رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تولوز لوتريك.. القزم الذى انحنى له عرش الفن!

علاقة حميمة من نوع خاص تلك التى تنشأ بين الأم وصغيرها الذى تشاء ظروف مولده أو مسار طفولته التعرض لإصابته بإعاقة ما.. ذلك الحبل السُرى الذى وحدهما معًا خلال شهور الحمل يظل سارى العطاء إلى آخر العمر.. وإذا ما كانت مغادرة الرحم موقوتة باكتمال الجنين، فهناك فى التلقى حضن دافئ محال أن يلفظ ساكنه مهما يصيبه من نوبات التردى.. وتبتلع الأم غصّتها الدائمة، وتحبس في مآقيها نهر دموعها، لتواجه الواقع بشجاعة وصلابة وطموح لا يثنيها عن زرع نبتتها الواهنة فى عين الشمس.. فى الصفوف الأولى.. فى مركز الشهرة والريادة والتفوق والتصفيق والجوائز والحفر بأحرف من نور على جدران التاريخ.. على هذا المنوال كانت الأم إديل «الكونتيسة» والابن الرسام هنرى تولوز لوتريك..

عشاق الفن شاهدوا أخيرًا معرضًا شاملا للفنان الفرنسى الشهير تولوز لوتريك فى قاعة جاليرى تيت فى لندن، حيث ضم المعرض 200 لوحة من أشهر ما أبدعته فرشاته وألوانه.. لوتريك الذى وضعه النقاد فى منزلة الصدارة لألمع الرسامين الموهوبين فى القرن التاسع عشر، ويعد ــ بلا منازع ــ «أبوالأفيشات الحديثة»، ومعظم أعماله محورها المرأة التى دار حولها فنه لينشد بألوانه فيها أرقى وأعظم لوحات التمجيد.

عشق لوتريك الجنس الناعم بلا حدود بداية من حبه لأمه وصولا إلى تدلهه فى راقصات ومغنيات ملهى «المولان روج»، ويكاد يكون تولوز الفنان الوحيد فى القرن التاسع عشر الذى قدم أجمل باقة لجميلات عصره فى جميع الأوضاع.

أحب أمه وارتبط بها وظل يدور فى فلكها حتى سن الرابعة عشرة، وكانت تطلق عليه لقب «الجوهرة الصغيرة».. وفى هذه السن تعرض لحادثة توقف بعدها تمامًا عن النمو فلم يزد طوله بعدها عن 152 سنتيمترا، وكان إلى جانب قصر قامته نحيفًا للغاية حتى أطلق هو على نفسه لقب «نصف الزجاجة».. وكان السبب فى تشويهه كسر عظام فخذيه فى حادثين متتاليين مما جعل الفارق فى طوله بين عمر الثالثة عشرة والعشرين لا يتعدى 12 سنتيمترا فقط، حيث أصبح مقاسه مترا واثنين وخمسين سنتيمترا فقط.. وظل الفنان القزم يعيش فى كنف أمه الراعية حتى توفى فى سن السابعة والثلاثين لتهدى الأم «الكونتيسة اديل» أجمل لوحات ابنها لمتحف اللوفر، ولكن المتحف بإدارته المتخلفة وقتها رفض الهدية المجانية، لتستقر لوحات الخلود فى متحف مدينة «البى» وهى المدينة التى شاهدت مولده.


بدايته سيمفونية من السعادة يتميز فيها هنرى الصغير بملامح دقيقة مؤثرة، وفى المدرسة يحصل على نصيب الأسد من الدرجات المرتفعة وجوائز التفوق مثيرًا حفيظة زملائه.. وفى قصر والده الكونت «الفونس» تدرب على ركوب الخيل ليغدو فارسًا من الدرجة الأولى.. واعتاد الصغير أن يستقبل فى حدائق القصر نخبة من أطفال النبلاء وعلَية القوم يتجولون فوق ظهور الخيل ومن خلفهم مجموعات الخدم يهرولون فى ركابهم فوق الحشائش الخضراء لتظل تلك الصورة عالقة فى مخيلة تولوز لوتريك ليرسمها فى إحدى لوحاته فى فترة الشباب التى منح فيها فرشاته عصارة عطائه وفنه..

لم تحظ الأم يومًا بحياة زوجية سعيدة إلى جوار زوجها الكونت، وهو فى نفس الوقت ابن عمها، فركزت انتباهها وساعات يقظتها على طفلها العالق بها، واستمرت الأيام المتخمة بالهناء لطفل الأرستقراطية الذى وُلد وفى فمه ملعقة من ذهب، لكنه وقع على جانبى ساقيه لتتكسر عظامه وتتكلس وتغلظ شفتاه وينتفخ أنفه وتغزو الرجولة المبكرة الجوهرة الصغيرة لينعكس مشهده الجديد المنفر بمشيته العرجاء على مشاعر الوالد الكونت الذى بدأ يتجاهله لتنحسر الرابطة العائلية بينه وبين أمه حتى وصل بهما الأمر إلى مغادرة القصر ليعيش فيه الكونت وحده، وشدّا رحالهما إلى باريس لتلمع هناك موهبة لوتريك الفنية، حيث صعدت خطواته سلم الفن فى سكة مستقبله الجديد، إلى أن استقر فى حى «بيجال» ليتربع سريعاً على عرش الشهرة، فقد وجدت لوحاته صدى مرحبًا، وكان نجاحه فى عالم اللوحة والفرشاة تعويضًا عن مأساة حياته لتتميز تكويناته الراقصة بالحيوية البالغة، وكأن «الأعرج» كان أقدر مَن أمسك بالفرشاة على تفهم وتقديس الحركة المتناسقة، ورغم قسوة الأقدار عليه فإنه كان يتطهر من كل الآلام وبشاعة الواقع عندما يخط بصمات روائعه على قماش اللوحة.


ويقع «لوتريك» فى حب فتيات المتعة، ومن بعد أجواء القصور وأسلوب الحياة المنسقة المترفة يعتاد على أجواء الحانات والصخب والفوضى، ويدفن نفسه فى أحضان العالم الرخيص لينسى أحزانه.. وعلى الرغم من الضجيج من حوله فإنه يظل دومًا متمسكًا بالصمت.. وسواء تواجد بين النساء أو فى خضم عالم رجالات العربدة داخل الحانات إلا أن أحدًا منهم لم يؤثر على عمله، ولم يكن يسمح لأى منهم بحيازة حق التطفل على مكنون أسراره، ولم يسمعه أحد يشكو يومًا أو يتألم.. ولكن ظل هناك فى حياته شخص واحد يمثل له الواحة الخضراء وسط صحراء نفسه القاحلة.. أمه.. فوق صدرها وبين أحضانها يجد الملاذ الذى يريحه، ومعها يستطيع أن يُخرج إلى النور ما يجيش فى صدره من انفعالات.. ولذلك كان «تولوز لوتريك» يتردد بانتظام على القصر الجديد الذى تعيش فيه الأم التى تستقبله بكل شوقٍ وتدللـه بغمرة الحنان، وتقوده إلى حمام سباحة خاص به ليقوم المدلك الخاص بعمل المساج لعضلاته الواهنة، ثم يجلس فى حديقة القصر محاطًا بأفراد أسرته التى تحرص الأم على دعوتهم إليه.

وتستمر الأوضاع على ما هى عليه سنوات طويلة، خلالها يقوم «تولوز» برسم العديد من اللوحات التى خلّدت اسمه فيما بعد، لكن رحلة الخلق والابتكار استنفدت جميع القوى، ومع بلوغه الثالثة والثلاثين كان هيكـلا ضئيلا منتهيًا نهشته آلام العظام بوحشية لتتركه عاجزًا عن الإمساك بفرشاته عُكاز الصبر فى عالم الكآبة.. وفى سن السابعة والثلاثين كان كل شىء قد انتهى.. وضع الموت نهاية لرحلة العذاب.. ليبدأ مشوار جديد فى حياة الكونتيسة «اديل»، فقد كان أمامها معترك المعركة الحامية الوطيس.. إن لوحات ابنها بما فيها من مظاهر الرقص والمجون قد جرحت مشاعر أهل بلدته وتقاليدهم وقيمهم إلى حد أن قام عمه بحرق بعض اللوحات، ولم يعد أحد يُريد أن يسمع عن الفنان الأعرج القزم شيئًا.. ونفس التجاهل والإلغاء القاسى كان تعبير أقرانه الفنانين.. لكن.. الأم العظيمة لم تيأس فى حفر اسم ابنها العبقرى فى لوحة الخلود.. وأخيرًا وفى عام 1922 أى بعد وفاته بعشرين عاما تم افتتاح متحف تولوز لوتريك وحضر حفل الافتتاح كبار الشخصيات المحلية.. جاءوا ليتأملوا ويشاهدوا صور الفتيات اللاتى زاملن «تولوز لوتريك» فترات الشباب واللـهو.. وفى الركن البعيد من القاعة الزاخرة بالأعمال الخالدة كانت هناك عجوز فى الواحدة والثمانين تجلس وقد أسدلت جفونها خفرًا وتضرجت وجنتاها المجعدة بدماء الخجل أمام لوحات فتيات ملهى المولان روج التى قام ابنها بتسجيل لهوهن بالألوان الزيتية.

«لوتريك» الذى أتى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فى فترة الإمبراطورية الثانية بفرنسا، حيث كانت المكاسب الضخمة للبرجوازية، وهناك الثراء الفاحش والفقر المدقع، وانحطاط للقيم الجمالية.. لوحات مائية لكثير من الفنانين تُقابل بسخرية لاذعة، و«سيزان» يسب الأكاديمية، و«جوجان» يهرب إلى «تاهيتى» هربًا من سريان الذوق الغث، والتكالب على المال سيد الموقف.. ووسط هذه التيارات العنيفة المتلاطمة يُولد «هنرى الفونس دى تولوز لوتريك مونفا»، حيث تستطيع فى لوحاته التعرف على باريس فى ذلك الوقت.. البرجوازيون ذوو الأوداج والجيوب المنتفخة، وأرتيستات البارات بكل ما فيهن من تبهرج مصطنع فاضح وآلام وبؤس يطل من خلف الأصباغ.

ولقد أثبت «لوتريك» أن الفنان يمكنه أن يصوِّر اللحظة الانفعالية دون أن يعنى هذا منافسة للتصوير الفوتوغرافى، فهو هنا يُفسِّر ما يُرى، بينما الآلة تُسجل فقط، فقد صوَّر لحظات من حياة نماذجه هى فى الحقيقة «لحظات أبدية» إن جاز هذا التعبير، فقد ظهر أنه لا يعنى كثيرًا بأشكال شخصياته وإنما بما خلف هذه الشخصيات.. وكان استخدام «لوتريك» للخط واللون يخرجه تمامًا عن فنانى عصره، فبينما رأى هؤلاء ــ دون أن يكونوا داعين بذلك تمامًا ــ أن تركيب الخط واللون فى أى تكوين هو الهدف الأول للفنان، استخدم «لوتريك» الخط واللون كأدوات تعبير، بمعنى أن ما يُثير إعجابك فى لوحاته ليس جمال الألوان مثل لوحات «رينوار» مثلا، وليس جمال الخطوط كلوحات «ديجا»، فإنك لا تحس بوجود أى من هذه العناصر، إنك تشاهد شخصيات أو كائنات فقط، ولكل منها طابع خاص تتميز به وسط الجماعة التى تحيط بها.

و..قد ترجع بك الذاكرة إلى أعمال «دومييه» وأنت تُشاهد بعض لوحات لوتريك، وربما كان ذلك بسبب الطابع التشويهى العام لكائنات كل من الفنانين ولنظرتهما التشاؤمية للحياة.. ولكن يجب أن نذكر أن «دومييه» أقرب إلى الكاريكاتير النقدى الساخر، إلا أن كثيرًا ممن كتب تاريخ الفن ظلوا حائرين حول تصنيف الفئة التى توضع أعمال لوتريك تحتها، فهو ليس مُصورًا كما نقول عن «رينوار» وهو ليس رسامًا ناقدًا ساخرًا كما نرى «دومييه»..

لقد تحوَّل التصوير عنده حتى صار رسمًا، بمعنى أنه أفقد التصوير أهمية اللون، وعندما نقول تصوير نركز ضمنيًا على أهمية الألوان، فهو الذى أدخل على الرسم عنصر اللون فى حالة بدائية، فقد استخدم فى بعض من لوحاته الفحم والألوان معًا، وهما عنصران غير متجانسين تمامًا.. لقد أخضع «لوتريك» العنصرين ليده الخلاّقة فأنتج أعمالا لا يستطيع مؤرخ الفن أن يضعها ضمن الاتجاه العام للتصوير فى القرن التاسع عشر، ربما شاهد فيه المتفرج أثرًا لـ«دومييه» أو «مانيه» أو «ديجا»، ولكنها ستظل دائمًا فريدة تقول إن الذى صنعنى فنان تحدى بى عجزه البدنى اسمه «تولوز لوتريك»..

ويلعب «الكباريه» فى لوحات «لوتريك» دورًا بارزًا فى لوحاته، فقد فتنته نجومه وزبائنه، وسحرته أجواؤه العابقة بحيوية وتفاعل ما كان فى وسعه أن يجد لهما أثرًا حقيقيًا فى الحياة الطبيعية، بل إنه أدرك حقًا أن الكباريه هو الممكن أن تجتمع فيه الأضداد، وتثار الشهوات، وتتجاور المآسى والمهازل، والصفقات وحكايات الغرام، والنبلاء والأفاقون، والنجوم والخدم، والبرجوازيون واللصوص، والكُتّاب وأبناء العائلات المدللون فى بوتقة واحدة، وكأنه كان هنا وسط الحقيقة الواقعية نفسها، وقد عبَّر «لوتريك» عن هذا كله فى عشرات اللوحات، ولاسيما فى مجموعة من لوحات كانت حياة كباريه «المولان روج» تحديدًا عالمها.. وإذا ما كان لوتريك قد خلّد لنا كل تلك الحياة، وكل تلك الرؤى فى العشرات من اللوحات فإن من بين هذه اللوحات ما ليس بالهام أو الأجمل لكنها بشكل إجمالى تعكس ديناميكية الحياة داخل الكباريه وتنوع لحظاتها وتفاعل «تولوز» المتغيّر إزاءها.. وليس أبرز من لوحة «فى المولان روج» المعلقة حاليًا فى «معهد الفن» فى شيكاغو بأمريكا والتى يزيد عرضها قليلا على 140 سم، كما يبلغ ارتفاعها ١٢٣سم، وهى لوحة ليلية الطابع داكنة الألوان، يشغل فيها زبائن الكباريه لا نجومه المكان الرئيسى فى الاهتمام، فإن هذه اللوحة بالذات قد حرص فيها الرسام بشكل خاص على تركيبة المشهد دون اهتمام بوضع المُشاهد لها فى الواقع، وكأنه يدعوه إلى لعب دور «البصاص» على ما يحدث داخل الكباريه لا دور المتفرج من الخارج، فالمشهد المرسوم يمثل عددًا من الزبائن المتحلقين وسط الكباريه تؤانسهم امرأتان، التى من المحتمل أن تكون إحداهما هى «جين افريل» نجمة الكباريه الأولى فى وقته والتى رسمها فى عدة لوحات، وفى ملصقات دعائية تُعتبر اليوم من التُحف الفنية، وعلى عكس ما هو متوقع فى جلسات الكباريهات المرحة الصاخبة، فأشخاص لوحات «لوتريك» تلك يبدون وكأنهم يتناقشون بجدية فى أمر هام، فهم حتى لا يلتفتون إلى المشهد الراقص الذى تؤديه راقصتان فى خلفية الصورة، فيما هناك من أسى وهم كبير يلوح على وجه الشخصية الوحيدة الواضحة فى اللوحة، والتى تبدو مهتمة بأن هناك من يُراقب الجلسة، وإمعانًا فى إضفاء طابع التلقائية الفريد فى صنع هذه اللوحة، فإنه قد رسمها من وراء طاولة مواربة فى شكل يتوازى مع الخط الوهمى الذى يمتد من أعلى قبعة الرجل الواقف فى خلفية اللوحة وصولا إلى ياقة السيدة التى تنظُر تِـجاه الرسام.. وهذا كله، إضافة إلى الألوان البُنية والبُرتقالية والخضراء الداكنة ما يضفى على اللوحة طابعًا تجريبيًا انطباعيًا ندر أن يوجد فى أعمال الفنان تولوز لوتريك التى كانت على الدوام تتميز بالشفافية والمباشرة، وهو ما يجعل لهذه اللوحة سِحرها الخاص مع ما تُعبِّر عنه بصدق وواقعية عن حياة ودنيا الكباريه، وكان «لوتريك» عندما رسم تلك اللوحة فى سن الثلاثين، لكن الأيام والأمراض والعاهات كانت قد صقلته لتجعل منه شيخًا عجوزًا، على رغم من مرحه الدائم.

وأبدًا لم يكن «بونا» أشهر الرسامين الأكاديميين فى باريس فى مطلع القرن التاسع عشر يعرف أنه عندما التحق «تولوز لوتريك» بمرسمه وهو لم يزل فى العشرين واصفًا رسومه بقوله: «إنها رسوم سريعة تدل على وحشية فطرية».. لم يكن على وعى بأنه ينقُد أعمال من سيصبح يومًا قريبًا أكبر رسام فى عصره.. وقد ترك «لوتريك» مرسم «بونا» وانضم مع بعض أصدقائه إلى مرسم «فيرتان كومو»، حيث التقى بالرسام «فان جوخ» وكان «لوتريك» غير مستقر على نظام معين يستفز أستاذه «فيرتان» بإعراضه عن قبول أسهل الخِطط الدراسية، مما اضطر الأستاذ إلى تحقير عمله وتعنيفه، فترك «لوتريك» مرسمه ولجأ إلى شارع «فونتين» بحى «مونمارتر» الذى أصبح مأوى الفنانين بعد أن هجروا الحى اللاتينى فى سنة 1885، واقتسم مع صديقه الفنان «جرينيه» الحياة فى مرسم واحد اختاره فى مواجهة مرسم «ديجا» الذى كان يشغله وحده، وتأثر «لوتريك» بفنه كما تأثر بالحياة فى المقاهى وقاعات الموسيقى الليلية والمواخير والسيرك.. الأماكن التى وجد فى جوها ما يُلائم طبيعته فصورها لا كما وصفها كـل من «بلزاك» و«إميل زولا» ليحذرا الناس منها، بل كما أحبها وفهم شخصياتها فخلدهم فى أعماله.. الراقصات والمهرجون أمثال «إيفيت جويلبين» و«فالينتان» و«جان افريل» و«ماى بيلفور» و«لاكولو» و«فونيت».

وفى خلال العشر سنوات التى عاشها فى مرسمه بشارع «جولينكور» فيما بين 1887 ــ 1896 أتم أبدع لوحاته التى ناضل من أجلها ساخرًا ومداعبًا فى سهراته الليلية التى كان يهيم فيها على الموائد مع خليط من النساء بكؤوس الشراب، وفى نهاره الذى كان يقضيه فى حلبات سباقات الخيل وغرف عمليات الجراحة بالمستشفيات ليرسم كل ما تراه عيناه بنهم وحرارة، وكأنه كان يَشعُر بدنو أجله فلم يصرف الوقت فى شىء آخر غير الرسم والشراب، وفى تلك الفترة المليئة بالنوادر قام بعدة رحلات إلى إسبانيا وأُعجب بفن «الجريكو» و«فلاسكس»، وفى بروكسل كان يضطر إلى خوض المعارك دفاعًا عن فن زميله «فان جوخ» المتهم بالحماقة والتهريج، وفى لندن كان يشعُر بالراحة بين «شارلس كوندر» و«أوسكار وايلد» و«أرثر سيمونز» و«ويسلر»، وفى هولندا كان يُقابل بالسخرية من الأطفال الذين يلتفون حوله مهللين، ظنًا منهم أنه أحد الأقزام الذين يسيرون عادة فى شوارع المدينة للدعاية عن السيرك.

ولاحظ الأصدقاء والأهل أن أجراس الخطر تدق معلنة نهاية الإسراف فى الشراب واللـهو، وفى فبراير 1899 وافقت أمه بعين الرقابة عن بُعد على نقله إلى مصحة للأمراض العقلية بالقرب من غابة بولونيا بباريس ليعالج تحت إشراف أشهر الأطباء، ولم يكن لوتريك يجهل حقيقة مرضه، فكتب إلى أبيه الكونت الفرنسى يقول: «أبى إن الفرصة الآن مواتية لكى تلعب معى دور الرجل الطيب.. إنى سجين وكل سجين ميت!».

وبعد أن تم شفاؤه أوصت أمه بحراسته إلى صديق عجوز للأسرة، وبدأ «لوتريك» يستعيد قواه بعد امتناعه عن الشراب وارتياد الملاهى الليلية حتى صيف عام 1901 عندما عاوده الحنين إلى الكأس وأصدقائه القدامى مرة أخرى، فاضطرت الأم اليائسة إلى نقله إلى بيت الأسرة بعد أن انهارت قواه إلى أن مات فى 9 سبتمبر 1901 تاركًا أعمالا كثيرة تعبِّر عن بهجة الحياة فى عصره خاصة موضوعات الموسيقى والرقص، كما أنه كان مجددًا فى فن الإعلان على الحوائط للملاهى، والإعلانات المطبوعة بطريقة «الليتوجراف» على الحجر، مع رسومات عديدة عن السيرك الخ.. وقد كشفت أعماله عما كان يبحث عنه من جمال الخطوط فى تكوينات أشبه بفن الأرابيسك.. فوهَبَ رسومه إحساسًا جديدًا نلمس فيه مزيجًا من الحس الأليم والبهجة الحادة.. غامرًا حياته القصيرة بضياء فنه الفذّ الذى يجمع بين التحليل النفسى للشخصية المرسومة مع التمكن بريشته فى التعبير عنها بألوانه المميزة.. فهو نموذج الفنان الذى يتمتع بالذكاء والفكر حتى استطاع أن يكون أحد شوامخ الفن، ويوجد جزء كبير من إبداعاته فى متحف تولوز لوتريك فى مسقط رأسه بمدينة «إلبى» الذى افتتح عام 1922 وأصبح اسمه علامة بارزة فى سجل تاريخ الفن، حيث سار على درب أسلوب التأثيريين إلا أنه لم يشبههم فى كَلفهم بالطبيعة وولعهم بالرسم فى الخلاء، إذ كان يعتقد أنه لا يمكن إلاّ للأحمق أن يتأمل منظرًا طبيعيًا يخلو من الناس، ولا يمكن إلاّ لذى حس بليد أن تحتمل عيناه نور النهار، فهو لم تكن تفتنه غير أضواء المصابيح وحياة الليل، وكان لا يلذ له غير تصوير الوجوه وبخاصة وجوه أولئك الذين تجردهم حياة العربدة من أقنعتهم الواقية، فتظهر حقيقتهم عارية بغير حجاب.. وكان «تولوز لوتريك» قد وقع فى هوى غانية شقراء تُلقب بـ«لا جولو» اشتهرت برص أوراق الكونكان ونوادرها اللاذعة، فخلَّد صورتها فى العشرات من لوحاته.. وأُعجب مثل «ديجا» بالفن اليابانى، وامتزج هذا التأثر ببراعته وموهبته الشخصية وسخريته التى لا ترحم فخرج من هذا كله بأسلوب خاص أصيل يتميز بألوان لاذعة المذاق، وخطوط عصبية تنقض كالسياط.. غير أن هذه البراعة بالذات إلى جانب مزاجه الحاد الذى كان يحمله على التعجل هى التى منعته طول حياته من أن يكون ذلك الفنان الفحل الذى كان بوسعه أن يكون.. إلا أنه بلغ هذه الدرجة بعد وفاته بإصرار أمه الواعية الراعية المجندة لترميم آلامه ومحو إحباطاته ونزع آثار شطحاته ونزواته المدمرة ووضعه بفنه الذى تؤمن به على المسار الصحيح ليصبح سيد اللوحة وزميل شهرة فان جوخ وجوجان ومانيه ومونيه!


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: