رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة.. تكتبه: جيهان الغرباوى
بحر التنازلات

مثل مسافر ينتظر اقلاع طائرته بعد ساعات ولا يفكر في المدينة التى يتركها خلفه ويعطيها ظهره ويهاجر

أنظر أنا الآن نحو الدنيا والسنوات التى مضت من حياتى !

بعد أن جاوزت السبعين من عمرى ماعاد شىء في الدنيا يستطيع ان يثير في نفسى الرغبة في التمرد او الانتقام

لكنى أريد ان أحكى لكم ما حدث لى

حتى تتعلم البنات وينتبه الشباب بالذات كيف يتجنبون التعاسة وإهدار العمر بتنازلات غير محسوبة · أبى كان ضابطا وسيما من عائلة ارستقراطية للغاية، وكان قارئا رفيع المستوى في ثقافته وسلوكه

تزوج السيدة الجميلة التى يحبها وعاش معها 30 سنة .. لكنهما لم ينجبا !

بعد وفاة زوجته الاولى تزوج أمى فأنجبنى وهو يبلغ من العمر الثالثة والخمسين من عمره .

كان يسمينى الفاكهة التى جاءت بعد الأوان وكان يحبنى جدا، ورغم حزمه الشديد كان حنونا للغاية وفي غاية الكرم معى ومع امى

كنا نسكن فيلا جميلة في حى راق ، ولله الحمد كنت فتاة جميلة ونجيبة ومتفوقة دراسيا

توفى ابى وانا صغيرة السن وعانيت بشدة من افتقاده

لكنى استطعت رغم كل شىء الحفاظ على تفوقى الدراسى و فيما بعد دخلت كلية الطب واصبحت الدكتورة الشاطرة التى تمناها ابى .

 

لم تكن الحياة سهلة بعد افتقاد ابى ، فقد كانت امى جميلة وصغيرة وتزوجت للمرة الثانية

 

ومثل أغلب الفتيات في ظروفى لم أكن أرتاح لزوج امى، خاصة ان الزواج كان عرفيا حتى تحافظ أمى على معاش ابى الكبير كما هو المعتاد في مثل هذه الحالات .

مع نهاية دراستى في كلية الطب تقدم لى عريس من جهة أحد أقاربنا وكانت مزاياه وقتها انه مهندس شاب له عمل في دولة عربية قريبة وله مستقبل، وكان من وجهة نظر اسرتى مؤدبا لأنه قليل الكلام قليل الضحك والمزاح ففسروا ذلك بأنه شاب جاد وخلوق وملتزم دينيا.

لكنى اكتشفت بعد الزواج ان هذا السكوت كان يخبئ أهوالا ..

تم زواجى في السبعينيات من القرن الماضى ومن يومها وحتى الان وانا اعيش حياة في غاية الصعوبة والاذلال لم يتوقعها لى أحد ابدا

اقيم حاليا في شقة صغيرة متواضعة جدا مع زوج لا يترك اى فرصة الا ويقلل من شأنى ويلومنى أويسبنى او يسخر منى او يهددنى بالطلاق حتى ونحن في هذه السن وقد تجاوز هو الان الثمانين من عمره !!

زوج شخصيته اعتمادية لدرجة انه من بداية زواجنا والى اليوم لا يعرف حتى مقاس ملابسه الداخلية او مكان شراء الحذاء الذى يضعه في قدمه او رقم الطبيب الذى نستغيث به ونحضره للبيت حين يتعرض لازمة صحية وذلك لأنه يعتمد على في انجاز وعمل كل شىء.

بما في ذلك طبعا المشتروات واحضار الخضار ولوازم البيت من السوق والتعامل مع السباك او الكهربائى و اى عامل يدخل عندنا لاصلاح اى شىء

أضيفى الى ذلك متابعة دراسة ومصاريف الاولاد وحل اى مشاكل تتعلق بى او بهم والوفاء بالواجبات الاجتماعية و العائلية ان تطلب الامر مع عدم سؤاله عن انجاز اى مهمة او طلب حتى لو كان ذلك من واجباته الاساسية .

منذ ان تزوجته اكتشفت انه ممثل كبير ، يحب ان يبدو للناس كما لو كان شيخ طريقة معمما ، بينما هو في حقيقته ليس اكثر من شخص كسول جهول وغاية علاقته بصفة المهندس انه تخرج في كلية الهندسة وبعدها تم تعيينه في شركة على مكتب فصار مع

السنوات ليس اكثر من موظف روتينى عادى جدا ومحدود

قد تسألين عن الاسباب التى تجعلنى أعيش كل هذه السنوات والابتلاءات مع رجل أعانى بسببه أشد انواع الاهانة والاذلال والمعاناة المادية والنفسية ، وانا الطبيبة الشاطرة فاكهة العائلة التى تربت في فيلا في حى راق وابى كان لا يقول لأمى الا يا هانم .. لدرجة ان الناس كانت تتصور ان (هانم ) هو اسمها وليس لقبا للتقدير والتدليل والاحترام

الاجابة ببساطة : أولادى

احمد وكريم هما اقوى اسبابى !

من البداية و بسبب ظروف عمل زوجى عقدنا القران في مصر ثم سافرت اليه وتزوجنا وأنجبت ابنى الكبير في الغربة

عشنا سنوات حياتنا الاولى في ليبيا ، وبسبب الخلافات السياسية التى كانت بين القذافى والسادات في تلك الفترة

لم نستطع التواصل مع مصربسهولة على كافة المستويات

تعرضت لمواقف صعبة جدا وعشت مشاعر مؤذية من الاحساس بالعزلة والكبت والضغط النفسى الذى زاده دخول زوجى السجن هناك بسبب وشاية احد زملائه في العمل.

وحتى الافراج عنه عشت شهورا وحيدة ومذعورة ورفضت ان أغادر حينها الى مصر وأتركه في محنته التى لا يعلم نهايتها الا الله

كان منزل الزوجية في هذه الاثناء يتعرض للمداهمة والتفتيش فجأة وبلا مقدمات وبلا اسباب مفهومة

فتركت المنزل وانا ما أزال عروسة جديدة وافدة من مصر قبل اسابيع

ومن فضل ربنا كان هناك اسرة مصرية طيبة مغتربة في ليبيا منذ سنوات فتحت لى قلبها وبيتها كى أعيش بينهم في امان حتى يحل الله مشكلة زوجى.

فغادرت على عجل الى بيتهم ليس معى من ملابسى غير القليل جدا، لدرجة انه اصبح من امنياتى في هذه الفترة ، ان تجف ملابسى المغسولة بسرعة لأعيد ارتداءها ، بعدما عدمت البديل !!

كانت الايام معتمة لكنى انتظرت وصبرت حتى خروج زوجى من السجن وساندته حتى إثبات براءته من التهم التى نسبت اليه .

كنت مثالية جدا في احساسى بالواجب كما ربانى بيتى وتمسكت ان أربى اولادى بنفس الطريقة على الاخلاق والصدق والاعتبارات الانسانية قبل المادية والاحساس بالواجب وبالقيمة دون السؤال عن المقابل والثمن .

انا احب اولادى جدا هم اكبر كنز في حياتى و من أجلهما اضحى بكل شىء ولا اندم ..

لم استطع ولم افكر في بداية زواجى - وكنت جميلة وصغيرة - ان اترك البيت فتغرق بهما السفينة ويعيشان بعيدا عنى او بدون أبيهما وانا من الاساس عندى عقدة افتقاد الاب ولا اريد ان يتعذب بها ابناى لأى سبب

حتى لو ابوهما سيئا وليس عظيما او رجلا كريما مثل ابى فلن أرضي لهما الحياة من زوج الام .

تصورت انى أضحى واختار لهما الافضل لكنى الان انظر نحوهما بحسرة شديدة.

لم اعد اهتم بمعاناتى الشخصية ولكن همى كله الان : احمد وكريم والمستقبل المجهول الذى ينتظرهما

ابنى الكبير يقترب الآن من عامه السادس والثلاثين دون عمل ولا زواج

لقد درس هندسة البرمجيات والكومبيوتر لكنه بسبب تعاسة بيتنا يعيش بشخصية مهزوزة متوترة يدخن بشراهة يميل لليأس والكسل ويكاد يكون نسخة من شخصية أبيه الاعتمادية غير المبالية وهذا يقتلنى نفسيا ولا أستطيع التحكم فيه ولا إصلاحه.

يعلم الله اننى لم أقصر في واجباتى كأم

والدليل ان ابنى الاصغر طبيب ناجح ومحبوب وطيب جدا ومجتهد وعطوف للغاية

لكنه هو الآخر لم ينج من آثار القهر والتعنت والتعاسة التى يعايشها في البيت ، انه في بداية عامه الثلاثين لكن دخله محدود لا يعينه وحده على الزواج وفتح بيت ويبدو ان انانية وقسوة أبيهما تركت لهما نفسا مشروخة بالخزلان والخوف.

يقولان لى : كيف نعيش بالاخلاق في مجتمع متوحش بلا ضمير ولا أخلاق ؟؟ هل تتعمدين ان نعيش ضعفاء وضحايا طوال العمر مثلك ؟

·لا تبالغون مثلى في تقديم التنازلات !

لقد خسرت كثيرا

حتى نصيبى في ميراثى يستولى عليه أخى الأصغر وليس عندى قوة وامكانيات كافيه لأقاضيه ، وفي نفس الوقت من شدة تسلط زوجى وظلمه ، أخشى لو أخذت ميراثى ان يستولى بالقوة عليه لذا أفضل ان يستمتع به اولادى من بعدنا ماذا بقى لى من حصاد هذا الشقاء الطويل ؟

الحمد لله على كل شيء .

سهير

 

----------------------------

· عزيزتى السيدة سهير صاحبة الرسالة

ألتقط انفاسى أخيرا بعد أن قرأت رسالتك وكأنى شاركت فيها المعاناة بكل تفاصيلها العاطفية والانسانية والمادية

من فرط صدق التفاصيل التى لم ننشر بعضها لضيق المساحة المخصصة للنشر ، شعرت انى اعيش معك بعض ايامك

أحس بك لأنى أمرأة مثلك أعرف ما وراء كلماتك واعرف طعم المرارة اذا شعرت المرأة ان الرجل الذى تنتظر منه المساندة والأمان والحب والتشجيع هو نفسه يصبح في حياتها مصدر القلق والاهانة والتهميش والتسفيه او سبب ضياع الفرص والعوز والاحتياج لمساندة وتعاطف الغرباء.

كيف فكرت في العواقب والمستقبل والمجهول بكل هذا الرعب وسوء الظن ولم تفكرى ان تخرجى من قاع البحر ومعك نفسك وكفى ؟

لقد كرم الله بنى آدم فلماذا يرضى الانسان على نفسه الاهانة وضياع الحقوق لدرجة الاهانة أو العبودية ؟

أسهل شيء ان نسدى النصائح ، لكنك غير محتاجة للنصيحة .. أبدا وعلى العكس انت الان بكل كرم وتجرد واهتمام بالآخريين تسدين لنا خدمة كبيرة بحكى قصتك عسى ان تنفع من يستمع للقول فيفهمه ويتعلم منه ويتبع احسنه.

انت بنفسك من اكتشف ان البيت التعيس هو أسوأ جريمة يمكن ان نرتكبها في حق أولادنا.

وان استمرار الاقتران والعيش بشريك ظالم لا يمكن ان تكون له نهاية سعيدة .

احيانا تكون التنازلات مثل بحر عميق لا قرار له .. وعلينا ان نتعامل معه بحرص ونتحسس كل خطوة فيه ، حتى لا يسحبنا التيار لنقطة نفقد فيها السيطرة حتى على انفسنا.

علينا الا نغتر بالحب او بالمثالية الشديدة كمن يحسب انه يجيد العوم ويستطيع نزول بحر هائج في يوم سيىء الطقس

تقدير الذات لا يتعارض مع الحب وليس له علاقة بالانانية

بل ان الواجب يحتم الدفاع عن النفس بالابتعاد عن الأذى وعن اى انسان يهز صورتى او يزعزع ثقتى بنفسى ويجعلنى أقارن نفسى بالآخرين او أشعر بالضآلة او أعيش بعقد لذنب .

لقد صرنا نعيش في حياة قاحلة من العواطف وشرسة وخطرة لدرجة لا تحتمل ابدا ان نفقد مزيدا من الطاقة والأمان في بيوتنا .

دعونا نقدر أنفسنا وكأننا نشكر الله على كل نعمة اعطاها لنا ونصون تلك النعمة من الاهدار والاهانة والضياع

التعساء في بيوتهم هزيمتهم سهلة !

فكيف يعطى الانسان لغيره شيئا نافعا ان كان هو نفسه مكسورا من الداخل او فاقدا لأى طاقة تعينه على الحياة والحب ؟

من بداية الرسالة تلح على أذنى ابيات الشاعر صلاح جاهين :

اقلع غماك يا تور وارفض تلف

اكسر تروس الساقية واشتم وتف

قال : بس خطوة كمان .. وخطوة كمان ..

يا أوصل نهاية السكة .. يا البير يجف

عجبى !

أعلم ان الجميع تقريبا لديه شىء يريد ان ينجو منه ، وأعلم ان محاولة الخروج من عمق البحر ليست سهلة ..

لكن الأمر يستحق !

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق