كنت أعرف موعد المولد النبوى الشريف من ظهور الحلوى فى الدكاكين والشوادر بألوانها الحمراء والبيضاء والمغلفة بأنواعها، كانت حلوى الأولاد حمراء عادة، وأشهرها الحصان الذى يركب على ظهره مقاتل يحمل سيفا، وللبنات عروسة بيضاء ملونة بأوراق فضية، ومازالت عروس المولد والحصان لهما وضع الصدارة فى قائمة الحلوى، وكنا نتبارى فى الاحتفاظ بأحصنتنا المصنوعة من السكر المذاب، والمصبوب فى قوالب خشبية، يخرج منها أشكال خلابة من الحلوى التى نضعها بحرص فى مكان آمن ومميز بعيدا عن النمل الذى يبحث عن حبيبات السكر اللذيذة إلى أن يداهمنا الجوع أو نضعف أمام طعم الحلوى، بعد أن نقضى على ما فى العلب من حلوى السمسمية والحمصية والملبن المغلف، فيأتى الدور على الأحصنة والعرائس، ونبدأ بأكل حوافها وزوائدها التى لا تغير شكل الحصان، وبذلك تقترب نهايته بتحويله إلى طبق مهلبية.
كانت هذه أهم ملامح المولد النبوى الشريف فى الطفولة، وكنا أيضا نشارك الكبار فى أحيان كثيرة فى حضور الاحتفالات الدينية، وحلقات الذكر، ومشاهدة مسيرات الجماعات الصوفية بأعلامها وأناشيدها، إلى أن ظهرت جماعات التطرف التى تكفر من يحتفلون بالمولد النبوى، وتعترض على مظاهره من بيع وتوزيع الحلوى، حتى حلقات الذكر والإنشاد التى كانت تسبق وتلى تلك المناسبة العطرة، وكان الكثيرون يتحدّون تهديدات تلك الجماعات، ولا يبالون بما يقولونه عن الحلال والحرام فى الاحتفال بتلك المناسبة، وعندما كبرت سألت عددا من الشيوخ الذين أجلهم وأعرف قدر علمهم، فلم أجد منهم من يحرم الاحتفال، بل قال معظمهم إن علينا أن نحتفل بتلك المناسبة على مدار العام، وإن لم يكن من الضرورى توزيع وشراء الحلوى، لأن الأهم هو استحضار سيرة الرسول الكريم والعمل بها، وهذا لا يتعارض مع مظاهر البهجة بالمناسبة الجليلة، ولهذا كرست الكثير من الوقت لقراءة كتب السيرة النبوية، وكلما قرأت أدركت كم هى ضرورية لنا لنعرف جوهر ديننا الحنيف، وما به من أسس سمحة وتعاليم تقودنا إلى السلام النفسى، وطوق النجاة من الجنوح، وزاد بغضى وابتعادى عن تلك الجماعات المتطرفة التى تقدم نموذجا بعيدا عن تلك السيرة العطرة المليئة بالمواقف والسلوكيات والمبادئ التى تركز على أهمية العمل والتضحية والتسامح والإخاء، ووضعت مبادئ لحقوق الإنسان والمواطنة، تفوق ما يردده الغرب الآن، ويستخدمه فى أحيان كثيرة فى غير غرضه وموضعه، ويوظفه لحسابات سياسية ضيقة، فالإسلام لا يفرق بين الناس على أساس اللون أو العرق، ولا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى، والتقوى تعنى التضحية والحب وإعلاء القيم النبيلة، والعمل من أجل ارتقاء الوطن والأهل، وهكذا تكون التقوى هى العنوان والميزان المميز، لترسى مبدأ أساسيا للدور الإيجابى للفرد والجماعة، فالتقوى هى الطاقة الإيمانية التى تحافظ على جوهر السلوك، فإجادة العمل تقوى، والسعى إلى العلم تقوى، وإغاثة الضعيف والمريض تقوى، والمصالحة بين المتخاصمين تقوى، فالتقوى هى فضيلة وسلوك والتزام تجاه الله تعالى ومخلوقاته، وهى النبراس فى أداء العمل على خير وجه تجاه الوطن والأسرة والمجتمع، وهى الصدق والصفاء والترفع عن الأنانية، وهى الحب والصدق والاحترام، ولهذا كانت التقوى هى معيار الإنسانية التى يدعونا إليها ديننا الحنيف، وما أحوجنا إلى التقوى هذه الأيام، بل ما أحوج العالم كله إليها، ونحن نرى ما يمر به من أزمات وحروب خطيرة، تجاوزت ما مرت به البشرية من المحن والمخاطر، فالحروب تطورت وتنوعت، من حروب اقتصادية تستهدف لقمة العيش، إلى حروب سيبرانية تستخدم أرقى أنواع العلوم الحديثة فى الإيذاء بالآخرين، إلى الحروب المعلوماتية التى تعرف كيف تصل إلى العقول وتحرفها وتسمم الأفكار وتنشر الفتن بطرق لم تكن معهودة، وتقسم المجتمعات وتنشر الضغينة والأحقاد، وكأن الإنسان قد زادت معارفه وقوته على حساب تقواه، فأصبحت أسلحة العلم والعمل تتوجه نحو الإيذاء وليست نحو تحسين الحياة والتخفيف من المعاناة، وأى عمل بلا تقوى يقودنا نحو المهالك، وهى كثيرة هذه الأيام، وتهدد البشرية بالكثير من أدوات الحروب الحديثة، ولهذا علينا فى هذه الأيام المباركة أن نتزود بالطاقة الإيمانية، وأن تكون التقوى عنوان سلوكنا، فهى أكثر ما نحتاجه لنرتقى بوطننا، ونضمن حياة هادئة وآمنة لأبنائنا وأهلنا ومجتمعنا، وأن نسعى لتكون التقوى عنواننا فى العمل والعلم والسلوك، لنجنى ثمار العطاء والتقدم الحقيقى الذى يقود البشرية نحو عالم خال من الكراهية والفتن، ويكرس الحب والاحترام والتضحية.

وجاءت ذكرى حرب أكتوبر المجيدة لتواكب الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف، وكانت حرب أكتوبر خلاصة جهد وعرق وإصرار وتضحية وفداء من أجل الوطن والمجتمع، إنها نموذج العمل الجاد والعلم النافع فى الدفاع عن الوطن والشعب وتحرير الأرض، فبما بذله أبناؤنا من عمل قبل الحرب، سواء على الجبهات أو فى مختلف مناحى الحياة، نجد أن تلك الحرب المعجزة لم يتحقق فيها النصر إلا بالعمل الجاد والتضحية والفداء من أجل الوطن، وتثبت أننا قادرون على فعل المعجزات فى ساحات الحياة والإنتاج بالتآزر والتكافل والمحبة والصدق، فهذه الروح التى صنعت النصر، وعبرنا فيها الهزيمة والانكسار تمنحنا الثقة فى إكمال مشوارنا نحو حياة أفضل وأكثر أمنا، والسر يكمن فى فهمنا للتقوى التى وضع لنا الله معالمها، وسار على هديها رسولنا الكريم، وفيها يكمن ميزان التفرقة بين العمل الصالح من أجل إعلاء قيمة الإنسان والوطن، والعمل الردىء الذى يفرق الناس، وينشر الضغينة والفتن.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت رابط دائم: