-
سأصون ذاكرتى وتذكارات أمـــل بين دفـتى كتاب وأحـلم بمتحف يحمل اسمه
-
عشت معه الاندهاشة الأولى.. كنت صاخبة كثيرة الكلام كثيرة الحركة.. كنت زوجة متعبة
-
كانت زيارتنا للطبيب كفيلة بأن أبكى قبلها وأثناءها ولأيام بعدها
-
منذ سنين بعيدة تحول أمل إلى فكرة راسخة وحضوره دائم وقوى
-
كثيرون تعاملوا معى كأيقونة لحكاية حب وحاولت الانفكاك من سطوتها
فى عام 1987 قرأت «الجنوبى» الذى خلدت به زوجها الراحل.. ابهرنى فى الكتاب ذلك العشق لرجل عنيد ثائر؛ فلم يكن الزوج عاديا بأى حال من الأحوال..
كان امل دنقل هو من قال لا «فى وجه من قالوا نعم»..
كان أسطورة واظنه لا يزال، ولكنه فى البدء والأخير كان زوجها الذى رحل..
رحل بعد زواج قصير أعقبه انتقال إلى الغرفة رقم 8 وصراع منهك مع المرض الذى قتله...
فى ذلك الحين ومنذ ما يقرب من 35 عاما أحببت رؤيتها له، وما فلسفت به غضبه، وتمرده، واحيانا قسوته على نفسه، وكذلك طبائعه الحادة التى رأتها ودونتها بغرام وعيون ملؤها حب يتجاوز التصورات..
وقتها لم أتخيل أننى سأقترب منها لهذا الحد، وقد صارحتها، عقب الانتهاء من الحوار، انى ولأول مرة أشعر انى قريبة منها إلى الحد الذى لمست به روحها..
واعترف بأنى كنت اعتقد ان عبلة، جامدة الى حد كبير، فلا تبالغ ابدا فى إظهار مشاعرها، ولكنها صارحتنى انها بعد سنوات طوال كانت فيها لا تكف عن البكاء صارت لا تنفعل كثيرا.
وعن الألم والدموع حكت لى ان زيارتهما للطبيب وحدها كانت مدعاة بكاء متواصل قبلها واثناءها ولأيام بعدها، حتى انها عندما مات الحبيب بحثت عن دموعها فلم تجد البكاء، نفد البكاء.
انها عبلة الروينى الكاتبة والناقدة المسرحية ورئيسة تحرير اخبار الأدب سابقا بعد انتخابات اختارها فيها زملاؤها وتلاميذها، والتى تم معاملتها فى عهد الاخوان بتعسف.. ترى أن الكتابة لم تعد المبرر للحياة بل صارت هى الحياة نفسها لإثبات انها تعيش، حيث تقول:
فكره الكتابة والعلاقة بالقارئ، والعمود ومتابعة الحدث اليومى، والتفاعل، والاشتباك، والانفعال به، وعليه، تجعلنى مرتبطة بالحياة. لذلك من الممكن ان اغضب بالمصادرة وانفعل بالمنع او بحذف مقالى او تأجيله.. ورغم أن الكتابة اصبحت مشقة او انى بالفعل تعبت من اختيار الموضوع او أنى لم اعد انفعل بكل ما يدور حولى واصبحت لا أتحمس كثيرا.
رغم كل الصعوبات من أجل كتابة هذا العمود الصغير اليومى، ولكن انتظار ردود الافعال صارت الصلة الوحيدة التى تربطنى بالحياة.
فى يوم الحوار وفى الصباح تحديدا، على مقعدها جلست واسترسلت فى الحكى بعد أن طلبت منها أن تنسى كل شىء الا عبلة والجنوبى..
بل لا تنسى عبلة الروينى التى عاشت 39 عاما بعده وتحدت لقب الأرملة بعالمها الخاص رغم كل سطوة الاسطورية التى حاول البعض فرضها عليها بالمحبة الحنونة حينا وبقساوات المحبة احيانا كثيرة..
وكان الحكى دفقات متعاقبة أشهد بصدقها..
حيث صممنا معا على حوار مختلف لا يكرر ما سبق أن حكته عن أمل.
وفى البدء قالت..
«منذ سنين بعيدة، ربما بعد رحيله.. لا يحضر امل بشكل شخصى..تحول الى «ضوء»..صار فكرة راسخة.. وهذا حضوره الدائم والقوى»..
فى تلك اللحظة سألتها:
هل يعيش فى نفس البيت الذى عشتما فيه انت وأمل؟
فأجابتنى «لم يكن هناك بيت اصلا»!!
وواصلت: لذلك عندما تسأليننى «هل كنت زوجة متعبة؟ فاجيبك الآن.. نعم كنت زوجة متعبة فعلا ولكن بانفعالاتى.. كنت صاخبة.. كثيرة الكلام.. كثيرة الحركة والدهشة والانفعال... متعبة من هذا الجانب. فقد كنت وقتها ما يشبه الطفلة التى بلا خبرة وبلا تجربة ودخلت فى عالمه، فعندما عرفته كان عمرى 21 عاما لكننى حين تزوجته كنت 24 عاما، وكان 13 عاما فرق تجربة وليس عمرا.
كنت من عالم آخر لا يشبهه فى التكوين والتفاصيل، وبالتالى كنت اكتشف معه العالم واتعلم، التجربة اثرت بى ليس لانى أحببته فقط بل لانى تعلمت الحياة بها ومنه، ولاننى رأيت واختبرت الألم والوجع والاصدقاء والحلو والمر.. بل رأيت معه الاندهاشة الأولى.
من أنت؟ وكيف تعرفينه هو؟!سألتها.. وأجابتنى:
اصعب سؤالين لا أعرف كيف أجيب عنهما، كيف اشرح نفسى وكيف أفسرها.. انا امرأة برج الحمل النارية المندفعة، سريعة الغضب، وطفلة رومانسية أو كنت كذلك..
وعشت عمرى أجابه رومانسيتى، وأظن انى لم امحها تماما ولكن نجحت فى اخفائها.
انا من عائلة دموعهم قريبة.. كان عمى يبكى عند مغادرة ضيوفه لبيته..
وكنت فى التاسعة ربما عندما احتضنت الراديو المعلق على الحائط وعبدالحليم حافظ يغنى «باحلم بيك انا باحلم بيك» لم يكن هناك سبب للبكاء، ولم تكن طفلة التاسعة تمتلك أو تعرف معنى الأسباب.. مرت السنوات ولم أعد ابكى.. الأدق لم أعد أسمح باقتراب ينتهى بغياب ووداع الضيوف على سلالم البيت كما اخبرتك..
سألتها قلت.. «مازلت أعيش فى منطقة ضوئه».. هل الاعتراف بذلك يزعجك.. ويذكرك بأنك أرملة.. ام أنها منطقة كانت مجالا فسيحا لخبرات اهلتك للنجاح والابداع؟
اجابتنى عبلة الروينى بقوة ناعمة وحادة:
منذ سنوات قاطعت تقديم أحمد فؤاد نجم لى فى برنامجه التليفزيونى، حين عرفنى بأرملة أمل دنقل..
من البداية، من لحظة وفاة امل وكنت صغيرة «أواخر العشرينيات» وأنا يزعجنى لفظ أرملة، الذى يوحى بالكسرة والغبن، وهو مالم اكنه ابدا.. كنت دائما قوية ومستقلة وقادرة أن أحارب وحدى..
«مازلت أعيش فى منطقة ضوئه» هذا ليس اعترافا.. لكنه بالضبط هو ما حاولت عمرى كله الانفلات منه.. مشكلة صعبة وكبيرة لكل المرتبطين بأصحاب الضوء الساطع.. كيف يمكنهم الخروج، بينما هم متورطون فيه بالفعل وفخورون ايضا.. المشكلة مع أمل دنقل أكثر صعوبة، كان متفردا وخاصا، شاعرا استثنائيا وشخصية استثنائية وحياة استثنائية أيضا جعلت منه أسطورة «حاول الكثيرون تثبيتى فى هذا المشهد»..
كثيرون تعاملوا معى كأيقونة لحكاية حب، ساهمت فى صياغة كثير من رؤيتهم وأثرت فى وجدانهم.. «ورغم ارتباطى وانتمائى وزهوى.. رغم انى جزء من الحكاية» حاولت الانفكاك من سطوتها وضوئها.. أنا لا أعيش فى منطقة ضوئه، ولا اريد.. لكنى نتاج تجربة خلقت فى هذا الضوء، تجربة بالغة العمق والخصوصية والتفرد.. تجربة أسست كثيرا من ملامحى الشخصية، وصاغت كثيرا من قيمى وصورتى..
أصبحت مزيجا من الرقة والصلابة ومن الحدة والطيبة.
لم يكن الزواج بعد أمل مرفوضا!
سألتها عن العمر الذى استمر وتواصل بعد أن سألها امل يوما «ماذا ستفعلين ان مت؟» وعن ردها المباشر «سأفعل كما ستفعله أنت إن مت».. وطلبت منها أن تحكى لى عن كلمة أرملة التى لا تحبها وعن الزواج الذى كانت لا تمانع حدوثه إن شعرت بوجود شخص مناسب ولكنه امر لم يحدث بناء على رغبتها؟
قالت لى عبلة وهى تبتسم وكأنها تستدعى الذكريات:
فكرة الزواج والحب والارتباط لم تكن مرفوضة نهائيا؛ لان الحياة تستمر، والفكرة لم تكن تفزعنى ولم تؤثر على، إنما واقعيا لم استطع، فمن الممكن ان اكون قد اعجبنى شخص او أعجب بى.. وربما حدث ذلك من جانب اشخاص لم يكونوا يعرفون أمل ولكنه كان مجرد إعجاب لم يفض إلى أى شىء، فالاوقات التى اعجبت بالبعض لم تكتمل المشاعر لتكوين حكاية، كانت العلاقة تنهار قبل أن تبدأ،حيث كنت لا شعوريا أراهم ضعفاء ومتكالبين على الحياة او حتى كذابين، بل كنت أقارنهم مع نفسى، لقد عشت كمن امسك النار، وعرفت أنه لن يكون اى شىء اخر بقوتها.. كانت الأمور فى هذا الاتجاه تنتهى دوما من البداية بدون مقارنات ولا مواقف مسبقة؛ لان اى مشاعر قبل ان تكبر كنت اكتشف انهم أقل من الحياة التى عشتها، والتى استحقها ولم يكن ذلك غرورا، فكانوا يتساقطون.
وبالتالى ممكن تكون عاشت لى صداقات مع أصدقاء رجال دون تداخل يؤدى لما يتخطاها.
صيانة الذاكرة!
فصل جديد فى حياة عبلة الروينى..
وفيه تحكى و تقول لى:
حين سألت الأستاذ هيكل «فى الانتخابات الرئاسية بعد ثورة يناير 2011» لمن تعطى صوتك؟ ابتسم قائلا: لن أذهب الى صناديق الانتخاب، كل شىء صار ورائى، ولا طاقة لى للمشاركة فى المستقبل!!..
أنا أيضا كل شىء ورائى، وكأنى أفتح فى حوارى معك خزانة أيامى، وأستعيد ذاكرة مرت.. هل تعلمين أنى أتدرب منذ سنوات وبصورة يومية على صيانة الذاكرة، أستعيد أسماء وأشياء وموضوعات وأشعار كى لا أنسى.. وما يشغلنى حاليا هو صيانة الذاكرة بالفعل، ومحاولة الانتهاء من 3 كتب.
قلت لها تعالى نتحدث عن مشاريعك فى صيانة الذاكرة.. فأجابتنى:
مشروع كتاب «تذكارات امل دنقل» ولم يكن مشروعى وإنما كان مشروع الفنان الكبير محيى اللباد رحمه الله ليضم فى كتاب كل تذكاراته دون كتابة بوثائق حقيقية ولكنه توفى..
هذا الكتاب أشبه بمتحف وكان بالفعل نواة متحف
رجوت وزارة الثقافة أن يأخذوها ويقيموا منها دولابا تذكاريا باسم أمل دنقل.. فى بلاد العالم كله يأخذون تذكارات المبدعين ويقيمون بها متاحف مثلما حدث فى الإسكندرية فى بيت كفافيس
ثم واصلت باهتمام شديد:
احرص على ألا تتبدد المقتنيات وتضيع وطالما أن الدولة ليس لديها فكر وثقافة الحفاظ على تراث المبدعين فعلى ان اقوم بتلك الصيانة بحد أدنى أن يوضع بكتاب..
من أجل ان لا تتبدد برحيلى يوما.
وماذا عن باقى مشاريعك؟
اجابتنى:
فى إطار مشاريع صيانة الذاكرة عندى انشغال آخر، وهو رسائل الكاتب المسرحى السورى سعد الله ونوس التى تبادلناها معا، والتى اعتبرها مساحة فكرية مفتوحة.
استعادة ما حدث!
انا الآن متشبثة بالحياة عبر الكتابة اليومية واصون الذاكرة خوفا مما قد يأتى، انهما خطان بحياتى، حيث ما يربطنى بلحظتى الحالية، وآخر لمنح مساحة للغد.
ثم سألتها:
لماذا تلك المساحة لكتابات باسماء شخصيات؟!
لماذا حسن سليمان وعبدالله ونوس؟
اجابتنى: هناك كتاب لى بعنوان «وكأنه الهوى» هو مجموعة مقالات، لكن العنوان يعكس رؤيتى للكتابة كهوى وانحياز... لم أحاول ولم اخطط فى اى يوم لتأليف كتاب، جميع كتبى هى من نتاج اهتماماتى.. أقصد أن الكتاب نتاج سنوات من كتابته والانشغال بمفرداته وعالمه.. كانت متابعتى للشخصيات، ورصدى النقدى لمسرح سعد الله ونوس على مدى سنوات وسنوات انتهيا الى كتاب «حكى الطائر»...الحوار مع كثير من الشعراء ومتابعة تجاربهم انتهى الى كتاب «الشعراء الخوارج».. «نساء حسن سليمان» كان شغفا ورغبة فى المعرفة بعالم المرأة الموديل، حيث كنت مهتمة بالمعرفة أكثر من محاولة تقديم صورة..
انها ليست الشخصيات لكن هو الدخول الى عوالم مختلفة ومهمة تستهوينى قيمها الجمالية.. عالم المسرح لدى سعد الله ونوس.. قيم التمرد والخروج لدى الشعراء الخوارج.. عالم اللوحة فى نساء حسن سليمان.
ثم كان هناك سؤال لابد منه لامرأة قوية بمنتهى رقتها:
عبر الاطلالة على عالمك.. هل تشعرين بالخسارة والفقد؟
اجابتنى بصوتها الواثق الرقيق القوى:
لو عادت حياتى مرة اخرى لكررتها كاملة..
فلا توجد حياة خاسرة..
صحيح كان هناك فقد كبير، لكن مع كل فقد، كان هناك نضج ووعى وعمق وصلابة..
بقدر الفقد تعلمت أكثر.