رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أنتونيو جاودى.. عبقرى على ظهر حمار

ما إن تدور بين آثاره المعمارية المذهلة فى إسبانيا وتتملّى فى تصميماته العملاقة، حتى تشعر بانعكاس روح الشرق وجذوره التاريخية وروعة بناء مآذنه التى رفعت يومًا آذان الصلاة فى ربوع الأندلس، واستوحاها المهندس الفنان الإسبانى «أنتونيو جاودى»، المولود عام 1852م، فى قرية «روس» بمقاطعة «كاتالونيا» فى بر برشلونة، أكثر المناطق الإسبانية ثراء، بشواطئها الساحرة وبناياتها التى تتنفس تاريخها العريق وحاضرها الجميل، وكان الابن الأصغر بين خمسة أشقاء ثلاثة فقط من بقوا على قيد الحياة، وتزوج فى عام 1878 من «أنطوانيتا كونيت بيرتران» وخلال مراحل عمره تعرَّض لعدة نوبات من الحمى الروماتيزمية التى انتزعت آلامها الكثير من وقته مما جعله فى فترات خمودها وحيدًا متأملا للطبيعة ومفرداتها من كائنات ونباتات وحيوانات وصخور، وكان جاودى نباتيًا زاهدًا متجنبًا الشهرة يرتدى الثياب البالية، ويستحم بالماء البارد فى أوج الشتاء، ولم يخلف من ورائه سوى بضعة أوراق شخصية بعدما أُتلفت سجلاته المعمارية خلال الحرب الأهلية الإسبانية حيث لم يعثر له بعدها إلا على بضع صور بالأبيض والأسود، ومعظم وقته أمضاه فى مواقع البناء والصلاة، وجميع بناياته صمم لها نماذج صغيرة يحذف منها ويُضيف إليها حتى تكتمل فى نظره قبل الشروع فى البناء على أرض الحقيقة لتبقى روائعه الهندسية راسخة شامخة على مر السنين، ووصلت شهرته فى حياته إلى أمريكا ليطلب منه تشييد فندق ضخم فى نيويورك.

جاودى عاشق العمارة الأندلسية التاريخية، بزخارفها ومنمنماتها وفسيفسائها وزجاجها المعشق وقصورها الغنّاء، لينعكس هذا العشق بعد قرون من الفتح العربى فى عام 755م، على أعماله فى القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل «كنيسة العائلة المقدسة» فى برشلونة و«النزوة El Cabricho» فى مدينة «سانتاندير Santander» شمال إسبانيا، ومنزل Vicenes فى بر برشلونة.

تأثر «جاودى» بالأسلوب العربى التاريخى فى البناء الذى شيَّد «مدينة الزهراء» فى عهد عبدالرحمن بن معاوية، ابن الخليفة هشام بن عبدالملك، وذلك على سفح جبل العروس، وظل عشرة آلاف عامل يقومون ببنائها على مدى خمسة وعشرين عامًا، وكانت الطبقة الأولى فيها البساتين والحدائق، وفى الطبقة الوسطى دور الموظفين، وفى العليا مقره وقاعته الكبرى المزدانة بأعمدة الرخام والحلىّ الذهبية، إلى جانب تماثيل الحيوانات من الذهب الخالص، وكان القصر يمتد طولا نحو ثلاثة آلاف ذراع، وعرضًا ألف وخمسمائة، وكان فيه أربعة آلاف عمود من الرخام، ويتضح ثراء الحكم الأموى وأبهته بالأندلس فى المسجد الجامع بقرطبة، ولاتزال روعته ماثلة إلى اليوم على الرغم مما اقتطع منه للكاتدرائية والكنيسة، وقد استغرق وصف روعة المعمار فيه نحو عشرين صفحة فى كتاب «الفن العربى فى إسبانيا وصقلية» لـ«فون شاك» الذى قام بترجمته الدكتور «الطاهر مكى»، وقام المنصور بن أبى عامر، حاجب الخليفة هشام المؤيد بدوره ببناء «مدينة الزهراء» من جديد..


ولا يتضح ثراء الحُكم الأموى فى بناء الجامع الكبير الذى ظل يعنى الحٍكام الأمويون حتى عهد المنصور بزخرفته والاتساع به، ولا فى بناء القصور والمدن فحسب، فمن أهم صوره الهدايا الفاخرة التى ذكر الرحالة ابن حيان أن عبدالرحمن الناصر كان يُرسلها إلى أمراء المغرب، وذكر ابن خلدون فى ترجمته عن الناصر أن هدية وزيره إليه بلغت خمسمائة ألف مثقال من الذهب، وظل كثير من صور هذا الثراء الواسع ماثلا فى عهد أمراء الطوائف الأمويين، ويتضح فى تنافسهم فى بناء القصور، على نحو يصوّره المؤرخ «ابن بسام» فى وصفه لقصر «المكرم» للمأمون بن إسماعيل، حين احتفل فيه بسبوع حفيده يحيى: «وكأننا انتقلنا إلى قصر مسحور من قصور ألف ليلة وليلة، لكثرة ما فيه من ضروب الديباج والطنافس والستائر المزركشة وأزر الحيطان المرمرية، وما عليها من تماثيل وصور لحيوانات وأطيار وأشجار وثمار، وبحيرتين صفت عليهما تماثيل أسود من الذهب والمياه تنساب من أفواههم».

ولم يكن المعتمد بن عباد، صاحب أشبيلية، يقل عن المأمون فى طليطة إسرافًا فى بناء قصوره، والإنفاق على مجالس أنسه، وكان شغوفًا بزوجه «اعتماد الرميكية»، وفى كتاب «نفح الطيب» التاريخى أن اعتماد رأت يومًا فى أشبيلية النساء فى السوق يرفعن ثيابهن عن سيقانهن، تخوفًا أن ينغرسن فى طين الأرض، فقالت له: أشتهى أن أفعل مثلهن أنا وجوارىّ، فأمر المعتمد بأن تكون حدائق القصر خليطًا من عنبر ومسك وكافور وماء ورد، وكان الخليط طينًا، وخرجت ست الحُسن والجمال وجواريها يخضن فى ذلك الطين الثمين.

ويشيِّد السلطان يعقوب الموحدى جامع أشبيلية ومئذنته «الخيرالدا» القائمة حتى الآن؛ ليُظهر فيه مدى مهارة الفنان العربى فى المعمار والزخرفة، ويذكر التاريخ أنه كان بالأندلس غابات كثيرة، هيأت لصناعة الأساطيل وازدهار صناعة الأثاث، واشتهرت «طرطوشة» بصنوبر أحمر صافٍ، من عيدانه اتخذ خشب المسجد الجامع بقرطبة، وكانت المعادن كثيرة ومنها معدن الزئبق فى شمال قرطبة.

ويقول ابن خلدون فى مقدمته عن الأندلس وصناعاتها، وقد نزلها فى أواخر القرن الثامن الهجرى: «إنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة، وأحوالها مستحكمة راسخة فى جميع ما تدعو إليه أمصارها، كالمبانى والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار، والرقص والرياش وحسن الترتيب، والأوضاع فى بناء القصور الفارهة، وصوغ الآنية من المعادن والخزف، لتظهر الأدلة على رسوخ الحضارة أيام الدولة الأموية ودول الطوائف فى الأندلس».

ومن أكبر الأدلة على روعة البناء والتشييد ومظاهر حضارة العرب فى الأندلس، «قصر الحمراء» الذى شيّدهُ فى غرناطة أمراؤها فى أعوامهم الأخيرة بها، وهو ليس قصرًا فحسب، بل معرضًا رائعًا لما وصلت إليه الحضارة الإسبانية العربية من ازدهار، وبه يُحيط سور يعلوه شرفات للحراسة، وتلقاك بداخله «جنة العريف» وهى حديقة وكأنها اقتطعت من الفردوس بنافوراتها وشلالاتها المتدفقة وأشجارها الباسقة وأزهارها النادرة، ومن ورائها ذلك القصر المهيب، وقد فرشت أرضه بالرخام وازدانت حيطان قاعاته وردهاته وغرفه بالآيات القرآنية والأشعار وآلاف الزخارف، وتلقاك أُسود فى قاعة حاملة حوضًا من الماء ينسكب من أفواهها..»، وقد استغرق وصف هذا القصر وجنّاته فى كتاب «الفن العربى فى إسبانيا وصقلية» للمؤرخ «فون شاك» أكثر من خمسين صفحة، وإنه ليقول وقد أخذت روعته به كل مأخذ: «سعيد من يستطيع زيارة الحمراء، إذ سوف تستيقظ فى روحه الأحلام المكبوتة، وتحيا الآمال الضائعة»!


ذلك التاريخ العربى الفنى الذى ورثه «أنتونيو جاودى»، والذى يضعه النقاد العالميون علامة ومؤشرًا وبوصلة لمرحلة مهمة من تاريخ تطور العمارة الحديثة فى أوروبا، ذاكرين أن العمارة الإسلامية كانت الأساس فى وجود عمارة جاودى، حيث استلهم منها أفكاره وتصاميمه، وأهمها «كنيسة العائلة المقدسة» فى برشلونة الذى يُعد عملا أسطوريًآ يمثل عصارة تجربة جاودى وعبقريته، وعلى الرغم من أن المشروع قد بدأ به جاودى عام 1883م، فإن العمل مازل فيه جاريًا حتى الآن، رغم وفاة صاحبه فى عام 1926م، بمعنى أنه قد مرّ على بنائه أكثر من مائة عام ولم يزل غير مكتمل، فالجزء الشمالى قد نفذ فى حياته، أما الآخر فمازال العمل فيه جاريًا تحت إشراف نخبة على أعلى مستوى من المعماريين والفنانين الإسبان، وقد وضعت بلدية برشلونة خطة لإنهاء تلك الكنيسة مع مرور مائة عام على وفاة جاودى فى 2026، ويلاحظ أن الفرق بين هذه الكنيسة والكنائس الأخرى أن جاودى قد جعل المنحوتات والرموز والزخارف جزءًا من العمارة وكأنها من مواد الإنشاء والبناء، بينما لانجد ذلك ظاهرًا فى الكنائس الأخرى، وقد جعل جاودى واجهة الكنيسة تحكى قصة ولادة المسيح والعقيدة والمجد، أما الأبراج فترمز إلى المسيح ومريم والملائكة والحواريين الاثنى عشر، وجعلها فى ترابط من ناحية المعنى الدينى، واليوم أصبح هذا المكان قبلة لآلاف السياح يوميًا وفى كل الأوقات، وغالبية زوار الكنيسة لا يستطيعون مواصلة الصعود إلى أبراجها الشاهقة التى يصل ارتفاعها إلى ما يعادل عمارة من أربعين دورًا، وذلك لأن تلك الأبراج مخروطية الشكل، وبالتالى تضيق كلما ارتفعت؛ ويضم المشروع ثمانية عشر برجًا، لم ينته منها حتى الآن سوى ثمانية أبراج، وعند زيارة المبنى الأسطورى يلاحظ المشاهد ذلك التباين فى لون الحجر بين الجزء الأمامى والخلفى للمبنى، وأيضًا طراز البناء الذى يبدو مختلفًا إلى حد ما بين الأجزاء الجديدة والقديمة للمبنى، وفى الكنيسة مصعد يوصلك إلى ارتفاع 65 مترًا، وبعدها للهواة يمكن أن تشق طريقك وسط مجموعة الأبراج بالغة الضيق التى تلتوى حتى ارتفاع 90 مترًا، حيث توجد شقوق يمكن أن تشاهد منها المدينة.

ومبنى كنيسة الـ«ساجرادا فاميليا» هذا قد اعتمد فيها أنتونيو على الأعمدة المائلة فى الإنشاء، ويتكون من ثمانية عشر برجًا، وكل برج يشير إلى شخصية دينية مختلفة وجرس خاص؛ مما يُشكل مجموعة أجراس ينطلق رنين دويها معًا فى جوقة، مما يخلق جوًا أسطوريًا من نوع خاص يتماشى مع الزخارف المزركشة التى تكسو واجهات الأبراج، فاعتقاده أن الألوان هى الحياة، مع علمه بأن حياته مقيدة وستنتهى لابد قبل رؤيته لعمله هذا منتهيًا، وذلك لمرضه بالتهاب فى المفاصل الذى كان يسبب له آلامًا مبرحة فى يديه، ونادرًا ما كان قادرًا على المشى، مما جعل جميع تنقلاته فوق ظهر الحمار، وإذا ماكان أنتونيو جاودى قد حصل على لقب مهندس معمارى فى 1878م فقد جاء ذلك بعد أربع سنوات من الخذلان والتجارب الهندسية التى لم يعترف بها أساتذته فى كلية الهندسة المعمارية ببرشلونة، التى مكث فيها طالبًا فى الفترة ما بين 1873م إلى 1877م.

وجاءت الفترة من 1886 حتى 1890 التى أنجز فيها «جاودى» عمله التاريخى فى برشلونة، المسمى بـ «قصر جويل» من أجل صاحبه الكونت «يوسيبى جاويل»، وكانت مساحة العقار تتعدى 1882 مترًآ، إلا أن الأرض فى منطقة مهملة من المدينة، ولكن صاحبها الثرى لم يكن يعنيه المال المطلوب لبناء منزل يليق بمكانته الاجتماعية، مما جعل «جاودى» يُطلق يده الهندسية وأحلامه الرومانسية فى إقامة مبنى من أربعة طوابق، يحتوى على فناء داخلى مسقف بقُبة لها نوافذ نجمية الشكل، وزيّن السقف بمنحوتات مكسوة بالموزاييك، ويمتاز المبنى بالمنحوتات المجسمة، شأنها فى ذلك شأن العمارة القوطية، فهناك أفاريز تحمل أشكالا مجسمة للمسيح والحواريين والملائكة، مع حيوانات نحتت جميعها بروح الواقعية المبالغ فيها.


وقد صرح «جاودى» دومًا بأن الزخارف لابد وأن تحتفظ بحقها فى أن تكون تمثيلية واقعية، ومن هنا كانت قطع النحت نسخًا للواقع وتصويرًا له، فهو يرى أن هذه العناصر الجمالية الممثلة فى قطع النحت لابد وأن تعبّر بذاتها عن القوى الحركية الكامنة فيها من خلال واقعيتها، ومن هنا أكسب جاودى أعماله صفة متميزة لاصقة باسمه، ولهذا يُقال إنه فى قصر جويل خاصة ظهرت ممثلة تمثيلا صادقًا على أسلوب المهندس العملاق الذى استقى أعماله من الطبيعة، مغلفًا برداء عربى أندلسى وفن قوطى.

وفى السنوات من 1900 حتى عام 1914 قام «جاودى» بإنشاء «حديقة جويل» تبعًا لرغبة الكونت جاويل، ويُعد هذا المشروع من أكثر أعمال عصره ثورية، فقد ابتكر فيه أسلوبًا جديدًا بأن كان البناء عبارة عن مجموعة منعطفات متلاحمة تعكس طبيعة جبال «بيلادا Pelada» الإسبانية ولاسيما قمة «شوف»، والمشهد العام للحديقة يظهر المصاطب الملتوية، حيث كان جاودى يعتقد أن الخط المستقيم لا وجود له فى الطبيعة، وأنه لا يتماشى مع خطوط الإنسان المكونة من مجموعة منحنيات وليس خطوطًا مستقيمة، ولأن هذه الحديقة مخصصة للإنسان فهى جديرة بأن تحقق بيئة حرة تساعد على توفير الانسجام البشرى وواقع هذه الحديقة، ولقد كان العامل الطبيعى الملتوى فرصة لجاودى لتوزيع ستين تنينًا فوق مدرجات الجبل، جميعها متطابقة، ومشرفة على السهل، تطل منها شرفات واسعة أو مصاطب جبلية، تتداخل ويتماهى بعضها فى بعض، لتظهر بمشهد خلاّب تتآخى فيه الطبيعة مع العمارة، مع بقع ملونة من بلاطات الخزف، مما جعل المشروع بكامله عملا متعدد المزايا، فهناك وحدة عضوية، إلى جانب بيئة جمالية تضافرت فى تكوينها صخور الجبال، وخضرة النباتات، وبهاء المبنى وتفرده، إلى جانب براعة عمرانية تفسح للإنسان مجال الحركة الحرة والمتعة الدائمة، ويُعد هذا العمل أروع نموذج لتوظيف الطبيعة لتحقيق النفع للإنسان.

ويظل الجزء الأكبر من تراث «جاودى» فى حالة ممتازة رغم الاعتقادات فى عصره بأن زوايا أعمدته المائلة بصورة غريبة ستنهار ذات يوم، حتى أن عامل بناء قطالونيا تجرأ ليقول له إن الشرفات الخارجية لمنزل «مانويل فيسينى» الذى صمَّمه جاودى سوف تنهار عند نزع دعائمها، لأن الأجزاء الناتئة لن تكون قادرة على حمل وزنها، وبقى العامل ساهرًا لعدة ساعات تلك الليلة ليُتابع حدوث الكارثة.. واليوم لم تزل تلك الشرفات على حالها تمامًا كما صممها صاحب العبقرية التى لامست حواف الجنون.

وكان جاودى فى الفترة ما بين 1888م حتى 1890م قد شيَّد كنيسة الراهبات التيريزيان، وهو مبنى لا يشبه كثيرًا أعمال جاودى وإن كان من أوائل أعماله، وقد اتجه فيه إلى البساطة فى المظهر الخارجى، متأثرًا بالصروح التاريخية الإسلامية بالأقواس الداخلية العالية فى الممرات، لكنها لم تكن مدببة بل تلتقى فى نهاية دائرية، والمعهد يتألف من أربعة طوابق، استخدم فيه القرميد والحجر مع باب حديدى، وأعمال الزينة جميعها بالفسيفساء، واهتم بالإنارة الطبيعية للممرات الداخلية، وتميَّز السطح بمدخنة شبيهة بالموجودة فى مبنى جويل الذى كان يُنفذه بالفترة نفسها، وقد تعرضت بعض واجهات من المبنى وأجزائه للدمار فى فترة الحرب الأهلية الإسبانية، وفى عام 1969م أعلنت الهيئة الدولية للعناية بالآثار بأن المبنى يُعد معلمًا تاريخيًا وفنيًا فريدًا.

ومثل لوحة سريالية من الخيال، تتماوج فيها الجدران بواجهة كموج البحر لتبدو النوافذ والأبواب وكأنها غارقة فى الرمال، صمَّم «أنتونيو جاودى» فى الفترة ما بين 1906م و1910م مبنى «كازا ميلا أرسيلونا» أو ما يُعرف فى إسبانيا بـ«بيريا»، البناء الذى تنبثق المداخن من سقفه الأخير وكأنها تتراقص مع حركات المبنى، الذى صُنف فى عام 1984م من قِبل اليونسكو باعتباره مبنى من التراث العالمى، ويُستخدم الآن معرضًا ثقافيًا يضج بالزوار السياح.

ويُنفذ جاودى فى الفترة ما بين 1900 حتى عام 1914 حديقة الـ«جى آل بارك»، التابعة لحى سكنى، وتمتاز جدرانها المُزيَّنة بالسيراميك وبحركات مليئة بالحيوية والطبيعة ضمن خطوط منحنية، وقد عَمَد فيها مهندسها النادر إلى استخدام كسر الخزف، والموقع اليوم فى سجلات التاريخ من التراث العالمي.

وعلى نهج التماوج والمنحنيات التى عشقها جاودى، قام ما بين عامى 1901 و1902 بتنفيذ سياج متومج حول عقارات يملكها صديقه «ميراليس» فى برشلونة، وكان للسياج بوابتان: إحداهما للمشاة، والأخرى للعربات، والسياج مكون من ستة وثلاثين جزءًا، والجدار الحجرى المتماوج يشبه ظهر السلحفاة، ولم يعد موجودًا الآن من السور سوى بوابة وحيدة، ليدرج العمل الفنى بوصفه معلمًا تاريخيًا وطنيًا فى عام 1969م.. وفى عام واحد ما بين 1908 حتى 1909 شيَّد جاودى «مدرسة الأسرة المقدسة» لأبناء العاملين فى المبنى الأسطورى «ساجرادا فاميلى» أو «كنيسة العائلة المقدسة» والمدرسة تتألف من ثلاث غرف والجدران فيها متماوجة، وكذلك السطح يعكس شكل موج البحر، ومع الزمن تهدم البناء واحترق مرتين وأعيد ترميمه.

ولا يمكن وصف أعمال جاودى دون معرفة لعمقها الفكرى ووظيفتها الاجتماعية، كما لا يمكن تجاهل الرموز الكثيرة فى أعماله، فكل عمل يعكس قدرة كبيرة على الخيال الذى يسيطر على جموحه داخل مسار عقلانى فى العمل والتصميم والوظيفة، بحيث تجد لها أسبابًا ومبررات مقنعة وضرورية فى حياتنا، ولا يمكن القول بأنها زائدة أو مجرد ترف وليس لها أى وظيفة معمارية، وربما يعود ذلك كله إلى سيطرة العقل عند جاودى على كل أمور الإبداع، بالإضافة إلى اتجاهه الدينى، ويقول عنه الناقد الفنى الإسبانى «سولا مورالز sola Morales»: إن معرفة أعمال جاودى لا تأتى من كونها مرحلة قد مرت بها العمارة العالمية، وإنما هى نموذج للدراسة والتحليل الدائم فكل يوم للمتأمل لها يحمل وجهًا جديدًا من أوجه الفن الممزوج بالمنفعة.

وكان «جاودى» نفسه يقول: «ليس المهم أن تقدم مشروعًآ معماريًا عظيمًا، ولكن المهم أيضًا أن يكون هذا المشروع قابلا للتنفيذ، مع الأخذ فى الاعتبار بأن يكون هذا المشروع قابلا للتنفيذ من جهة الإمكانيات الاقتصادية للفرد أو الدولة على المدى القريب أو البعيد».

ويذكر النقاد أن «جاودى» كان يأخذ فى اعتباره داخل أعماله الخالدة الاستعانة بفن المنمنمات الشرقية التى تهتم كثيرًا بالتفاصيل، وكانت الزخرفة عنده بمثابة الرداء الذى يحدّد هوية الشكل ومميزاته، وقد استخدم «جاودى» جميع الحِرف والطُرق الفنية التى يعرفها وأبدع فيها، وجعلها واسطة طيعة للتعبير عن خيالاته وطموحاته وأفكاره، فقد كان من مهاراته الخارقة إجادته صناعة الخزف وصهر الحديد والنجارة والفسيفساء والزجاج المعشق وتوظيف الأقواس، وأن الثراء الفنى الموجود فى أعماله والخصوبة والتنوع جعل النقاد والمؤرخين يضعونه فى مصاف رواد الحركة التشكيلية الحديثة.

ويذكر الناقد «ألكسندر جيرسى» أن «جاودى» كان رسامًا تجريديًا دون أن يشعر، وقد رحل لتظهر من بين مؤثراته الحركة التجريدية التى تزعمها الرسام «كاندنسكى»، كما كان لخيالاته الفانتازية تأثير كبير على الحركة السريالية، وقد عبّر عن ذلك صديقه الفنان السيريالى «سلفادور دالى» بقوله معجبًا بأعماله «إن جاودى هو رائد السيريالية فى العمارة».. وقد صدر كتاب فى عام 2002 تحت عنوان «جاودى ودالى» يضع مقارنة وثيقة بين أعمال «جاودى» و«دالى»، تُظهر كيف تأثر سلفادور دالى بخيالات أنتونيو جاودى وأفكاره. هذا بينما كان تجاهله عظيمًا فى بداياته حتى أن الناقد المعمارى العالمى «نيكولاس بيفسنر» تجاهله كلية عام 1936 من كتابه «رواد التصميمات الحديثة»، ولم يتألق اسم «جاودى» إلا بعد عام 1962، وفى حين لم يكن «جاودى» محظوظا فى الأشخاص المحيطين به، فقد وجد زبائنه الدائمين ــ من أمثال رجل الأعمال بوسيبى جويل ــ الذين لم يتدخلوا إطلاقا فى رؤية الفنان الفنية المعمارية وكانوا مستعدين للإنفاق بسخاء وبلا تذمر رغم اعتياد «جاودى» على تغيير تصميماته مرات عديدة، والكثير من أعماله لم تستكمل أبدًا، وفى آخر أيامه أصبح استبداديًا صارمًا لكن تيارًا داخل الكنيسة طلب من البابا تطويبه قديسًا..

وفى عام 2002 احتفلت كاتالونيا وإسبانيا كلها بمرور 150 عامًا على ولادة المعمارى العبقرى، لتُسمى تلك السنة بـ «السنة العالمية لجاودى».. الفنان والمعمارى الذى شغله ضوء الشمس وتأثيراته المتباينة فى حركته الدائبة طوال النهار على مبانيه ومنشآته، محاولا أن يخلق العلاقة ما بين الضوء والظلال لتنعكس من خلال جدرانه وسقوفه ونوافذه.. «جاودى» الذى لم يقو على السير طويلا، فوقع وسط الطريق ورفض جميع سائقى التاكسى فى مرورهم به أن يلتقطوه، لمظهره المزرى الذى ينبئ عن جيوب شاغرة، وفى نهاية المطاف نقله المارة إلى مستشفى متواضع فى برشلونة، حيث لم يتعرف عليه أحد من الممرضين حتى اليوم الثالث، عندما أتى الأصدقاء محاولين تحريكه إلى مستشفى يليق به، لكنه أبى مرددًا: «إنى أنتمى إلى صفوف الفقراء»، وبعدها بثلاثة أيام فى 10 يونيو 1926 رحل المعمارى والمهندس والنحات والمصوِّر العالمى أنتونيو جاودى الذى عاش نباتيًا لم يتناول اللحم فى حياته التى أمضى نصفها متجولا على ظهر حمار..!


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: