يقول الفيلسوف السويدى نيكولاس بوستروم فى كتابه، الذكاء الفائق: المسارات والمخاطر والإستراتيجيات، إن أخطر ما فى الذكاء الاصطناعى هو أن يتسرع البشر فى الظن بأنهم يفهمون ما هو. وهذا الظن يأتى غالبا من اختزاله فى مجموعة من التطبيقات والبرامج وكيف أنه شىء رائع لابد من تطبيقه، دون إدراك للمسارات والاستراتيجيات والكيانات اللازمة لذلك. الذكاء الاصطناعى فى جوهره أعمق من مجرد منتج أو تقنية جديدة، فهو رؤية للعلاقة بين البشر والآلة والتقسيم الأمثل للعمل بينهما، هدفها تمكين البشر للقيام بالتنبؤات والتوصيات وصناعة القرار، اعتمادا على البيانات والمعلومات. وهذا التقسيم تعاد صياغته باستمرار استنادا للتجربة ومعرفة ما يمكن للآلة القيام به بكفاءة أفضل من البشر، وما هو صعب حتى الآن ويحتاج مزيدا من البحث والتطوير، وما قد يكون مستحيلا على الآلة القيام به. السباق الآن تخطى سباق التسلح التقليدى، إلى التسلح بتقنيات الذكاء الاصطناعى. والأمر لم يعد اختيارا, فدول كثيرة تستثمر المليارات لبناء وتعزيز قدراتها وترسانتها من هذه التقنيات من أجل التنافسية والتنمية الاقتصادية وكذلك التفوق العسكرى. فطبقا لمؤشرات وتقارير ستانفورد للذكاء الاصطناعى، والتجمع الدولى للبيانات ومجلة نايتشر: أن التنافس غير مسبوق على المهارات، فنحو 53% من أفضل المتخصصين عالميا فى المجال يعملون فى دول أخرى غير التى تلقوا فيها تعليمهم الجامعى، كما بلغت استثمارات القطاع الخاص فى أمريكا وأوروبا والصين فى الذكاء الاصطناعى فى 2019 أكثر من 70 مليار دولار.
كذلك ارتفع حجم الاستثمار فى الشركات الناشئة من 1.3 مليار دولار فى 2010 إلى 37 مليارا فى 2019. وبلغ العائد من الاستثمار نحو 157 مليار دولار فى 2020. عدد الأبحاث فى المجال زاد عالميا من 52 ألفا فى 2000 إلى 403 آلاف فى 2019، أى نحو ثمانية أضعاف. وطبقا للمؤشر العالمى للابتكار الذى تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة، فقد احتلت مصر المركز الـ 94 فى 2021 من بين 132 دولة شملها المؤشر مقارنة بالمركز الـ 92 فى 2019. وتقدمت مصر فى مدخلات الابتكار إلى المركز الـ 102 فى 2021. وتأخرت فى مخرجات الابتكار إلى المركز الـ 86 فى 2021. ترتيب مصر فى مؤشر مخرجات المعرفة والتكنولوجيا هو أفضل مؤشراتها (المركز الـ 70)، ومؤشر المؤسسات هو الأسوأ (المركز الـ 114). وطبقا أيضا لهذا المؤشر، تشمل نقاط القوة: الترتيب الدولى للجامعات المصرية، الإنتاج العلمى، التأثير المعرفى وتنوع الصناعات المحلية وواردات التكنولوجيا المتقدمة ومعدل الانتاج وصادرات المنتجات الإبداعية. أما نقاط الضعف فمنها: البيئة التنظيمية وأعداد الخريجين فى مجالات العلوم والهندسة وحجم الاستثمار فى البحث والتطوير وبرامج التدريب والتأهيل. وتذكر التقارير إن خطط الدول المختلفة للذكاء الاصطناعى عموما تطغى عليها التطلعات وتفتقد الإجراءات العملية للتنفيذ.
الدول التى تسعى بجدية لتحقيق ذلك ومنها مصر تحتاج إلى جهة مركزية ترسم رؤية واضحة تقود الجهود والمبادرات وتنسقها، وتضع خططا استراتيجية قومية لتحديد المجالات ذات الأولوية فى ضوء معطيات الواقع، وخطط تفصيلية للتوعية المجتمعية وإدارة حوار عام حول الموضوع وتأثيراته المحتملة. وجدول زمنى بمراحل التطبيق، ومؤشرات لقياس الأداء فى كل مرحلة، ودرجة تحقيق المخرجات المرجوة وتطبيق مشروعات استكشافية لبناء الخبرات فى كيفية تطبيق هذه التقنية فى القطاع العام. بناء منصات تنظم علميات تبادل البيانات بين القطاع العام والجهات ذات الصلة، ونظام تعليم بكافة مراحله من التعليم الابتدائى، أو حتى ما قبل ذلك، وصولا إلى الجامعى،لإعداد كوادر بشرية تستطيع تحويل الاستراتيجيات إلى واقع. هذه خارطة طريق للدول التى تأخذ الذكاء الاصطناعى مأخذ الجد والتطبيق، ومصر لديها كوادر بشرية، داخليا وخارجيا، تمتلك الكفاءات لتحقيق ذلك، وإرادة سياسية قوية تنادى بذلك وتسانده وتستثمر فيه، ومبادرات ناجحة لوزارة الاتصالات، وعدد معقول من مراكز تشجيع الابتكار وريادة الأعمال فى الجامعات. الكرة الآن فى ملعب مؤسسات التعليم ومؤسسات القطاع الخاص لخدمة هذا الوطن وتعزيز قدراته التنافسية فى سباق محموم لن ينتظر أحدا. والمسألة ليست وجاهة تكنولوجية بل رهانا على المستقبل.. ومصر قادرة تماما على ذلك.
----------------------
> أستاذ مساعد اللغويات الحاسوبية بجامعة عين شمس
لمزيد من مقالات د. خالد الغمرى رابط دائم: