رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مايكل أنجلو «1475 ــ 1564».. الحب بعد الأوان!

يبدو أن التطرف الدينى ضد التماثيل والنحت ليس وليد هذا الزمان، فقد عانت منه أعمال الفنان الإيطالى الشهير مايكل أنجلو من قبل، وذلك فى عام 1972 عندما قام أحد المهووسين دينيًا بالاعتداء على تمثال «الرحمة» فى كنيسة القديس بطرس أجمل كنائس الفاتيكان وأضخمها، ومن جراء ذلك التصرف الأحمق ــ خاصة أن الاعتداء تم بواسطة مطرقة من الحديد ــ تحطمت الذراع والأنف والعين اليسرى للتمثال مما استغرق ترميمه ثلاث سنوات، وكان أنجلو قد قام بنحته عام ١٤٩٩م وهو لم يزل فى الرابعة والعشرين من عمره وهو من الرخام المرمرى النادر يفوق حجمه ضعف حجم الإنسان ويزن 3 أطنان و50 كيلوجرامًا، ويعد التمثال الوحيد الذى حفر الفنان عليه اسمه ولم يخرج من الفاتيكان إلا مرة واحدة فى عام ١٩٦٥م؛ حيث غاب عنها 19 شهرًا ليُعرض فى معرض نيويورك الدولى «اكسبو 65»، حيث نُقل من إيطاليا إلى الولايات المتحدة داخل صندوق ضخم ضد الرصاص أو الغرق وفى جوف سفينة، وبعد عودته صرح البابا وقتها بأنها آخر مرة يُسمح فيها بخروج التمثال خارج البلاد، حيث يوضع فى صدارة مقصورة البابا على يمين المدخل البرونزى الرئيسى الضخم ليراه كل زائر للفاتيكان، والتمثال يمثل السيدة العذراء جالسة تحنو على جسد السيد المسيح.. و..للمرة الثانية من الاعتداءات على أعمال مايكل أنجلو يهاجم أحد المهووسين دينيًا أيضا بمطرقته تمثال«ديفيد» فى مدينة فلورنسا، مما أدى إلى إصابة التمثال بأضرار بالغة، وصرحت الأنباء بأن المعتدى فى السابعة والأربعين من العمر، حيث استطاع بقوة نزقة الصعود على التمثال الذى يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار وضربه أكثر من مرة فى أماكن كثيرة.

وإذا ما كان المعتدى فى المرتين دخيلا على الفن والنحت وعالم التماثيل، فقد استثارت يومًا الفنان نفسه من دقة محاكاتها للطبيعة، فبعد أن انتهى مايكل أنجلو من نحته تمثال «موسى» ــ الكائن الآن فى كنيسة سان بيترو ــ عاد إلى الخلف خطوات مشدوهًا مما فعل.. التمثال قد بدا أمامه وكأن الحياة تندفع فى عروق الحجر.. وكأن دفء الدماء يسرى فى برودة الرخام مما دعا صانعه يهوى عليه بالمطرقة التى لم تزل فى يده ليدق على ركبة التمثال ناظرًا إليه هاتفًا: انطق!!.. ولم ينطق التمثال ولكن نطقت دنيا الفن وتاريخه بالحكاية ترويها الأجيال لعبقرية مايكل أنجلو الذى تعددت مواهبه من موسيقى وعمارة وألوان يرسم بها لوحاته مثل: «قصة الخلق والطوفان التى رسمها خلال 4 سنوات مستلقيًا على ظهره فوق سقالات خشبية عالية يُشكل بريشته بدائع تكويناته على سقف كنيسة كابللا سستينا بالفاتيكان»، ونحت أكثر من 40 تمثالا أهمها «الرحمة» و«داود» و«موسى» إلى جانب العديد من أعماله الفنية لأسرة «ميدتشى» ولبابا روما يوليوس الثانى، وما أكثر ما يُروى عن صداقة الاثنين وعداوتهما ــ يوليوس ومايكل ــ حتى إن السينما سجلتها فيلمًا روائيًا عالميًا مثل فيه الشخصيتين الرئيسيتين «شارلتون هوستون وركس هاريسون».


فى يوم الاثنين 4 مارس عام 1475 كتب «بوناروتى سيمونى» عمدة «كابريزى» فى مذكراته: فى هذا الصباح رُزقت ولدًا أطلقت عليه اسم «مايكل أنجلو».. وتموت الأم من حُمى النفاس ليحمل الأب مولوده إلى قرية «سنتيانو» التى يعمل أهلها فى قطع الرخام، ويكلف إحدى المرضعات بتربيته فى كنفها، فأرضعته مع قطرات اللبن حبًا لا يقاوم للصخر والحجر.. وكانت أمنية الأب أن يكبر الطفل ويحترف التجارة، ولكن ميول الغلام الفنية كانت تسير فى الاتجاه المضاد، وفى المدرسة الأولية تعلم الإيطالية ولكنه لم يتعلم اللاتينية، وكان دائما يهمل دروسه ليرسم أو ليصنع التماثيل، فكان أبوه أو عمه يضربه عقابًا على ذلك.. ولما يئسَ منه الأب أرسله ليتعلم الفن على أصوله فى مرسم الفنان المصور «جيرلاندايو» ليقضى ثلاث سنوات يحس بعدها بأن طبيعته لا يرويها بريق الألوان، ولا يشبعه انسياب الخطوط، فهو يُريد كتلا من الصخر يغرق داخلها ليُشكلها ويصارعها ليصنع منها أجسامًا حقيقية يحس بثقلها وصلابتها، وكان مايكل أنجلو يتصور أن أستاذه يغار منه، كما أنه كان سليط اللسان فى نقد أستاذه، وكان يتقاضى منه بوصفه صبيًا للأسطى ستة فلورينات فى السنة الأولى، وثمانية فى الثانية، وعشرة فى الثالثة.. وبعد أن تعلَّم الرسم واللون فى مرسم «جيرلاندايو» تجلت موهبته العظيمة فى النحت، فصنع من الرخام حيوانًا خرافيًا من أساطير اليونان وضعه فى حديقة «لورنزو دى مديتشى» وما أن رأى لورنزو التمثال حتى قرر أن يبسط رعايته على الفنان الصغير، فأرسل إلى أباه يدعوه لمقابلته.. وأدرك الوالد مراد لورنزو فأجاب بأنه لا يريد لولده أن يكون «حجارًا»، ولكنه أخيرًا اقتنع ليسلم لورنزو عاهل فلورنسا ولده مايكل أنجلو ليرعاه عام ١٤٨٩ وكان لم يزل فى الخامسة عشرة من عمره، واستمرت هذه الرعاية ثلاث سنوات حتى وفاة لورنزو عام ١٤٩٢، وفى فترة تلك الرعاية كان يعامل كأحد أبناء قصر آل مديتشى، حيث خُصصت له حجرة واسعة كان لورنزو يُجالسه فيها بنفسه ويجلسه إلى جواره على مائدة الطعام بين كبار رجال الدولة والشعراء والفلاسفة، وكان الشاعر «بوليتزيانو» ــ وهو من أعلم أهل عصره فى الآداب القديمة والحديثة وأكثر شعراء فلورنسا شهرة فى أشعار العامية ــ يقوم برعاية أبناء لورنزو ثقافيا وبالتالى دخل مايكل أنجلو فى زمرة الأبناء، وهكذا قضى فترة التكوين فى أزهى مكان فى فلورنسا يوم كانت أعظم مصدر للإشعاع الثقافى فى أوروبا كلها، وكان لورنزو يمنح مايكل أنجلو خمس دوقيات شهريا كمصروف جيب ويتكفل بكسوته.

وعُرِف عن الفتى النحات أنه كان محبًا للوحدة والتأمل، ولا يأنس إلى الناس، غضوبًا شديد الشجار مع جيرانه، لاذع التهكم على زملائه، وقد جرّت عليه سلاطة لسانه شجارًا انتهى يومًا بكسر أنفه، ورغم توحده فقد كان يشارك فى الكرنفالات التى تميزت بها فلورنسا فى عصره وكان لورنزو يغذيها؛ ليلهى الناس بعيدًا عن السياسة بالاستعراضات والرقص والأغانى التى كان ينظِّمها بنفسه مثل أغنية «يا شباب ويا بنات، انعموا باليوم فلا أحد يعرف ما يأتى به الغد».. وفجأة ينتهى كل ذلك بموت لورنزو وتبدأ الظروف السيئة فى مطاردة مايكل أنجلو فهرب إلى «بولونيا» لينجو بنفسه وهناك قرأ شعر «دانتى» و«بتراك» إلى أن بلغه نبأ القضاء على السفاح «سافونا رولا» الذى كان قد انقض على فلورنسا ليتسبب فى هجرة كبار الفنانين إلى روما، وعندما أعدم حرقًا ــ سافونا ــ عاد مايكل أنجلو إلى فلورنسا ليملأها بروائعه الرخامية، وليواجه طلبات والده المالية التى لا تنتهى، وكان لورنزو قد قام بتعيينه موظفًا فى جمرك فلورنسا إلا أنه فُصل من عمله بعد طرد آل مديتشى من فلورنسا، وظل مايكل أنجلو يُعين أسرته ــ أباه وأخوته الأربعة ــ ماليًا حتى آخر يوم فى حياته، بل ظل يُساعدهم على اقتناء الأملاك فى فلورنسا ليرفع من شأن الأسرة، وكان كلما أعطاهم طالبوا بالمزيد، وازداد جشعهم حتى ساءت العلاقات بينه وبينهم، ومع ذلك ظل يساعدهم بقية عمره، بينما كان طوال حياته يعيش فى زهد وتقشف رغم ضخامة موارده، وشاع عنه البخل ولكن من الأرجح أنه كان لا يحفل بالمال، فقد كانت تأتيه العروض السخية فلا يقبلها، وإنما يعمل دائمًا بوحى من إلهامه واستجابة لمشاعر الخلق الفنى.


كاتدرائيات وصروح ومنحوتات شاهدة على مرور العبقرى فى فضاء الرسم والنحت والهندسة حتى مرقده الأخير فى ك

وفى سنة 1505 يدعوه البابا الجديد «يوليوس الثانى» إلى روما ليُكلفه بتصميم مقبرة فاخرة له، تُقام فى كاتدرائية القديس بطرس بروما، وكان البابا رجل سياسة لا رجل روحانيات، وكان يرعى الفنانين لمجده الشخصى، وكان يتصرف باعتباره أميرًا دنيويًا لا يهدف إلى توحيد إيطاليا بقدر ما يهدف إلى إخضاع دويلاتها ووضعها تحت سيطرته، وكان أهم من رعاهم من الفنانين المعمارى الشهير «برامانتى» والمصور «رافائيل» والمثَّال «مايكل أنجلو» الذى أقبل على مشروع مقبرة البابا بحماس شديد ليقضى ثمانية أشهر فى إعداد المشروع بتصميم لمقبرة ضخمة على شكل مستطيل ذى أربع واجهات، وبه أكثر من أربعين تمثالا من الرخام، وعلى سطحه ملائكة يحملون التابوت الرخامى، ويذهب مايكل إلى «كرارا» لاختيار الرخام بنفسه، وكان البابا قد وضع لحسابه فى بنك «سلفياتى» فى فلورنسا 2000 دوقية تحت حساب المقبرة ولكن دون تحديد لمرتبه إلى جانب نفقات طعامه ومسكنه، وفى «كرارا» قام مايكل أنجلو بشحن أكثر من 34 عربة محملة بالرخام، وبعدها حمولة 15 عربة أخرى أرسلها جميعها عن طريق البحر.. ويعود إلى روما ليجد أمرًا من البابا بالعدول عن رأيه، بعد أن أوحى له المهندس «برامانتى» أن بناء المقبرة فى حياته مجلبة للنحس، ويخرج الفنان مدينًا بثمن الرخام الباهظ الذى تعاقد عليه ولا تستكمل المقبرة إلا فى عام ١٥٤٥؛ أى بعد أربعين عامًا فقد تعاقب على المشروع عدة بابوات كان لكل منهم رأى فى التصميم، ومع كل تعديل كان مايكل أنجلو يُوقع عقدًا جديدًا بمواصفات جديدة كلها تتجه نحو اختصار الفخامة وضغط النفقات، حتى بلغ عدد العقود خمسة، بل لقد انتهى الأمر بتغيير مكان المقبرة ذاتها لتُقام فى كنيسة القديس بطرس بـ«فينكولى» بدلا عن كنيسة القديس بطرس فى «الفاتيكان»، وكانت ميزانيتها الأولى ١٦.٥٠٠ دوقية ذهبية لم يتسلم منها مايكل سوى ٦١٠٠ دوقية من البابا «ليو» العاشر!.. ولم يبق من التصميم الضخم إلاّ مقبرة ذات واجهة واحدة صغيرة الحجم تحف بها ستة تماثيل أحدها تمثال «موسى» أعظم التماثيل فى تاريخ مايكل أنجلو، والخمسة تماثيل الأخرى وهى: «المادونا والطفل»، وتمثال «حياة العمل»، وتمثال «حياة التأمل» وتمثال «نبى»وتمثال «عرافة»..

وكان أن دعاه يوليوس «بابا روما» مرة ثانية فكان مايكل يتردد متخوفًا من أن يُغتال فى روما بالسم أو الخنجر، وأخيرًا كتب البابا إلى «السنيورية» (المجلس الحاكم) فى فلورنسا يُطالب بتسليم مايكل أنجلو إليه، فعاد بعد أن زودته السنيورية بخطاب من البابا يؤمنه على حياته ويقول له فيه إن أى عدوان عليه يُعد عدوانًا على فلورنسا، وكان أثناء إقامته فيها قد أتم رسمًا حائطيًا على الجبس عن معركة «بينرا» صَوَّرَ فيه الجنود عرايا يستحمون فى نهر «الأرنو» فلما نادى النفير هرعوا للسلاح وهم عرايا، وقبل عودته أيضًا أقام فترة فى بولونيا صنع فيها تمثالاً للبابا يوليوس بضعف حجمه الطبيعى، وكان قد تلقى من البابا 1000 دوقية مقدمًا.. وفى روما بدأ مايكل أنجلو يرسم صور فريسكات حوائط محراب كنيسة السستين فى كاتدرائية القديس بطرس بالفاتيكان بتكليف من البابا يوليوس الثانى، والفريسك هو الرسم الملون على الجدران أو على السقف قبل أن يجف الطلاء أو الملاط أو الجبس أو المصيص.. بدأ بفريسك القبة فى 10 مايو 1508 وانتهى منه فى أكتوبر ١٥١٢م، فكان قد كسا قبة المحراب بالنقوش التصويرية فى أربع سنوات ونصف، ويقال إنه تقاضى عن ذلك 3000 دوقية ذهبية عن فريسكات قبو محراب السستين، وكان يعمل بمفرده، واستمر يضيف الفريسكات على جدران المحراب بصورة متقطعة، ولم يفرغ تمامًا إلا فى ديسمبر ١٥٤١م، وبهذا يكون العمل فى نقوش كنيسة السستين قد استغرق نحو 33 سنة متقطعة، وقد صَوَّرَ مايكل أنجلو فى المحراب قصة الخليقة، وسقوط آدم وحواء، وقصة الطوفان، وقصة المسيح حتى يوم القيامة، وكان قد استوحى هذه القصص من أسفار التوراة والإنجيل، ومع هذه القصص صور بابوات روما.. وكان أسلوب أنجلو يسمى «الأسلوب الجديد» فقد كان المصورون من قبله فى القرن الخامس عشر يتوسعون فى الاعتماد على الزينة، فيما يرسمون من موضوعات مقتبسة من الكتاب المقدس أو من أساطير القدماء، أما أنجلو فقد تجنَّب رسم مناظر الطبيعة والأشجار والأزهار والطيور والحيوانات، كما تجنَّب رسم أوراق الشجر والفاكهة والأرابيسك والشمعدانات، وتجنَّب أيضًا رسم المجموعات الثانوية من الأشخاص لمجرد ملء الفراغات، باعتبار أن كل ذلك موتيفات رخيصة يستجدى بها الفنان الكسول إعجاب الجمهور دون جهد مبذول منه.


قصة الخلق رسمها «أنجلو» راقدًا على ظهره

كان أنجلو مُركزًا على جسم الإنسان بوصفه دراسة مضنية فى التشريح، وكان شديد الإعجاب بخطوط جسم الرجل وجماله، ولا يحفل بجمال جسم المرأة، وهى سِمة كثيرًا ما تلاحظ فى الفن اليونانى القديم، ومن هنا جاءت أكثر أعماله الفنية من تماثيل وصور بإتقان فائق الدقة فى كمال أجسام الرجال.. وقد أبدَّع أنجلو ٢٠٠٠ عملا فنيا لم يبق منها سوى ٦٠٠ فقط من بينها ٤٠ تمثالا بالحجم الطبيعى، ويُعد تمثال «ديفيد» أضخم الأعمال التى قام بنحتها إذ يبلغ طوله ٦ أمتار، وكان أنجلو غريب الأطوار سىء الحظ مع خدمه ومعاونيه، وكان فى فترة عمله فى محراب السستين يُقيم فى غرفة واحدة ـ أو شقة العازب ــ ويشرك معه فيها ثلاثة من هؤلاء، وكثيرًا ما كان ينام بملابسه كاملة.. وكان لا يطيق وجود خادمة فى البيت لعقيدته بأن جميع خادمات روما «بغايا وخنازير»، وكان لا يكف فى خطاباته عن تعنيف أسرته، وكان حاد الطباع عادة الكثيرين من فنانى عصره بسبب صراحته.. كان سريع الغضب.. متسرعًا فى القول والفعل، لكنه كان سرعان ما يهدأ وكأن شيئا لم يكن، وكان كثير الشكوك إلى حد المرض، شديد الاكتئاب إلى حد الجنون.. يكره مخالطة الناس.. متقشفًا إلى حد الظهور بالفقر، متهمًا بالبخل رغم مساعدته للكثيرين ماليًا.. ولم يكن يطيق أن يشاركه أحد فى العمل، ولا يُحب أن يعلِّم فنه لأحد.. وكان كتومًا كالصندوق المغلق لا يطلِّع أقرب معاونيه على تصميمات مشروعاته الفنية المستقبلية، وقد تسبب جهلهم بنواياه فى تغيير تصميماته بعد وفاته.. وكان مايكل أنجلو جبانًا رعديدًا على مستوى الشجار البدنى، ولكن كانت له طاقة جبارة على مواصلة العمل.. وكان بعض أصدقائه الخُلصاء يتهمونه بأنه سكير، وقد عُرف عنه عدم اكتراثه بالنساء.. ولكن مايكل أنجلو الفنان كان شديد التواضع فى الفن ينحنى لأى من مدرسيه وأساتذته، رغم أنه كان متطرف الكبرياء على المستوى الاجتماعى، فقد كان يكره أن يُسمى «مثالا أو نحاتًا»، وكان شديد الاعتداد بنسبه البعيد الذى يمتد إلى سادة كانوسا وأشرافها.

ولأن مايكل أنجلو لم يترك وراءه تلاميذ ولم يُعلِّم أحدًا شيئًا فهو لم يخلف مدرسة رغم أنه عمر إلى التسعين، بينما ترك «رافائيل» مدرسة زاهرة فى تاريخ الفن رغم أنه مات فى شرخ الشباب.. كان رافائيل يُكلف تلامذته بالأعمال ثم يصححها، بينما أنجلو يضطلع بأى عمل يتصدى له من الألف إلى الياء.. وقد فكر مايكل أنجلو يومًا فى الهجرة إلى باريس، لكنه عدل عن قراره واكتفت السنيورية بتجميده لمدة ثلاث سنوات عقابًا له على تسلله من فلورنسا؛ قاصدًا البندقية حاملا معه 3000 دوقية، وبعد عودته وضع تصميم تمثاله «شمشون الجبار» ورسم لوحة «ليدا والبجع» التى دُمرت بأمر الوزير دينواييه فى عهد فرانسوا الأول وذلك بسببب إباحيتها، وفى هذه الفترة أيضًا نحت مايكل أنجلو من الرخام تمثال «أبوللو رامى السهم».. ولم يعد أنجلو بعدها إلى فلورنسا فقد غادرها إلى «بيزا» وروما فى ديسمبر 1534 ولم يعد إليها حتى مات عام 1564 ليُدفن فيها.


أحزان ملائكة مايكل أنجلو

عندما مات مايكل أنجلو فى 18 فبراير 1564 لم يجدوا عنده إلا صندوقا مختوما بالشمع الأحمر يضم 8000 كورون و10 رسوم جديدة، وبعض التماثيل القليلة غير المكتملة التى تمثل موضوعات دينية، منها تمثال للقديس بطرس.. وكان يمتلك عند موته بيتًا فى روما، وبيتًا فى فلورنسا، وبضعة حقول فى توسكانيا، إلى جانب ما كان يرسله من إعانات لأسرته.. وقد نُقل رفاته من روما إلى فلورنسا، حيث دُفن فى كنيسة «سانتا كروتشى» فى احتفال مهيب شارك فيه جميع الفنانين وآلاف المواطنين.

وحول علاقة أنجلو بالمرأة فربما لا يأتى التاريخ على ذكرها، لأنه لم تكن هناك علاقة من الأصل؛ اللهم إلا من خلال صداقته لسيدة تدعى «فيتوريا كولونا» وهى ابنة حكمدار نابولى، وكانت زوجة للمركيز «دى بيسكارا» أحد قواد الإمبراطور «شرلكان» ومات فى عام 1525 متهمًا بخيانة الإمبراطور، وقد ظلت «فيتوريا» مخلصة لذكرى الزوج لا تخرج من بيتها وتنظِّم الشعر، ولم تبدأ علاقتها بمايكل أنجلو إلا بعد الحادية والأربعين من عمرها وكان الفنان قد بلغ الستين، ولم يكن وحده الذى نال حظوة صداقتها ولكنه كان داخل باقة من الشعراء والفنانين الذين خرجت إليهم «فيتوريا» محطمة عزلتها، وقد وضعها دعاة «الإصلاح الدينى» موضع الريبة وعدم الانشقاق على الكنيسة الكاثوليكية التى ينشقون عليها، وربما اجتذب مايكل أنجلو فيها أنه كان مثلها من دعاة إصلاح الكنيسة، وقد قام بنظم عدة قصائد من الشعر الرومانسى فيها.. وكان يدعو اللـه ألا يعود مرة أخرى الرجل الذى كانه قبل أن يلتقى بها، فقد كانت الكآبة تغادره إذا ما مشت معه أو تحدثت إليه، وكان إلى جانبها حين حضرتها الوفاة عام 1547، وظل بعد وفاتها زمنًا طويلا محطم القلب يلوم نفسه، لأنه لم يُقبّل وجهها كما قَـبَّل يدها فى لحظاتها الأخيرة، وكانت تقول له فى خطاباتها: «إن صداقتنا صداقة ثابتة، وحبنا قوى وفريد من نوعه تربطه رابطة مسيحية وثيقة»، وفى خطاب آخر تقول: «أطمح لعبور مياه أخرى.. لصعود جبال أخرى لا تستطيع تسلقها أقدام البشر.. أتضرع للشمس أن تضىء الأرض والسماء وأن تدع سطوعها يسكب على جسدى نورًا يساوى عطشى الكبير»، ويروى التاريخ أنها أرسلت إليه أغانى بلغ عددها 143 أغنية قام هو بالرد عليها بأغان تفيض حبًا وإعجابًا وإخلاصًا.. أما بقية صداقات أنجلو فكانت كلها من الذكور مثل النبيل الشاب «توماسو كافالبيرى» و«جيرهاردو بيرينى» وغيرهما، وقد وضع عدة قصائد فى مدح «توماسو» شبيهة بسونيتات شكسبير التى امتدح فيها جمال «إيرل ساثمامبتون» وكانت داخل مجموعة باسم «القوافى»، ويلاحظ المؤرخ أن الإخوة «بوناروتى» الخمسة أبناء «بوناروتى سيمونى» عمدة «كابريزى» وفيهم «مايكل أنجلو» لم يتزوج منهم إلا واحد فقط..


كان حب مايكل أنجلو للشاعر «دانتى» شاعر الكوميديا الإلهية عارمًا وفياضًا لدرجة أنه قدم طلبًا لنقل رفاته من «رافنا» إلى فلورنسا مسقط رأسه على أن يقوم هو بعمل مقبرته بدون مقابل، ولكن طلبه لم يتحقق، فكتب قصيدة يقول فيها: «ليتنى أستطيع أن أستبدل حياته بحياتى.. لكى أتألم مثله.. ولكى أكون عظيمًا مثله» ويشهد التاريخ لمايكل أنجلو أنه كان ذلك العظيم فى كل شىء.. فى تصويره.. وفى نحته.. وفى هندسته.. وفى شِعره الذى قال فى إحدى قصائده:

الآن بلغت حياتى التى اخترتها بحرًا عاصفًا كأنها الزورق الهش بلا حول ولا قوة.. حياتى بلغت المرفأ الواسع الذى يؤمر الناس جميعًا بالدخول فيه لتلقى الجزاء.. اليوم يحاسب كل البشر على ما قدمت أيديهم وللخيرين أوفى جزاء.

الآن فقد أدركت أن ذلك الوهم الذى استحوذ على قلبى ليجعلنى عبدًا خاشعًا للفن الأرضى الزائل ما هو إلا لهو وعبث باطل تذروه الرياح.. ألا ما أشدّ إثم ما يطلبه الناس ويتلهفون عليه.. إنه تهاويم حب آثم صُوِّرت فى ثياب لا تكاد تستر الجسد.. ما قيمتها جميعها حين يقترب منا الموت بوجهيه: موت أدركه عن يقين، وآخر أخشاه وأرهبه، فلا التصوير ولا النحت الآن بقادران على أن يمنحا روحى السلام عندما تتوجه بالضراعة للعظيم فى عليائه..


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: