بعد مرور ثلاثة أسابيع لا يستطيع أحد روسيا أو أوكرانيا أن يدعى أنه انتصر فى المعارك.. والسبب فى ذلك أننا أمام قوتين لا تكافؤ بينهما.. نحن أمام قوة عسكرية ضاربة اقتحمت حدود دولة صغيرة كانت فى يوم من الأيام من توابعها وربما كانت من مصادر قوتها حين كانت أوكرانيا أهم مواقع السلاح النووى فى الاتحاد السوفيتى والمعادلة غير متكافئة بكل المقاييس..
ــــ إن روسيا قوة عسكرية ضارية فهى من أهم مصادر توريد السلاح فى العالم وهى تملك ترسانة نووية يضع العالم، لها ألف حساب.. كما أن روسيا طورت أنواعا جديدة من السلاح ربما تفوقت على القوى العظمى سواء كانت أمريكا أم الصين.. من هنا كانت المواجهة سلوكا عبثيا اندفعت إليه أوكرانيا بتحريض أمريكى وتشجيع من الاتحاد الأوروبى واعتقاد خاطئ بأن أمريكا يمكن أن تدخل الحرب مع أوكرانيا.. قد يكون السؤال لماذا اجتاح بوتين أوكرانيا وهل كان يدرك مخاطر ذلك.. ؟
ــــ الواضح أن الرئيس بوتين كان يشعر بالإهانة ويعتقد أن أمريكا والاتحاد الأوروبى قد استهانا به خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.. وكان شاهدا على هذه اللحظة التاريخية الصعبة فى حياة شعبه.. حتى اللحظات الأخيرة قبل اشتعال الحرب كان بوتين يتوقع أن تدرك أمريكا والاتحاد الأوروبى خطورة تهديد أوكرانيا لأمن واستقرار روسيا فى محاولاتها الانضمام إلى الإتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسي.. وقبل هذا سعيها إلى إعادة قدراتها النووية خاصة أن ما بقى لديها من المفاعلات النووية والخبرات يؤهلها لذلك..
ــــ كانت مخاوف روسيا شيئا مشروعا فى حرصها على أمنها واستقرار شعبها.. لم يقدر أحد مخاوف روسيا وربما تعاملت أمريكا مع الرئيس بوتين بقدر من التعالي.. وقبل هذا كله فإن بوتين لم ينس انهيار الاتحاد السوفيتى ودور أمريكا فى هذه المؤامرة التى أحاط بها الغموض حتى الآن.. من هنا كان قرار بوتين الذى فاجأ به العالم كله باجتياح أوكرانيا وتدمير كل قدراتها العسكرية.. حتى الآن لا يمكن أن يقال إن بوتين كسب الحرب على المستوى العسكرى ولكن يمكن أن يقال إنه كسب ما هو أكبر من الحرب فقد نجح فى تغيير منظومة إدارة شئون العالم لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية..
ــــ إذا كان الاتحاد السوفيتى قد سقط منذ سنوات على يد أطراف مجهولة وغامضة فقد استطاع بوتين أن يهز صورة أمريكا أمام العالم كله وأن يسقطها من عرشها.. وأن يحرك أعداءها فى كل مكان.. أفاقت أمريكا والاتحاد الأوروبى على حقيقة صادمة أن الحروب لم تعد فقط قتلا ودمارا وأسلحة متطورة ولكن لغة المال يمكن أن تكون سلاحا لا يقل فى خطورته عن الحروب والمعارك.. وقد استخدمت أمريكا سلاح العقوبات مع روسيا وحاصرتها اقتصاديا حتى انها صادرت أموال أعداد كبيرة من أثرياء روسيا واستولت على أموالهم وأغلقت البنوك والشركات الروسية فى أمريكا ودول الاتحاد الأوربي..
ــــ مع الحرب الاقتصادية ظهر صراع المصالح بين الدول الأوروبية التى لم تكن تدرك أهمية علاقاتها الاقتصادية مع روسيا.. اكتشفت دول الاتحاد الأوروبى أن لدى روسيا سلاحا أهم من العقوبات التى فرضتها وأنها تتحكم فى الغذاء والطاقة، وأن أوروبا لا تتحمل قطع البترول الروسي.. وأن معظم دول العالم تستورد القمح من روسيا وأوكرانيا وأن على العالم أن ينتظر سنوات حتى يصل إلى بدائل تغطى احتياجاته من القمح والبترول.. بل إن روسيا تنتج أنواعا من المعدات الثقيلة لا تنتجها دول الاتحاد الأوروبي..
ــــ إن اقتحام الجيش الروسى لاوكرانيا لم يكن عسكريا فقط ولكن أخطر ما فيه أنه كشف عن جوانب خلل فى الاقتصاد الأوروبي.. وهذا يعنى أن روسيا إذا لم تحقق نصرا فى الحرب فسوف تحقق نصرا أهم فى الآثار السيئة للعقوبات التى لحقت بالدول الأوروبية وليس بالاقتصاد الروسى وحده.. إن أمريكا فى محنة أوكرانيا كشفت عن وجهها القبيح حين تخلت عنها وتركتها تواجه مصيرها دون أن ترسل جنديا واحدا.. وأن الذى يتغطى بأمريكا عريان..
ــــ كان هناك أكثر من وجه فى مأساة الحرب أخطرها ملايين الهاربين من الموت إلى دول مجاورة.. وكانت المفارقة أن أسلوب التعامل اختلف بين استقبال الأوروبيين وسوء معاملة الأجانب.. وقد أعاد ذلك تجربة غريبة تحدث مع الهاربين وهى سرقة الأطفال.. حدث ذلك مع أطفال أوكرانيا وسوريا والعراق وليبيا.. إن الحرب لم تنته بعد ويبدو أن لها توابع أخرى لا أحد يعرف مداها، وإن كان الرئيس بوتين قد وضع العالم كله أمام واقع جديد..
ــــ إن الرئيس بوتين كان ينتقم من الإدارة الأمريكية ولم يتردد فى أن يستخدم كلمات قاسية ضد الرئيس بايدن.. وكان من الواضح أنه يشعر بمرارة شديدة تقترب من المهانة بسبب إساءة معاملة روسيا من أمريكا.. إن أخطر ما يمكن أن تصل إليه المواجهة العسكرية أن روسيا لن تدفع الثمن وحدها.. وأن الاتحاد الأوروبى قد يتحمل خسائر أكبر أمام خلافات واضحة حول تعارض المصالح أمام ارتفاع أسعار الغذاء والبترول.. وأن المواطن الأوروبى لن يتحمل ذلك كله خاصة أن الاقتصاد الأمريكى لن يتحمل فى هذه الظروف الصعبة كل الأعباء التى ستلحق بدول العالم.. إن ألمانيا لن تتحمل قطع البترول والغاز الروسى وكذلك فرنسا وإيطاليا، وهذا يعنى أن أوروبا أمام كارثة اقتصادية رهيبة.. وأن أمريكا لن تساعد أحدا ولهذا فإن أوروبا الموحدة يمكن أن تنقسم على نفسها أمام تعارض المصالح ..
ــــ يبقى بعد ذلك كله الحديث عن مستقبل الدول العربية إن الشيء المؤكد أن ارتفاع أسعار البترول سوف يفيد البعض مثل دول الخليج.. وأن القمح على جانب آخر سوف يمثل عبئا على دول مثل لبنان واليمن والجزائر، وإن كانت هناك توابع أخرى للحرب بين روسيا وأوكرانيا خاصة إذا طالت أو دخلت فيها أطراف أخرى أو استخدمت فيها أسلحة محرمة..
ــــ إن الحرب لم تحسم الموقف حتى الآن رغم الخسائر الفادحة التى لحقت بالجانب الأوكرانى الذى أعلن أن أعباء الحرب وصلت حتى الآن إلى ١١٩مليار دولار رغم أن لا أحد يعلم تكاليف إعادة بناء المدن التى دمرتها الحرب.. يبقى بعد ذلك مستقبل الملايين الذين هربوا من الموت وتركوا أعمالهم وبيوتهم ولا احد يعلم مصير هؤلاء.. إذا كانت مأساة الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد بدأت بين دولتين فإن آثار المعارك قد تصل إلى أوروبا كلها أمام تعارض شديد فى الحسابات والمصالح وفشل السياسة فى أن تحقق السلام بين البلدين..
ــــ إن الشيء المؤكد أن عالم ما قبل الحرب قد اختلف وأن أمريكا لم تعد كما كانت سيدة العالم وصاحبة الكلمة فيه.. كما أن روسيا لم تعد الدولة الضعيفة التى لا يسمعها أحد.. كما أن حالة الانقسام التى أصابت دول أوروبا وضعت نهاية لحلم قديم كان يسمى وحدة أوروبا.. لقد بدأت دول الاتحاد الأوروبى فى إعادة التفكير فى حماية أمنها القومى بعد أن تخلى الجميع عن دعم أوكرانيا فى مقاومة التدخل الروسي.. وهنا يمكن أن يعود سباق التسلح مرة أخرى وكانت ألمانيا أول دولة قررت تخصيص١٠٠مليار يورو كميزانية مبدئية للتسليح..
ــــ مازالت الحرب تدور ومازال العالم يدفع ثمنها كل حسب موقعه.. وإن كانت كل الأشياء قد تغيرت وعلينا أن ننتظر ميلاد عالم جديد وسط هذا الركام.. إنها الحرب تبدأ ولا أحد يعلم متى وكيف تنتهى ولكنها عادة تصنع واقعا جديدا فى حياة الشعوب..
ــــ تبقى بعد ذلك نقطة أخيرة ربما يدور الحديث حولها بعد أن يصمت الرصاص.. وهى أن على دول أوروبا أن تراجع نفسها فى عدد من القضايا التى كشفتها المعارك والعقوبات والدمار الذى لحق بدولة كبيرة فى قلب أوروبا خاصة أننا أمام أوروبا جديدة.. لقد فشلت تجربة الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلنطى فى أخطر مواجهة مع روسيا رغم كل محاولات التقارب والتنسيق والتعاون..
ــــ سقط الاتحاد الأوروبى أمام دولة حاولت أن تحتمى به وتصبح عضوا فيه وتركها تدفع الثمن وحدها أمام جحافل الجيش الروسي.. واكتشف الجميع أن أمريكا تقاعست عن تقديم الدعم لأوكرانيا وتخلت عنها.. وسقطت أيضا أكذوبة الاقتصاد العالمى الذى اتحدت حوله الشعوب الأوروبية وتصورت أنها أصبحت وطنا واحدا ..
ــــ وقبل هذا كله سقطت منظومة العولمة وحلم أن العالم أصبح قرية واحدة.. وأن الإنسانية أمام عصر جديد من التوحد والتعاون والسلام كل هذه الأفكار تهاوت أمام أول رصاصة أصابت قلب طفل صغير كان يشاهد فيلما من أفلام الخيال العلمى عن غزو الفضاء ووجد صاروخا يسقط على رأسه.. أصبح من الضرورى أن تبحث أمريكا والاتحاد الأوروبى عن منظومة جديدة لتعيد الثقة لكل الأفكار والأحلام التى خدعت بها شعوب العالم سنوات طويلة..
..ويبقى الشعر
لماذا أراكِ على كلِّ شيء بقايا.. بقايا؟
إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفـًا..
وينسابُ عطـُركِ بين الحنايا؟
لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ
فأجرى إليكِ.. وتأبى خُطايا؟
وكم كنتُ أهربُ.. كى لا أراكِ
فألقاكِ نبضـًا سرى فى دمايا
فكيف النجومُ هوت فى الترابِ
وكيف العبير غدا.. كالشظايا؟
عيونك كانت لعمرى صلاة ً..
فكيف الصلاةُ غدت.. كالخطايا
<<<
لماذا أراكِ وملءُ عُيونى
دموعُ الوداعْ ؟
لماذا أراكِ.. وقد صرتِ شيئـًا
بعيدًا.. بعيدًا..
توارى.. وضاعْ؟
تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ
أحسُّـك نبضًا..
وألقاك دفئـًا..
وأشعرُ بعدكِ.. أنى الضياعْ
<<<
إذا ما بكيتُ.. أراكِ ابتسامهْ
وإن ضاق دربى.. أراكِ السلامهْ
وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ
تضىء عيونـُكِ .. خلف الغمامهْ
<<<
لماذا أراكِ على كل شىءٍ
كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ
كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ
وأنى خـُلـِقـْتُ لهذا السفرْ
إذا كنتُ أهرب منكِ.. إليكِ
فقولى بربكِ.. أين المفـْر؟!
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: