صيحة مصر، التى انطلقت من جنوبها، أو صعيدها، فى الأيام الأخيرة، من العام المنقضى، استقرت فى ضمير الوطن، فى الأيام الأولى من هذا العام، معلنة أن المصريين أعادوا اكتشاف بلدهم القديم من جديد، والأهم أن هويتهم استقرت، بصفة مطلقة.. لم يعد المصريون بحاجة إلى أن يستوردوا من الشرق، أو الغرب، معا، منتجات، أو سلعا، أو خدمات، والأهم الأفكار.. لم يعودوا يهتزون، وهم من كانوا، منذ سنوات قليلة، تدفعهم محطة تليفزيونية خليجية مُغرضة للثورة، والفوضى، معا.. وهم، منذ سنوات، أيضا، كانوا ينقلون، ويقلدون، بغشاوة، ما يحدث فى شمال إفريقيا، بالمسطرة، لمصر، رغم اختلاف ظروفنا، وظروفهم..نحن لسنا بحاجة لأن نقلد أحدا، أو نستنسخ الأفكار من أحد.. نحن أهل الأفكار، والثقة، وأصحاب الهوية، التى لا تهتز.. نحن من نُصدر للآخرين، ولا نستورد الغث، والاضطرابات، منهم. رسالة الصعيد واضحة لأهالى بحرى، والقاهرة، والسواحل.. من هنا خذوا هويتكم.. من ساعِدنا نصنع أنفسنا.. حتى الهوية البصرية الجديدة لمدننا نأخذها من هناك.. لا من شرق أو غرب.. والتى انطلقت من الصعيد.. والصعايدة هم أصحاب القوة، والثقة فى النفس، يصدرون لكل ضواحى الجمهورية، ويذكرونها بهويتهم القديمة. فى العام المنقضى، شهدنا موكب الملوك، والملكات، ينتقل من متحف التحرير، فى موكب أسطورى، إلى متحف الحضارة، ثم تابعنا نفس الموكب المهيب، عبر طريق الكباش بالأقصر، وقبلهما انتقلت إلى التحرير مسلة فرعونية شامخة، وكباش مصرية بوجه أبوالهول صامدة.. فهل بلد، بحجم مصر، يملك مسلات فرعونية، تنتشر فى نيويورك، وباريس، وعواصم أوروبية أخرى- بحاجة لكى يأخذ صورته، ومستقبله، من بلاد نامية حولنا، حتى لو كانت غنية؟!.. فأزياؤنا، وطريقة حياتنا، نصنعهما بأيدينا، لا نحتاج لأن نقلد قادما بأزياء قصيرة، أو لحية، أو شارب، أو جلباب.. وغيرها، من بلاد مازالت تكتشف نفسها، أو نقلدها فى تظاهرات نهدم بها بلدنا، بحجة أننا شجعان، أو أبطال، وأكثر قدرة منهم، أو نلعب معهم مباراة كرة قدم، أو يسافر مصرى ليعمل فى بلد شقيق عربى، أو إفريقى، ويعود بأزيائهم وطقوسهم.. إن هويتنا جاءتنا من الأقصر.. من أسيوط.. من حضارة قديمة عمرها، الآن، آلاف السنين، وليس ممن صنعوا لنا الهوية المتأسلمة، التى تتخذ من الدين الحنيف قناعا لمنهجها الردىء فى الحكم، والسلطة، والحياة برمتها، عقب ٢٠١١، وكافحوا لمحو الهوية المصرية تماما، وكان من الطبيعى أن تبدأ الأمور فى اتخاذ منحى آخر دموى، فمن المعروف أن صراعات الهوية، بشتى أشكالها، تعد الأكثر إراقة للدماء، ذلك لأن الإنسان الذى لا يملك فكرة واضحة، أولا، عن مفهوم هويته، ونفسه، والمكان، الذى نبتت فيه جذوره، سيجد نفسه ممزقا بين مفاهيم عديدة، مثل أنا، وهو، وهم، لذلك لم تكن فرحتى، وفرحة المصريين، فقط، بالمشروعات العملاقة، التى تبنى مصر من جديد، ومحاور التنمية، والطرق الحديثة، وشبكات الطاقة، خاصة المحطة الشمسية العملاقة، وإنما الفرحة كانت بحيوية الصعيد، وهوية المصريين، التى اكتشفناها من خلال البناء، والتطور، والتحديث، حيث أعدنا الثقة بالمصرى، وهويته الفرعونية، والإسلامية، والقبطية.. كل هذا الغِنى.. كل هذه الوجوه، والطبقات الحضارية المتراكمة، جعلتنا نتعرف على وطننا.. حقيقة الأمر أن الهوية المصرية تشمل أبعادا متعددة، وتتداخل، وتمتزج، وتتآلف مع بعضها، حتى تخرج فى شكلها النهائى، باعتبارها هوية مصرية خالصة، فيظهر بُعدها المعاصر، وفوق كل ذلك، نجد أنها مازالت تحتفظ ببُعدها التاريخى العتيق، وقد ظهر لنا أن أصحاب الجذور العميقة لا يتأثرون بالتيارات الدخيلة، فماذا حدث لنا فى ٢٠١١ ؟.. لقد وجدنا أن التوظيف، الذى تم لبعض الجماعات الدينية غيب الحقائق عن مصر، والمصريين، وحتى عن المثقفين، والشعراء، المغيبين، الذين كانوا يهتفون للفوضى على أنها ثورة.. يهتفون للأفكار المستوردة من محطة تليفزيونية خليجية، أو حتى من تونس، وأنقرة، على أنها الأفكار الجديدة.. والله لقد كنت أبكى على المصريين وأنا أراهم مغيبين بأفكار قادمة من الخارج، من ملاعب كرة القدم، وفجأة انتفض المصريون، وكانت صحوتهم مرعبة، هزت الدنيا، وأعادت اليقظة، وصححت الأوضاع فى سنوات وجيزة من التاريخ.
لقد أعاد رئيس مصر، عبدالفتاح السيسى، من الصعيد، إطلاق الجمهورية الجديدة، مدنا جديدة بمعايير عالمية، واستثمار كل شبر من أرض مصر، الصحراء قبل الدلتا، والسواحل مع الوادى.. فلسفة جديدة فى قرانا، ومراكزنا، ومدننا، كلُ سيأخذ نصيبه من الاستثمارات..
لقد أردت أن أحتفى، هذا العام، بالأهم، الحارس، الذى يحمى المشروعات، ويحمى الوطن من أى اهتزاز، وهو الوعى بـالهوية الوطنية، الوعى بـهوية عامة تجمعنا فى مصر، ونحن فى مصر أبعد ما يكون عن صراع الهويات، فأينما ننظر حولنا سوف نكتشف وطننا فى كل قرية مصرية، وكل مدينة قديمة، وجديدة، ولعل مشروع الهوية البصرية لمحافظات مدن مصرهو الآخر مشروع قومى، وحضارى، غاية فى الأهمية، لأنه يمثل نقلة عمرانية، وتاريخية، فى الجمهورية الجديدة، ويمنحها هويتها، وبصمتها الجديدة.
أعتقد أن رسالة الصعيد (نحو ٤٠% من سكان مصر، وقرابة ٧٥% من مساحتها الإجمالية) كشفت عن أن صعيد مصر قد عاد إلى مكانته، وأن هناك اهتماما، ومتابعة، من الدولة، ورئيسها، وأن صعيد مصر يتبوأ مكانة لائقة فى أولويات الدولة، وخططها.
إن ما يحدث فى جنوبنا، الطيب، أمر يدعو للإعجاب، ومصر تنتظر من جنوبها أن يكون كله أكبر متحف مفتوح فى العالم، وليست الأقصر وأسوان وحدهما.. فالهوية البصرية تشمل كل محافظاتنا، والدليل أن العاصمة الجديدة لم تمنع ظهور الجلالة، والعلمين، ومدن الجيل الرابع.. لم تمنع إعادة بعث القاهرة الخديوية، وسور مجرى العيون، ووسط المدينة القديمة، ومدن جديدة فى الصعيد، أبرزها الفيوم الجديدة، وأسيوط الجديدة، والمنيا الجديدة، وقنا، وتوشكى الجديدة، وأسوان الجديدة، كما أن سيناء تنضم إلى الوادى بشبكة أنفاق لا تستطيع أن تنفذها إلا دولة عظمى، وقوية.. وكل هذا مع تطوير شامل لإمكانات، وطاقات مصر، فى كل المجالات.
لمزيد من مقالات اسامه سرايا رابط دائم: