لا أعتقد أن العالم العربى قد عاش محنة تشبه ما يحدث الآن .. ولا نبالغ إذا قلنا أن الملايين من الشعوب العربية يعيشون الآن فى قلب العاصفة ما بين الحروب والانقسامات والصراعات .. ولا أحد يستطيع أن يحدد حجم الخسائر التى لحقت بهذه الأمة ما بين الموارد والبشر والتاريخ والتراث وصولا إلى الثوابت التى عاشت عليها الشعوب أديانا وهوية ..
أقول ذلك وكل قارئ يشاهد خريطة العالم العربى، وما حدث فيها من مظاهر الارتباك والفوضى يشعر بحزن شديد لما آلت إليه أحوال شعوبها فى كل مظاهر الحياة.
ـــــ لم تعد هذه هى الأمة التى حاربت وقدمت أغلى الشهداء لاسترداد حريتها واستقلال إرادتها ورخاء شعوبها لم تعد كما كانت وهى التى انتفضت فى يوم، وقاومت الظلم بكل ألوانه .. هذه الأمة عاد إليها الاحتلال مرة أخرى فى كل صوره وأشكاله ولا أحد يتصور أن القوى الأجنبية عادت ترتع فى ربوعها، وأن الأعداء صاروا أصدقاء، وأن من سلب الأرض والكرامة أصبح صاحب حق يهرول إليه الجميع، الشعوب قبل أصحاب القرار..
ـــــ أقول إن خريطة العالم العربى أصابتها تشوهات كثيرة ليس فقط بين الدول ولكن الشعوب التى انقسمت على نفسها، وصارت شيعا وأحزابا، ورجعت مدنها ومرافقها وآثارها مئات السنين إلى الوراء .. إن ما حدث للمدن والقرى والمنشآت والخدمات والمرافق من الخراب يحتاج عشرات السنين، ولنا أن نتصور ما حدث للمنشآت التى أقامتها الشعوب بدماء أبنائها وكم تحتاج من الأموال والسنين لكى تضاء شوارعها وتعود بيوتها ويرجع أصحابها مرة أخرى ..
ـــــ كم يحتاج العراق وسوريا واليمن لكى يعاد بناء ما خربته الحروب ما بين الاحتلال والحروب بين أبناء الشعب الواحد .. ومتى يعود الملايين الذين هربوا من الموت ويسكنون الخيام والملاجئ فى صقيع أوروبا، وإذا كان بناء البيوت شيئا ممكنا فماذا عن إعادة بناء البشر وما حدث للشعوب من انقسامات فى الفكر والدين والأماكن وكل الأشياء؟ تغيرت النفوس والمشاعر .. وماذا يفعل أشقاء الأمس وقد فرقت بينهم الحروب والدماء والمعارك وكيف يسترد هؤلاء دفء علاقات إنسانية تساقطت خلف جدران البيوت المنهارة .. وكيف تعيش الشعوب وسط هذه الخرائب وكم من الزمن والأيام تحتاج لكى تسترد إحساسها بالناس والأهل والأماكن؟..
ـــــ من كان يصدق أن بغداد قلعة التاريخ والحضارة سوف تنقسم على نفسها إلى أحزاب وطوائف ما بين الشيعة والسنة والأكراد وعشرات الديانات والأعراق .. ومن كان يتصور أن يهرب الملايين من حلب مدينة الإبداع، واللاذقية وحماه وتحلق طائرات الأعداء على مدينة التاريخ كل ليلة .. من كان يتصور أن ليبيا سوف يحتلها الغزاة مرة أخرى وينهبون ثرواتها ويقسمون شعبها إلى قبائل متناحرة .. من كان يتصور أن اليمن الذى كان سعيدا سوف يتحول إلى أطلال وبقايا وطن .. من كان يتصور أن لبنان جنة العرب سوف يعانى الأمراض والأوبئة ونقص مطالب الحياة ويعجز شعبه المثقف عن اختيار رئيس يحكمه .. من كان يتصور أن الشعب السودانى سوف ينقسم على نفسه ما بين مدنى وعسكرى رغم أن الوطن واحد .. من كان يتصور أن تونس الخضراء تمزق شعبها الصراعات والانقسامات تحت راية الدين والدين بريء من ذلك كله .. من كان يتصور أن تصل الخلافات بين المغرب والجزائر إلى هذه الدرجة من سوء الفهم .. من كان يصدق أن تكون هذه صورة خير أمة أخرجت للناس..
ـــــ لم تعد هذه الأزمات والمحن هى ما تواجه الدول العربية من سنوات، ولكن هناك أزمات أكبر يحملها المستقبل، هناك شعوب مهددة آلا تجد الطعام والدواء والأمن .. وهناك شعوب لا تعلم متى يرحل الاحتلال الأجنبى.. وهناك من لا يعرف متى يعود لوطنه وقبل هذا فإن الناس تتساءل متى تنتهى هذه الصراعات وتتوحد الشعوب مرة أخرى، وتطوى هذه الصفحات المريرة لكى تواجه عدوها الحقيقى فى الموت والخراب والدمار، إذا كان هذا حال الأمة اليوم فماذا عن مستقبل غامض ينتظر شعوبها أمنا واستقرارا هنا يجب أن نتوقف عند عدد من القضايا الخطيرة..
الأولى : ماذا عن الامتداد والتوغل الإسرائيلى الذى اجتاح عددا من الدول العربية وهل نترك إسرائيل تلتهم الوليمة وحدها خاصة مع اشتعال المواجهة بين الثلاثى الأعظم أمريكا وروسيا والصين بما يبشر بصراع بين هذه القوى تكون إسرائيل أكبر المستفيدين فى توزيع الغنائم .. إن الشيء المؤكد أن إسرائيل تراهن على ذلك خاصة أنها تتمتع بخصائص تميزها فى قرب المكان والمصالح مع احتمال خروج أمريكا مبكرا بما يمنح إسرائيل فرصا أكبر فى الهيمنة..
الثانية : إن الشعب الفلسطينى مازال متمسكا بأرضه ويقدم الشهداء كل يوم ومازالت قضية القدس قضية العالم الإسلامى كله وليست الشعوب العربية..
الثالثة : إن بعض الشعوب العربية سوف تعانى أزمات اقتصادية حادة أمام حالة الفوضى التى يعيشها الاقتصاد العالمى، وقد يتطلب ذلك دعما من الدول العربية الغنية فى صورة التزامات مادية تفرضها جامعة الدول العربية وقد يكون ذلك أمرا صعبا على أمينها العام السيد أحمد أبو الغيط ولكنها قد تكون ضرورة..
الرابعة : إن العالم العربى يواجه مرحلة تاريخية صعبة أمام ظروف عالمية قاسية وظروف داخلية تتجه إلى مزيد من الانقسامات والصراعات والفوضى، وتتطلب التخلص من الدمار الذى لحق بهذه الأمة بسبب الحروب الأهلية والخلافات الدينية والفقر الذى اجتاح الملايين، ويحتاجون إلى عملية إنقاذ سريعة..
الخامسة : متى نواجه الأزمات بقدر من الحكمة، إن الشعوب العربية انقسمت دينيا رغم أن دينها واحد .. وحمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد بعضهم رغم أن الأمن مسئولية الجميع .. وتحولت الخلافات إلى صراعات، وإلى قتال بين الأشقاء، وسالت دماء كثيرة أمام احتلال غاصب وصراعات دينية وعرقية دمرت كل شيء .. وأصبحت الدول الغنية مطمعا للباحثين عن السلطة وقوى الاحتلال الخارجى وضاعت ثروات الشعوب فى حروب لا طائل منها والجميع فيها خاسر ..
ـــــ من يعيد الأمن لشعوب دمرت نفسها بأيدى أبنائها، وما هى نهاية هذه الرواية التى سرقت من الشعوب أغلى ما تملك من الأمن والاستقرار والموارد، وأصبحنا نجد كل يوم سفينة غارقة تحمل الآلاف من الهاربين من الموت فى أوطانهم ..
إنها محنة تحتاج إلى الكثير من العقل والحكمة حتى تسترد الشعوب وعيها، وتدرك أن ما حدث فيها كان بأيدى أبنائها ..
..ويبقى الشعر
مَا عُدَّتُ أَعْرِفُ
أين أنْتَ الآنَ يَا قَدْرِي
وَفِيٌّ أَيْ الحَدَائِقُ تُزْهِرِينْ ؟
فِى أَيّ رُكنٌ فِى فَضَاءِ الكَوْنِ
صرتِ تُحَلِّقِينْ؟
فِى أَيْ لُؤْلُؤَةُ سَكَنَتْ ..
بأى بَحْرٌ تَسْبَحِينْ؟
فِى أَيْ أَرْضٍ ..
بَيْنَ أحْداق الجَدَاوِلُ تُنَبِّتِينْ؟
أَيَّ الضُّلوع قَدِ احْتَوتك ِ
وَأَيُّ قَلْبِ بَعْد قَلْبِى تَسكُنِينْ
****
مَازٍلَّتُ أَنْظُرُ فِى عُيونِ الشَّمْسِ
عَلَكّ فِى ضيِاها تُشَرِّقِينْ
وَأَطِلُّ لِلبَدْرِ الحَزِينِ لَعَلنَّىِ
أَلْقَاكِ بينَ السَّحْبِ يَومًا تُعبرِينَ
لَيلٌ مِنَ الشَّكّ الطَّوِيلِ أَحَاطَنِي
حَتَّى أَطَلَّ الفَجْرُ فِى عَينَيْكِ نهرًا مِنْ يَقِينْ
أَهْفُو إِلَى عَينَيْكِ سَاعَاتٍ ..
فَيبدَوُ فِيهِمَا
قيْدُ .. وعَاصِفَةٌ .. وعُصْفُورُ سَجيِنْ
أَنَا لَمْ أُزَلْ فوَقَ الشَّواطئ
أَرْقُبُ الأَمْواجَ أَحْيانًا
يُراوِدُنِى حَنِينُ العَاشِقَينْ ...
****
فِى مَوكِبِ الأَحلَامِ أُلمحُ مَا تَبقَّى
مِنْ رَمادِ عُهودِنَا ..
فَأْرَاكِ فِى أَشْلائِهَا تَتَرنَّحِينْ ..
لَمْ يبْقَ مِنْكَ
سَوى ارْتعَاشَةِ لَحْظَةٍ
ذَابَتْ عَلَى وَجْهِ السّنِينْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ صَمْتِ الحقَائِبِ
والكُئوسِ الفَارغَات سِوَى الأَنِينْ
لَمْ يبقَ مِنْ ضَوْءِ النَّوَافِذِ
غَيرُ أَطْيافٍ تُعَانقُ لهفَتِي
وَتُعِيدُ ذِكرَى الرَّاحِلينْ ..
مَازِلتُ أَسْأَلُ : مَا الَّذِى
جَعَلَ الفَرَاشَةُ تُشْعِلُ النِّيرانَ
فِى الغُصْنِ الوَدِيعِ المستْكِينْ؟!
مَازِلتُ أَسْأَلُ : مَا الَّذِى
جَعلَ الطًّيورَ تَفِرًّ مِنْ أَوْكَارِهَا
وَسْطَ الظَّلَامِ ..
وَتَرْتَمِى فِى الطِّينِ؟!
****
ما عُدْتُ أَعْرِفُ
أين أَنْتَ الآنَ يَا قَدَرِي
إِلَى أَيْ المدائِنِ تَرحَلِينْ؟
أَنَّى أَرَاكِ
عَلَى جَبِينِ الموْجِ ..
فِى صَخَبِ النَّوارِسَ تَلْعَبِينْ ..
وَأرَى عَلَى الأُفْقِ البَعِيدِ
جَناحَكِ المنقُوشَ مِنْ عُمرِي
يحلَقُ فَوْقَ أَشْرِعَةِ الحَنِينْ
وَأرَاكِ فِى صَمْتِ الخَرِيفِ
شُجَيْرَةً خَضْراءَ
فِى صَحْرَاءِ عُمْرِى تَكْبُرِينْ
وَيَظَلُّ شِعْرِي
فِى عُيُونِ النَّاسِ أحْداقًا
وَفِيٌّ جَنْبِيٌّ سِرًّا .. لَا يَبينْ
لَمْ يبقَ مِنْ صَوْتِ النوارِسَ
غَيرُ أَصْدَاءٍ تُبعْثِرُهَا الرِّيَاحُ فَتنْزَوِي
أَسَفًا عَلَى المَاضِى الحَزِينْ
أَنَا لَمْ أُزِلْ بينَ النوارِسَ
أَرقُبُ اللَّيلَ الطَّويلَ
وأشْتَهَى ضَوءَ السَّفِينْ
مَا زِلتُ أَنْتَظِرُ النوارِسَ
كُلَّمَا عَادَتْ مَوَاكِبُها
وَرَاحَتْ تَنثُرُ الأَفْرَاحَ فَوقَ العَائِدِينْ
****
مَا عُدْتُ أَعْرِفُ..
أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِي
وفِى أَيّ الأَمَاكِنِ تَسْهَرِينْ؟!.
العَامُ يَهربُ مِنْ يَدِي
مَا زَالَ يَجْرِى فِى الشَّوَارِعِ ..
فِى زِحام النَّاسِ مُنْكَسِرَ الجُبَّينْ
طِفْلٌ عَلَى الطُّرقَاتِ
مَغْسُولٌ بَلْونِ الحبّ
فِى زَمَنِ ضَنِين ْ
قَدْ ظَلَّ يَسْأَلُ عَنْكَ كُلَّ دَقِيقَةٍ
عِنْدَ الوَدَاعِ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِينْ
بِالأَمْسِ خَبَّأَنِى قَلِيلًا فِى يَدَيْه..
وَقَالَ .. فِى صَوْتٍ حَزِينْ :
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
-----------------
قصيدة « لو ترجعين » 1998
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: