيدة به.. جسدها.. وجهها.. عيناها.. ابنتها.. جنينها.. خطواتها تتجه لا شعوريًا إلى النافذة التى فتحا مصراعيها يومًا ليطلا على باريس.. تتطلع إلى الفراغ.. يناديها الخواء.. تلبى الانجذاب.. عسى أن تلحق به.
وتكبر الابنة اليتيمة التى حملتها شقيقة موديليانى إلى فلورنسا لتتبناها لتعمل عندما تكبر فى مهنة التدريس.. وتجلس لتكتب حكاية أمها وأبيها فى كتاب تحوَّل إلى فيلم سينمائى.. عماده الفنان وملهمته.. الموهبة والتلقى.. الشعث والاحتواء.. الجنون والفهم.. الجوهرة وصدفتها.. عنوان الكتاب «موديليانى الرجل والأسطورة» ذكرت الابنة فى مقدمته أن والدها حاول بشدة الانخراط فى الجيش مع اندلاع الحرب العالمية الأولى إلا أنه رُفض بسبب حالته الصحية السيئة!! وكتبت فى النهاية عن أبيها وأمها «كما عاشا معًا ضمهما معًا قبر واحد».
لمزيد من مقالات سـناء البيـسى رابط دائم: