مرت علينا تجربة رحيل الصحفى المصرى الأصيل، والإعلامى النابه، إبراهيم حجازى- وحين وفاته كتبت على السوشيال ميديا ما شعرت به لحظتها- صعبة، ومريرة، ولكن تلك هى حالة الموت، عندما تختطف منك رمزا أصيلا لتجربة حياة مليئة بالعمل الصحفى، والجماهيرى، الناجح.
تجربة مهنية عمرها نصف قرن، نجحت نجاحا فريدا، قادها الراحل الكبير إبراهيم نافع (أبوالمهنة المعاصر لنا، والذى مر على رحيله ٤ سنوات)، سواء فى الصحافة الورقية، أو العمل النقابى الخلَّاق، الذى حافظ على حالة من الحرية، والتدفق الإعلامى فى مصر كلها، عندما تصدى لقانون جائر جاء لمصادرتها، أو ما عرف بقانون ٩٣، وهو النقيب، الذى كان، فى ذلك الوقت، فى قمة السلطة، والنجاح المهنى، متصدرا رئاسة أهم صحيفة عربية، على الإطلاق، فى تاريخ الكتابة الصحفية (الأهرام العريقة)، ولم يخش على منصبه، أو وجاهة المهنة..
رحل الرجل فى حالة صعبة، أقل شىء نصفها به أنها «حالة من عدم الإنصاف»، تجاهلوه، لأن جيله خَشىَ نجاحه، وبريقه، وشهرته، وكذلك الصحافة الغنية المنتشرة، والشعبية، التى خلّفها، وقادها، أو لأن الجيل، الذى سبقه، لم يرد أن ينتزع شيئا من البريق، الذى صنعوه لتمثالهم الحى، الراحل، وظلوا متعلقين بحالة الستينيات، التى عاشوها، ولم تفارق مخيلتهم، أو عاشت فى مخيلتنا المهنية على أنها أنجح التجارب الصحفية على الإطلاق. ساعتها التقط زميل لى، أثق فى مهنيته، من الشارع الصحفى الرياضى، ما كتبته، لأنه شعر به، وكتب الآخرون عن إبراهيم، الراحل، حجازى- ولا أعرف ساعتها هل تذكروا إبراهيم، الأكبر، نافع- والأيدى البيضاء عليهم، وعلى زملائهم، وتلك حالة، وفكرة، وحيدة، فى تاريخهما المهنى الناصع، ولكن ليس كل إمكانات الراحلّين أنهما كانا يخدمان الزملاء صحيا، ومهنيا، رغم أهمية ذلك لصحة المهنة، وتقدمها، واستمراريتها، فقد نسوا التجربة الأكثر عمقا، و انتشارا، وهى الإعلام ، والصحافة المهنية، وهنا تذكرت أننا نعيش فى ظل غياب الدراسات الاجتماعية، والإعلامية، المتكاملة، والمهنية الجيدة، التى تسلط الضوء على كامل التجربة. زميلى، الذى كتب بعدًا عن الأستاذ الراحل إبراهيم حجازى، محللا أن صيحة الرحيل أيقظت شيئا ما فى الرأى العام، شعر بأنه ناقص، ليس خدمات، وبر، حجازى وحده، ولكن لأن حجازى رحل، ولم يُنصف، مثله مثل نافع، وسعده، وموسى صبرى.. وغيرهم.. تجارب إعلامية مميزة مرت على مصر لم تأخذ حقها فى النقد، والبحث المستفيض، حتى نعرف لماذا نجحت؟، وفيمَ أخفقت؟.. وكان اهتمامها بالإنسان، والفكرة، وفى ذلك الوقت، كان الانتشار ضرورة، وكان المجتمع فى حاجة إلى مطبوعات متنوعة، وقد أصدر نافع ١٨ مطبوعة، انتشرت، ونجحت، قبل أن تكون هناك سوشيال ميديا، وقدم التخصصات الأكثر دقة فى مطبوعات متنوعة، وهى تنطلق، الآن، فى عالم الفضاء (النت)، يقرؤها الناس فى مجالات عدة: زراعة، وصناعة، وخدمات مختلفة، ورياضة، وفنون متنوعة. لقد كان النجاح المادى، والإعلامى، مقترنا بنجاح مهنى، منقطع النظير، فى التجارب، التى قادها نافع وزملاؤه، وسعده وزملاؤه، وصبرى وزملاؤه، ولكن لغياب النقد، والتربص بالتجارب الإنسانية، والعلمية، تجمدت الدراسات، ولم نعرف ماذا حدث بالضبط، ولم نقف على الحقائق.
لحظة وفاة إبراهيم حجازى ذكرتنا بالتجربة الإنسانية الحية، والإعلامية الغنية، للراحل، سواء فى الرياضة، والبطولات المتنوعة، أو فى مجلة «الأهرام الرياضى»، ولكن مازال يستعصى علينا فهم كامل مدركاتها، لأننا مازلنا بعيدين عن البحث، والتحليل، والدراسات النقدية المعمقة، ليس لغياب المؤسسات، ولكن لغياب الأشخاص القادرين على الفهم، والتحليل، واستخلاص النتائج، والعبر للمستقبل.
كانت فرصة الرحيل كفيلة لنا لالتقاط عمقها، وتدوينها، والتمسك بها، ولكننا نحاول تعويضها بالإنصاف الإنسانى وحده، وعندما نتكلم عن التجربة الصحفية للإنسان، والمقاتل، والإعلامى، إبراهيم حجازى فنجدها متفردة منذ أن قاتل بالسلاح لتحرير سيناء، ثم بالكلمة، والقلم، لرفع الوعى المجتمعى بأهمية مصر، ودور المصريين، حيث لم يلجأ حجازى للإثارة، ولكن كان فى دائرة الضوء تماما، ورغم أن كلمته ظلت نقية متجردة، لكنها حية، وخلّاقة، فوصلت للناس، وانتشرت مطبوعة، وكان ينتظرها كل الجمهور، وليس الرياضيين وحدهم، ويلتف حوله أمام شاشات التليفزيون كل المواطنين، لأن عينه، ووعيه، كان يلتقط كل الضعفاء، بل أصحاب الهمم، والأدوار، ويجعلهم نجوما..
سبق إبراهيم حجازى الكثيرين بجودة إعلامه، وتلك هى تجربة الأهرام الخلّاقة: صحافة الناس، صحافة المجتمع، صحافة مصر، فوصلت إلى القارئ، واستحوذت على اهتمامه، وعندما نسلط الضوء على ما حدث، لا نقصد تمجيده، ولكن نريد أن نجعله نموذجا للإعلام، والكلمة، يحمل رسالة الوطن، فى المستقبل، ونجعل منه مكانة خالدة، ومسارا للاهتمام، ومصدرا للسعادة الإعلامية.
أعتقد أن من قال إن المحتوى الإعلامى فى زمن السوشيال ميديا، والإعلام المفتوح، سوف يتوارى، ويسقط أخطأ تماما، فالإعلام الحى، الذى يسعى لحياة الناس، والبشر، يستمر، وينمو، ويتطور، لقد كان رحيل الأستاذ حجازى فرصة لكى نقدم هذا النموذج الخلّاق فى مهنيته، ودوره، على كل الأصعدة، سواء رياضيا، أو سياسيا، أواجتماعيا، أو نقابيا، وحتى فى البطولات التى استحدثها، وجعل منها حدثا رياضيا فريدا، كالإسكواش، فى الهرم، والتنس.. وغيرهما، فى شرم الشيخ، والغردقة.. كانت رياضة سياحية، ودعاية لمصر.. لقد سبق حجازى الآخرين فى تفرده، وأفكاره المبتكرة، وكان، وحده، مؤسسة فريدة للعمل المتواصل، والتطور المهنى المستمر، ولذلك حزن عليه الناس جميعا، وتُرجم صداه فى كل المحافل، والأوساط الرياضية، والسياسية، والفكرية، والإعلامية، فحصل على الاعتراف بالمهنية الفائقة من الجميع. لم يقلد حجازى أحدا من «جهابذة» الرياضة القدامى، رغم أنه تربى فى مدرسة نجيب المستكاوى الرياضى، والإعلامى، الأول، فى مصر، وهذا ما جعل تجربة إبراهيم خلّاقة، وباقية، على كل صعيد.. رحمه الله، وجزاه مقابل ما قدمه لمهنته، ووطنه.
لمزيد من مقالات أسامة سرايا رابط دائم: